حاورها - علي حسين (السعلي):
نستضيف في هذا العدد الأكاديمية والناقدة الدكتورة: رانية شريف العرضاوي، أستاذ الأدب والنقد المشارك بقسم اللغة العربية وآدابها، ومستشار مركز تطوير التعلم الجامعي بجامعة الملك عبدالعزيز، لتتحدث عن الفلسفة وعوالم الثقافة والأدب.. وهي حاصلة على الماجستير من جامعة الملك عبدالعزيز في النقد الأدبي، والدكتوراه من جامعة دَرَمDurham ببريطانيا في فلسفة النقد المقارن، وهي باحثة في قضايا الفكر والإبداع والفلسفة، وعضو مؤسس جمعية الفلسفة السعودية، وعضو مجلس إدارة جمعية الأدب المقارن السعودية، لها تسع دراسات وسبعة كتب منفردة ومشترَكة، وأكثر من 50 مشاركة محلية ودولية في مؤتمرات وملتقيات حول الفلسفة والثقافة والأدب.. تتحدث في هذا الحوار عن العديد من الرؤى والتطلعات الفكرية والثقافية.
* هل الحب ثقافة أم مشاعر؟
لا يمكن حدّ (الحب) بسؤال بين خيارين من وجهة نظري، فأنت تسأل عن أجمل ما أعطى الخالق للإنسان، شيء أكبر حتى من وصفه بكلمة، هو عالم واسع شاسع باتساع سماء الروح وعمق الإنسانية وطموح العقل وقوة المعرفة، وتأطيره في سؤال حاد بطرفين فيه شيء من التضييق الذي يتعالى عليه (الحب)، وهو بعيد عن تلك التصورات المرهونة بخيال الأدب وتفانين الرواة، هو أعظم من عادات وتقاليد تعاورت النفوس على تصديقها، أو أوهام تكلفتها العقول لترتاح من لوثات الخيبة أو سوء التصرف. إنه شيء لا يمكن الإمساك به مثل طرف الزمن ورائحة العطر، وهو في أجمل تمثلاته يتجلى في المودة وللرحمة، وأعتقد أن الرحمة من أسمى القيم التي تحتضن الحب وتجعله مصروفاً لكل شيء حولنا، كل شيء بلا استثناء.
نحن متى ما رحمنا – بداية - أنفسنا سنغدو قادرين على بث الحب والرحمة والوفاء للكون بتفاصيله الصغيرة وموجوداته العظيمة. الحب وطن الإنسان الأول الذي لم يستطع أن يفارقه مذ أن عرف سبب وجوده واكتشف شعلة الحياة في عينيه.
* الأجهزة الذكية علَّمت الأصابع «الثرثرة» فمتى نعيد لأسماعنا الرصانة والأدب الرفيع؟
لم تخسر أسماعنا الكثير عندما تعلمت أن الثرثرة تفضح الغث من السمين، هي ربما - وبنظرة فيها شيء من التفاؤل - تعلمت أن البقاء للأجود مهما علا صراخ الزيف. فقط شيء من التريث، نحتاج إلى التباطؤ بعض الشيء عندما نتلقى ظاهرة أدبية تتلبس (الصرعة) اللحظية، ولا ننجر وراءها مهما انسعرت بها العيون، وتلهفت الأفواه الكبيرة على مجّها واجترارها.
المتلقي اليوم يُفترض أنه أذكى مما يعتقد الفارغون، وإن بدت بعض الشرائح ملهوفة على السريع واللافت المثير للجدل. التباطؤ والتريث قد يكون معيناً للوصول إلى الإنصات من جديد، ومن ثم التجويد في المنتج الثقافي عامة.
* الأدب همسة روح تصل الغمام لتنتظر الهطول، فهل الإمساك به كالقابض على جمرة؟
كتبت مرة في (مكونات الإبداع) أن المبدع يمر بحالة تشبه حالة الوضع، فهذا النص أو العمل الإبداعي وليد في داخل روحه وجسده وعقله، ولا بد أن يرى النور، ويراه النور أيضاً، وإلا بقي حبيساً مكلوماً بجدار الصمت والتخفي الذي يفتك به رويداً رويداً.
ولعل الصورة الذهنية لعذابات المبدع عند ولادة نصه - وإن كان فيها شيء من الدراما اللذيذة - صورة ليست بعيدة عن الواقع، فالمعنى يعتمل داخله وبحاجة لأن يخرج لمتلقٍّ هو الآخر بحاجة إلى تلقفه ومساس جوهره. هي عملية خصيبة تضجّ بحيوية الإنسان وجماله الفني.
* انفتاح النوافذ والبوابات هزم شروط النشر.. مَنْ يضبط الإيقاع المنفلت؟ وكيف؟
هنا رش ملح على الجرح! لكن، العمل المؤسسي المخطَّط له باستراتيجية عادلة خير معين لتجاوز أزمة النشر، وربما ما تقدمه هيئة الأدب والنشر والترجمة خير مثال على ذلك. رأينا في الآونة الأخيرة التعاون الرائع مع دور النشر ومساندتها من الهيئة، والنتاج الثمين الذي خرج للقارئ السعودي والعربي بل والعالمي. ولا ننسى أن دور النشر هي طرف في حصول أزمة النشر عالمياً، العصر له متطلبات مختلفة ولا بد من مواكبتها بذكاء، ليبقى للعلم والورق والقارئ هيبته، وفي الوقت ذات يبقى للناشر والكاتب حقه.
