عندما نُقبل على قراءة عمل أدبي يصنف ضمن أدب السجون، يتبادر إلى أذهاننا سؤالٌ طبيعي: هل الكاتب نفسه سجين سابق؟ هل خاض تجربة الاعتقال المريرة؟ ولكننا سرعان ما نذكر أنفسنا بأننا نقرأ أدباً تخييلياً يمنح المبدع حق تجاوز حدود التجربة الشخصية. ورغم ذلك فإن أدب السجون يثير فينا تطلعاً خاصاً نحو الواقعية. ربما لأننا لا نريد أن نذرف دموعاً مجانية، أو لأن ما صنعته السجون من قهر وتعسف يتجاوز في وحشيته حدود الخيال، حتى لتبدو أقوى المخيلات الأدبية عاجزة عن استيعابه أو مجاراته.
تعد فكرة الأصالة الأدبية من الركائز الأساسية التي تحدد جودة النصوص وقدرتها على التأثير في القارئ. عندما يكتب الكاتب عن تجربة لم يعشها، يصبح التحدي أكبر في تقديم نص يقنع القارئ ويعبر عن الواقع بصدق، ومع ذلك لا يمكن أن يكون شرط الأصالة في أدب السجون مرهوناً بخوض الكاتب تجربة الاعتقال شخصياً، فالإبداع لا يحتاج دائماً إلى معاناة مباشرة كي ينقل الواقع بحرفية وتأثير، لقد أثبتت بعض التجارب الأدبية قدرة أصحابها على محاكاة السجون بكل تفاصيلها القاسية عبر أدوات بحثية دقيقة، مثل الاطلاع العميق على أدب السجون، وقراءة شهادات المعتقلين ومذكراتهم، وإجراء مقابلات تسلط الضوء على هذه التجارب الإنسانية الموجعة. كما يمكن للمواد الوثائقية أن توفر للكاتب نافذة على عالم السجون، ما يمنحه القدرة على صياغة نصوص نابضة بالحياة.
لا شك أن الكاتب عبد الرحمن سفر قد استعان بأساليب البحث والتحري لنقل صورة حية عن السجون التي لم يعايشها بشكل مباشر. ومع ذلك، يثير هذا الأمر تساؤلات حول مدى أصالة النصوص الأدبية التي تستند إلى استعارة تجارب الآخرين. أين تنتهي حدود التناص المسموح به، وأين تبدأ آفاق الإبداع الشخصي الذي يمنح العمل تفرده؟
تتجلى هذه الإشكالية بوضوح في رواية “أغلال عرفة” فالنص رغم جهوده في محاكاة أجواء السجن، يفتقر إلى العمق الذي تمنحه التجربة الحقيقية، ما دفع الكاتب إلى استلهام تفاصيل ملحوظة من أعمال سابقة. هذا الاعتماد المفرط على مرجعيات أدبية أخرى يجعل النص عرضة للمقارنة، مما قد يضعف تفرده.
تأخذنا رواية أغلال عرفة في رحلة إلى دهاليز النفس البشرية، مسلطة الضوء على مأساة شاب يُدعى عرفة، يعاني من اضطرابات نفسية حادة ناتجة عن صدمات الطفولة وعلاقته المتوترة مع والده القاسي. تبدأ الرواية برصد ماضي عرفة المثقل بالأحداث الصادمة، أبرزها مشهد اعتداء جنسي على أخيه، وهي الحادثة التي تترك أثراً بالغاً في تشكيل شخصيته، وتشكل محوراً مركزياً في الرواية، إذ تحاصر الذكريات المكبوتة عرفة، فتدفعه إلى إعادة صياغة الحقائق بما يتماشى مع أوهامه الخاصة، في محاولة منه للهروب من ألمه الداخلي.
يعيش عرفة في عزلة نفسية وواقعية، حيث يبتعد عن الآخرين ويغرق في عالم من الهلاوس والأوهام التي يصنعها للتعامل مع واقعه الممزق. هذا الاغتراب والتمرد على “الصراط المستقيم” الذي يمثله الأب المستبد يتحول إلى رفض شامل للسلطة بكافة أشكالها، وتتصاعد مأساة عرفة فيجد نفسه متورطاً في جريمة قتل امرأة مسنة، بعد أن أشعل النار في منزلها معتقداً أنه يخلصها من شبح يسكن جسدها ويعذبها، ما يكشف عن هشاشة حالته العقلية وعجزه عن التمييز بين الواقع والوهم.
