يُعتبر الفيلسوف اليوناني «أرسطوطاليس» (ت322 قبل الميلاد) مؤسس كثير من العلوم الإنسانية والطبيعية، وعلى رأسها علم المنطق، وأسهم إسهامات كبرى في العلوم السياسية والأخلاق والبلاغة والجدل وغيرها، وذلك لأفكاره التي وضعها في حقول تلك العلوم وآثاره التي لا تزال تُبعث بين ظهراني العلوم الإنسانية حتى يومنا هذا، ولو طالعنا لتاريخ كثير من العلوم لوجدنا أقوال أرسطو وأفكاره تتصدر تاريخها.
كان أرسطو تلميذ أفلاطون ومعلّم الإسكندر الأكبر، ولُقب بالمعلم الأول لأثره العلمي والفكري على من أتى بعده ولأفكاره التي تُتداول حتى الآن في عددٍ من حقول العلوم المختلفة ولا تزال محل استدلال وجدل ونقاش لا ينقطع.
اهتم أرسطو من بين اهتماماته الكثيرة بالمنطق والبلاغة والحِجاج والجدل والإقناع والخطابة، وكتاب الخطابة أو «ريطوريقا» هو أحد آثار «أرسطوطاليس» الخالدة ، دخل الكتاب إلى التراث العربي قرابة القرن الثالث الهجري، كما يشير لذلك ابن النديم في كتابه الفهرست.
نتناول في هذا المقال نظرة في الفصل الثاني من مقدمة كتاب «الخطابة» أو»فن الخطابة» -في قول- للمعلم الأول «أرسطوطاليس» بشيء من القراءة والتحليل والعرض، وهذا الفصل مهم في موضوع الخطابة ونظرية الحِجاج عند أرسطو لأسباب منها تقديمه تعريفًا واضحًا للخطابة، وتناوله للتصديقات (الحجج) ودراستها وذِكر أنواعها، وتسليط الضوء على علاقة الخطابة بالجدل وعلم الأخلاق، ثم تحليله للمثل والضمير وغيرها من العناصر الخطابية والبلاغية الحجاجية.
وضع أرسطو في كتابه «فن الخطابة» تعريفًا للخطابة في بداية هذا الفصل بقوله إن الخطابة هي: «الكشف عن الطرق الممكنة للإقناع في أي موضوع كان». وهو بذلك يعرّف أو يحدّ الخطابة بكونها طرقًا إقناعية بشرط أن تكون ممكنة، وذلك في مواضيع معينة مختلفة. وهذا التعريف يتماهى مع مبحث الحِجاج الذي لا يُعنى بالأدلة والبراهين في الأمور المحسومة، بل يُعنى بالحجج ومحاولات الإقناع والإذعان للمتكلم.
ويتناول أرسطو أيضًا ما سماه «التصديقات» والتصديقات هي الحجج، وسميت بذلك لأنها ما يُصدَّق به القول، ويقسّم أرسطو التصديقات أو الحجج في كتابه إلى قسمين: أولها: التصديقات غير الصناعية؛ ويقول أرسطو إنها تلك التي لم نأتِ نحن بها، بل كانت موجودة من قبل، كالشهود، والاعترافات تحت الضغط، والصكوك وما شابهها.
وثانيها: التصديقات الصناعية؛ ويقول عنها إنها كل ما يمكن إعداده بالحيلة وبمجهودنا واجتهادنا.
ويضيف أرسطو بأن ما علينا إلا الاستفادة من التصديقات غير الصناعية (الموجودة مسبقًا)، بينما التصديقات الصناعية يجب علينا أن نكتشفها بأنفسنا وبقدرتنا الذاتية.
ويقسّم أرسطو التصديقات (الحجج) بشكل عام إلى ثلاثة أقسام:
1- ما يتعلق بأخلاق القائل، وهو ما يسمى بـ«الإيتوس».
2- ما يتعلق بتصيير السامع في حالة نفسية ما، وهو ما يسمى بـ «الباتوس».
3- ما يتعلق بالقول نفسه من حيث هو يثبت أو يبدو أنه يثبت، وهو ما يسمى بـ«اللوغوس».
ويضيف أرسطو متناولًا هذه الأنواع الثلاثة من التصديقات/الحجج بقوله: وليس صحيحًا أن الطيبة الشخصية (الإيتوس) التي يكشف عنها المتكلم لا تُسهم بشيء في قدرته على الإقناع، بل بالعكس، ينبغي أن يُعد خُلُقه أقوى عناصر الإقناع لديه. ويضيف: ثم إن الاقتناع يمكن أن يتم بواسطة السامعين إذا كانت الخطبة مثيرة لمشاعرهم، فأحكامنا حين نكون مسرورين ودودين ليست هي أحكامنا حين نكون مغمومين ومعادين (الباتوس). ويرى أرسطو أن الإقناع يحدث من الكلام نفسه، إذا أثبتنا حقيقة أو شبه حقيقة بواسطة حجج مقنعة مناسبة للحالة المطلوبة (اللوغوس).
ويضع أرسطو بعد ذلك ما يمكن أن نسميها شروطًا يجب توافرها في المتكلم أو الخطيب الذي يملك هذه الوسائل الثلاثة لإحداث الإقناع، وهذه الشروط هي:
الأول: أن يكون قادرًا على التفكير المنطقي. والثاني: أن يكون قادرًا على فهم الخُلُق الإنساني والخير في أشكالهما المختلفة. أما الثالث فهو: أن يفهم الانفعالات، بمعنى أن يسميها ويصفها ويعرف أسبابها والطرق التي بها تُستثار لدى المستمع.