لقد عانى المؤلف كثيراً واستُغلّ لسنوات طويلة من قبل بعض دور النشر التي لم يكن لها هم سوى الربح السريع، وعانى المتلقي من رديء بضاعة وضعف توزيع أيضاً. فالمسألة لا تتحملها جهة وحدها دون أخرى، كلنا مسؤول عن الأزمة وكلنا عليه مسؤولية التخفيف من وطأتها، إنها أمانة الإنسان الأولى: الكلمة ونشرها، والوعي والتوعية بذلك مطلب رئيس مع عمل جاد منظّم.
* التفكير الناقد صار جزءاً من المقرر الدراسي.. أي أثر ننتظر؟
ننتظر - بإذن الله - عقولاً واعية لا تنجرّ وراء طبول جوفاء أو تطرّف فكري، وهي ذات العقول التي نرجو أن تكون واعية بما تتلقى دون أن تخسر هويتها الوطنية والدينية المعتدلة، العقل الناقد يبني حصانة لنفسه وأسرته ومجتمعه، وهو بالتالي مسؤول قادر على التغيير والتطوير والانفتاح وتقبُّل الآخر مع ثبات الانتماء الوطني. التفكير الناقد يعطي أدوات الوعي والتمييز والإنتاج والتوازن، وهذا ما يُنتظر من أبنائنا وبناتنا جيل الرؤية المباركة، رؤية 2030.
* من يسيطر عليكِ لحظة الكتابة؟ الرقيب .. الناقد .. أم جمهور المعجبين .. ولماذا؟
هل تصدقني لو قلت لك: لا أحد! القلم ينجر وحده وراء سيل الأفكار، يلهث كفرس أبيض في سباق محموم وسط قطيع من السواد. أزعم دوماً أن قلمي حرّ إلا منه هو وحده. لهذا لست جيدة في الكتابة للمناسبات الاجتماعية المكرورة، أو مقطوعات المجاملة الباردة، فقلمي لا يكتب إلا إذا نبضت الفكرة في داخله واختمرت ثم يشهق بها مداداً. وأيضاً، كم من شهقات مكتومة لم ينجح حتى الآن في سكبها على الورق، فلا زالت غير مكتملة النضج، وهو قلم يحب التريث كثيراً، لذلك أنا مرهقة من عصر السرعة الذي يصيب الكاتب بلوثة العجلة الشيطانية.
* في ظل التباين بين نقيضين القديم والحداثي، كيف نستطيع الإمساك بطرفيهما؟
في فهمي للحداثي اليوم لا أراه يتناقض مع القديم، ولا أدري هل القديم الذي في ذهنك هو القديم الذي في ذهني؟ القديم عندي هو التراث، هو الأصل، وتقادمه ليس إلا بحساب الروزنامة، مما يعني أنه عندي متجدد قابل للمعاصرة والحياة الجديدة دوماً، وهو أسّ التحديث وجميل معناها.
* التسامح مع الآخر اختلاف، والتضاد بينهما تصالح، متى نمسك خطام المحبة ونسرحه بالجمال؟
أعتقد أن التسامح هو المصالحة، والتضاد هو الاختلاف وليس العكس، فنحن نختلف لكننا نتسامح بتقبلنا للآخر المختلف دون ممارسة إقصائية له. ولعل لغة الفن هي أجمل حبل يشد وتد المحبة بين الشعوب المختلفة، وهو كذلك بشتى تصنيفاته وأنواعه ابتداء من فن الطهي إلى الفنون الأدائية لغة مشتركة تفهمها كل الاختلافات وتحسن التعامل معها. وسأضرب لك مثلاً بسيطاً، شخصياً لا أزور بلداً دون أن أمر على محل البهارات فيه، وأبدأ بالبحث عن أجود الأنواع وطرق تصنيعها واستعمالاتها المختلفة، ثمّ أستعمل هذه البهارات (الأخرى) مع وصفاتنا السعودية الأصيلة، ولا تتخيل جمال ما ينتج عن ذلك. هذه اللحظة عندي هي تسامحية بمعنى الكلمة بل وتتجاوز أوتار الاختلاف لتصنع في آخر الأمر منتجاً متناغماً في داخله بين أرواح مختلفة، أثمرت في أرضها وروحها طعماً ورائحة، واحتضنها طعامي السعودي الأصيل. وقِس على ذلك ما شئت من جمال التواصل الفني مع الآخر المختلف.