تنتقد الرواية الخرافات والشعوذة التي تلجأ إليها المجتمعات التقليدية لعلاج الأمراض النفسية، مشيرة إلى غياب الحلول العلمية والدعم النفسي الذي يمكن أن ينقذ الأرواح المدمرة، كما تسلط الضوء على أثر الصدمات النفسية غير المعالجة في تدمير الفرد لنفسه ولمن حوله.
دخول عرفة إلى السجن لا يعود لأسباب أيديولوجية أو سياسية، بل هو نتيجة لانهيار نفسي متراكم تفاقم تحت وطأة الصدمات المتلاحقة. في السجن، تشتد وطأة معاناته النفسية والجسدية بفعل قسوة السجانين، لكنه لا يتطلع إلى الحرية كما هي العادة في أدب السجون، بل يظل مسجوناً داخل ذاته، حتى تنتهي رحلته بالانتحار، كهروب أخير من قيود الذنب والعار التي طاردته، وعجزه عن التوفيق بين ماضيه المثقل بالآلام وحاضره المشوه.
الرواية، إذن، ليست مجرد نقد للنظام الأسري والمجتمعي، بل هي استكشاف عميق لتداعيات غياب الدعم النفسي والاجتماعي، ما يجعلها دراسة لحالة الإنسان المنكسر بين واقعه المؤلم وذكرياته القاسية. ومع ذلك، يصعب تصنيفها ضمن أدب السجون بمعناه التقليدي، الذي يقوم على تقديم شهادة حية وتوثيق لحدث سياسي أو اجتماعي، ويتسم بتطلع السجين الدائم إلى الحرية، وهو ما لم يظهر في شخصية عرفة، الذي بدا مقتنعاً بجرمه وراضياً بمصيره المحتوم.
لا يمكن اعتبار كل رواية يدخل بطلها السجن عملاً ينتمي إلى أدب السجون. فمثلاً، رواية نساء المنكر لسمر المقرن، التي تصور معاناة بطلتها داخل السجن من قسوة ومهانة أكبر بكثير مما واجهه عرفة، لم تُصنف كأدب سجون بالمعنى التقليدي. الفرق الجوهري يكمن في طبيعة السجن كفضاء سردي: هل هو مكان للتأمل والتوثيق أو مجرد عنصر درامي يدعم حبكة العمل؟ في أغلال عرفة، السجن ليس سوى خلفية تزيد من تعرية النفس البشرية، دون أن يتحول إلى شهادة على قضية سياسية أو اجتماعية شاملة.
عند تناول رواية مثل أغلال عرفة، التي تسعى إلى معالجة قضايا نفسية واجتماعية معقدة ضمن إطار السجن، يبرز تساؤل حول كيفية تعامل النص مع هذا الفضاء الأدبي الذي يُعدّ من أكثر الأطر السردية تعقيداً. فالسجن ليس مجرد موقع مكاني، بل هو رمز مثقل بالدلالات، يرتبط بالحرية المفقودة والقمع، ويستلزم تناولاً متماسكاً ومبتكراً. وهنا، يصبح من الضروري الوقوف عند نقاط التناص التي تربط النص بأعمال أدبية أخرى مثل القوقعة لمصطفى خليفة وشرق المتوسط لعبد الرحمن منيف، وكيفية تأثيرها على أصالة النص وتميزه.
يُظهر النص في أغلال عرفة تأثراً واضحاً برواية القوقعة، حيث تتكرر بعض التفاصيل والأفكار المحورية. تتجلى هذه التأثيرات في مواضيع مثل الرشا داخل السجن، المعاناة من المتشددين دينياً، وشخصية السجان المتسلط، بالإضافة إلى شخصية السجين المعاق الذي يعتمد على بقية السجناء للعناية به. ومن أبرز المواضع التي تعكس هذا التناص، استخدام لب الخبز لصنع الشطرنج داخل السجن دون تقديم معالجة فنية جديدة.
نقرأ في أغلال عرفة:
إذا اكتشف أنّني أقضي جُلّ وقتي في ممارسة هوايتي الجديدة جعلني له عدوًاً دائماً.
أما في القوقعة لمصطفى خليفة، نقرأ:
“قمنا بتصنيع أحجار شطرنج من العجين، استغرق صنعها أكثر من عشرين يوماً، وكان “شطرنج” جميلاً....
كنا نكشط الأجزاء المحروقة من الخبز ونجمعها ومنها اللون الأسود، نضع قليلا من رب البندورة، نتركها عدة أيام لتتكثف وتجف ومنها اللون الأحمر، من لب الخبز العسكري نصنع العجين، ومن هذا العجين الممزوج بهذه الألوان كوّن نسيم أحجار شطرنج كل من رآها شهق، ثم أخذ يصيغ أشكالاً فنية مبتكرة آية في الجمال والذوق.”