ويرى أرسطو أن الخطابة فرع من الجدل، وأيضًا فرع من علم الأخلاق والذي يمكن أن يُدعى بحق علم السياسة، وهذا هو السبب في أن الخطابة قد تدخل في شكل السياسة. وهو بذلك يفرّع الخطابة من الجدل، ويقول إنها -أي الخطابة- فرع من علم الأخلاق أيضًا والذي يصفه بعلم السياسة، فالخطابة أشبه ما تكون بالسياسة. والخطابة والجدل لا يبحثان في طبيعة موضوع معين بالذات، بل هما قوتان لإنتاج الحجج، وهذا القول يشرح العلاقة المتبادلة بينهما.
وكما يرى أرسطو أن للجدل نوعين من الحجاج هما: الاستقراء والقياس الحقيقي أو الظاهري؛ يرى أن الأمر كذلك بالنسبة للخطابة، لأن المثل: استقراء، والضمير: قياس ظاهر. وتبعًا لذلك فهو يسمي الضمير: القياس الخطابي، ويسمي المثل: استقراءً خطابيًا، وكل الخطباء ينتجون الاعتقاد باستخدام الأمثلة أو الضمائر، ولا شيء غيرها كحجج. وكل واحد من (الضمير و المثل) يجب أن يكون هو بعينه كل واحد من (القياس والاستقراء).
ويفرّق أرسطو بين الاستقراء والقياس وبين المثل والضميربقوله: عندما قلنا -ونحن نبحث في القياس والاستقراء- إن الدليل المستمد من الأحوال الجزئية على أن هذه هي القاعدة؛ يسمى في الجدل: استقراء، وفي الخطابة: مثلًا، ولكن إذا وضعنا أشياء معينة نتج عن ذلك شيء مختلف إما كليًا أو في معظم الأحوال.. فإن مثل هذا الاستنتاج يسمى في الجدل: قياسًا، وفي الخطابة: ضميرًا.
ثم يتناول أرسطو بعد ذلك مهمة الخطابة، فيعزو أرسطو مهمة الخطابة إلى البحث في الأمور التي نتشاور فيها، والتي ليس لدينا عنها قواعد منظمة، وذلك في حضرة مستمعين عاجزين عن اتخاذ نظرة عامة عن أمرٍ ذي درجات عديدة، أو عن متابعة سلسلة طويلة من الحجج.
لكنه يشير إلى أن هذا التشاور في الأمور يسير في اتجاهين:
- الأول: هو تلك الأمور التي لا يمكن في الماضي أو الحاضر أو المستقبل أن تكون بخلاف ماهي، وهذه لا أحد يتشاور فيها، لأنه لا جدوى من ذلك.
- والثاني: هو ما يُبرهن عليه من قبل بالقياس أو مما لم يُبرهن ولكن في حاجة إلى برهان، فمن الممكن عندئذٍ استخراج نتائج واستدلالات.
بعد ذلك يذكر أرسطو علاقة المثل بالاستقراء مذكِّرًا بقوله من قبل: إن المثل نوع من الاستقراء، وهو ليس علاقة جزء إلى كل، ولا كل إلى جزء، ولا كل إلى كل، بل هو علاقة جزء إلى جزء، وشبيه إلى شبيه؛ حيث يندرجان تحت جنس واحد مع أن أحدهما معروف أكثر من الآخر، ولتوضيح الأمر: يمثّل أرسطو لذلك بـقوله: إنه لإثبات أن «ديونوسيوس» يزيغ إلى الطغيان، لأنه يطلب حرسًا خاصًا له، يمكن أن نقول أن «بايسستراتوس» قبله و»ثياجنيس الميغاري» فَعَلَا مثل ذلك، وحينما حَصَلَا على ما طَلَبَا، جَعَلا نفسيهما طاغيتين. فكل الطغاة الآخرون يصلحون مثلًا على «ديونوسيوس»، وإن كنا لا نعرف السبب في طلبه حرسًا خاصًا له. وهكذا نستنتج قضية عامة تفيد أن كل من يميل إلى الطغيان يطلب حرسًا خاصًا.
هذا ما تناوله المعلم الأول «أرسطوطاليس» في الفصل الثاني من مقدمة كتابه الموسوم بالخطابة، وهذه هي العناصر والمحاور التي تناولها وشرحها لنا في أثره الكبير الخالد. ولا شك أن أرسطو قد سبق عصره بآرائه الرائدة في مجال الحجاج والإقناع، حيث يعتبر أرسطو البلاغة فنًا خطابيًا بامتياز، إذ يستخدم أدوات حجاجية واستدلالية ومنطقية للتأثير في الآخر، وإقناعه ذهنيًا ووجدانيًا. ويُبرز ذلك الحِجاج عبر مجموعة من الوسائل الأدائية، فإما أن يتحقق عبر «اللوغوس» الذي يعني الكلام والحجج والأدلة، ويظهر ذلك جليًا في نسق الرسالة التواصلية نفسها، وإما أن يتحقق عبر «الإيتوس» الذي يتمثَّل في مجموعة من القيم الأخلاقية والفضائل العليا التي ينبغي أن يتحلى بها الخطيب أو البلاغي المتكلم، وإما أن يتجسد في «الباتوس» الذي يتعلق بالمخاطَب، ويكون في شكل أهواء وانفعالات أو ما يسمى في الثقافة العربية ثنائية الترغيب والترهيب.
وعلى أية حال انبنت على آثار المعلم الأول أرسطو العديد من النظريات والاتجاهات من بعده، وكان لآرائه الأساس المتين في أي درس في مجالات الحِجاج والبلاغة والخطابة والإقناع والجدل.
** **
د. ساير الشمري - دكتوراه في الأدب والنقد