* متى نرى الثقافة غير مقبوض عليها بسلاسل الرقيب؟
أحقاً هي كذلك؟ الثقافة أكثر الأمور حرية وحيوية في الحياة، ولم تخضع يوماً لرقيب خضوعاً عميقاً على الأقل، إنها صناعة اللحظة الإنسانية، وهي صناعة فريدة تظل في قلق التجدد والأصالة معاً. هي فقط ناعمة تحسن التناغم مع متطلبات العصر، ولكنها في عمقها عتيدة تتمسّك بحريتها، وتفرض وجودها موظفة الاقتصاد والسياسة والمجتمع، هنالك من يعتاش بالثقافة ويبني اقتصاداً قوياً عليها. أظنها هي الرقيب الذي يحرك كثيراً من مداد الفكر. المسألة هنا تبادلية وليست قطعية كما تعلم.
* هل النهل لفلذات أكبادنا من الشارع ثقافة؟ وكيف ننمي فيهم لحظة الإبداع؟
هنالك ثقافة الشارع التي تربي في النشء الشهامة واحترام المرأة واحترام المجتمع، والكرم والتعاون، فلماذا نتهم الشارع دوماً بإنتاج ثقافة (دون)؟ لو عدنا قليلاً إلى الوراء، سنجد (الحارة) خير مكان تلقى فيه آباؤنا أجمل معاني الوطنية والإنسانية، إن الشارع هو نحن، هو ما نقدمه نحن لأبنائنا، بكل ما فيه من سلوكيات وأفكار تعبر عنا نحن وعن عاداتنا وتقاليدنا وأفكارنا. ثقافة الشاعر السعودي مثلاً، انظر إلى لطف شبابنا في التعامل مع كبار السن، أو جمال بناتنا في حسن التصرف مع الأطفال، وجرب أن تسير في شوارعنا واطلب مساعدة ما من أي أحد، ستجد السعودي والمقيم يقدم لك مصافحة العون دون تردد.
أذكر جيداً خطواتي في الشارع من المدرسة إلى البيت في حي الشرفية بجدة، أذكر وجوه الباعة الطيبة، وابتسامة حارس العمارة وسلامه، ولعب الكرة مع أبناء وبنات الجيران، الشارع هو ما تنتجه كل أسرة، بما تزرعه في أبنائها. بطبيعة الحال هنالك لوحات سلبية قائمة لكنها ليست عامة. والمشي في الشارع من أكثر الأمور التي فتحت آفاقاً لأفكار إبداعية عظيمة، هنالك المشاؤون الفلاسفة، ومسرح الشارع الذي أعده من أجمل أنواع المسارح وأكثرها حرية، وفنون الرسم الجرافيكي على جدران الشوارع وأسوار المباني.
ثقافة الشارع يمكن جداً أن تكون منهلاً فنياً من يد بائع في (كشك) إلى فرشاة رسام يخفي صدع الزمن على سور الحديقة بلون بهيج من نور الشمس.
* هل النقّاد اليوم للأدب باتوا موضوعيين أم شللين وينعكس ذلك على المبدعين الحقيقيين: شعراء، قصاص وروائيين؟
هذا السؤال المتكرر من الصحافة لا أثق في بياضه، وأقول ذلك مبتسمة بصفرة هذه المرة، فالنقد والنقاد أكثر مادة شهية مثيرة تستفز الاتهام في الصحافة عبر عصور طويلة، تُصنع معارك وهمية، وخلافات غير واقعية بين الناقد والمبدع، رغم أن العلاقة بينهما صحية جداً، فالناقد يبرز جمالية الإبداع الذي أنتجه المبدع، ولا يشترط أن يقضي بحكم تصويبي عليه. إنه الحكم الجمالي الذي يتحمل الناقد فيه حريته ويبرز ثقافته ومن ثم ينشر الوعي، ويرتقي بالذائقة وبالإبداع، وهو حر فيما يختار الكتابة أو الحديث عنه.
أما مسألة التقسيم الشللي وغيره أعتقد أنها أمور تتجاوزها المرحلة الراهنة التي تبوح كل نجاحاتها بتجاوز ذلك. اتركوا النقاد مع المبدعين ليعيشوا بسلام جمال الحراك الثقافي القائم.
* كيف ترين الإبداع الثقافي والأدبي لدى الشباب، ولماذا النقد بعيد عن ذلك، فقط التكريس جلّه حول الأسماء المتداولة إعلامياً؟
شبابنا في سَورة أدبية يافعة، وبطبيعة الحال بحاجة لمزيد من النضج الذي سوف يتأتى لهم مع الوقت والخبرة، وهذا لا ينفي جودة الكثير من المنتج الإبداعي، بل ويبشر ببروز المزيد منهم. أما عن بعد النقد عنهم فهذا لا ينطبق بشكل عام، هنالك ندوات وحوارات ودراسات تغطي الإبداع الشبابي بقوة، ولكن لا نطلب من النقد أن يصفق لكل منتج، فهذا لن يجود العمل بل سيقع في أزمة (وهم الإبداع)، ومن ثم سنواجه هنا أعمالاً غير أصيلة قد تأتي وتذهب دون بصمة أدبية حقيقية.
النقد مسؤول عن تجويد المنتج، الأدب الشاب، والأدب اليافع بحاجة للنقد ليتطور أكثر وأكثر. فكل عمل بطبيعة الحال يبدأ خطوة خطوة، ثم يكبر ويقوى ويشتد عوده. نحن نكمل بعضنا بعضاً في آخر الأمر.