حتى لو سلمنا بكون استخدام الشطرنج كوسيلة للتسلية في السجن مجرد صدفة، فإن العديد من التناقضات في رواية أغلال عرفة تضعف تماسك النص. على سبيل المثال، إذا كان السجن يُصور كقبر لا يرى فيه السجناء الشمس، كيف يمكن للبطل أن يترك العجين ليجف تحت أشعة الشمس في مقطع آخر يصف البطل السجن قائلاً:
الوقت هنا لعنةٌ، تَعاقُبٌ عبثيٌّ للنوم والاستيقاظ، وما بينهما يزداد تداخلاً باستمرارٍ أحيانًا أُغمض عينيّ، وفي ظنّي أنّ الليل لم ينتصف بعد، وما هي إلّا غفوةٌ حتّى يؤذّن الشيخ لصلاة الفجر بصوتٍ مرتفع فأصحو فزعًا وإنّما فزعي من حملات تفتيش الزنزانات العشوائيّة التي جعلتنا في حالة توتّرٍ دائمٍ، لا يتذكّر أحدنا متى نام ولا متى استيقظ. ونكاد لا نعي شيئًا حتّى يُقدّم السجانون الإفطار، فتنشط الأرواح، ويُغنّي بعضنا مواويل حانيةً أتخيّل خلالها أماكن بعيدة لم أسمع بها، ويتلو واحدٌ شعرًا مُرًّا زعاقًا، فيجاوبه آخر بأهازيج نقيّةٍ باردةٍ تُهدّئ نفوسَنا قليلًا.
على الجانب الآخر، في القوقعة، أمضى البطل أكثر من ثلاثة عشر عاماً في السجن، ما يبرر لجوءه إلى حيل كهذه لتمضية الوقت، أما عرفة الذي تشير الرواية إلى دخوله السجن أثناء الجائحة، فلم يمكث أكثر من عام أو عامين إضافة إلى ذلك، يعاني عرفة من اضطرابات نفسية وهلاوس تجعله يفضل العزلة والانغماس في عالمه الداخلي. هذه السمات تجعل التفكير في وسائل للتسلية خارج نطاق صراعاته الداخلية أمراً غير منطقي. حديثه مع كائن وهمي وتدهور حالته النفسية لا يتناسب مع سياق السجين الذي يسعى لصنع الشطرنج، وهو عمل قد يستغرق شهوراً لإنجازه مما تبقى من خبز يسد جوعهم.
بينما عانى أبطال القوقعة من صدمات شديدة العنف داخل السجن على مدار سنوات طويلة، ما أدى لفقدانهم توازنهم العقلي، فإن معاناة عرفة تبدو مختلفة تماماً. إذ إن حالته النفسية المضطربة لم تكن نتيجة للتعذيب داخل السجن، بل هي امتداد لتاريخ طويل من الصدمات النفسية التي تراكمت قبل دخوله السجن. هذا التباين يضعف مقارنة أغلال عرفة بأدب السجون التقليدي، ويجعلها أقرب إلى عمل نفسي اجتماعي يتناول تأثير الصدمات على الفرد، لكنه يفتقر إلى العمق السردي الذي يجعل تفاصيل السجن أكثر أصالة وتماسكاً.
أن يختار الكاتب تصوير التعذيب في السجن يجب أن يكون هناك دافع منطقي لهذا التعذيب، سواء كان أيديولوجياً أو سياسياً أو شخصياً. في أغلال عرفة، يعاني السجناء من التعذيب دون مبرر واضح، مما يجعل إساءة السجانين معاملتهم تبدو غير مبررة سوى بحجة رغبة السجان في إخضاع السجناء لأوامره وفرض الصلاة عليهم ووعظهم دينياً.
هذا الميل لإضافة عنصر التعذيب والسوداوية لإلحاق الرواية بأدب السجون، يبدو واضحاً عبر العديد من التناقضات فعلى سبيل المثال يتمتع السجين في الرواية بحقوق قد تبدو غريبة في ظل هذا التعسف والاستبداد، كأن يزوره محام يستمع لحديثه ويسجله، أو يحصل سجين آخر على أوراق وأقلام تمكنه من التدوين، أو تصل بعض الرسائل من الخارج، وفي نفس الوقت يعاني السجناء من سوء المعاملة والتنكيل، مع غياب أدنى شروط النظافة والرعاية الصحية في ظل جائحة تحصد أرواحهم.
تجاوزنا البوّابة الحديديّة إلى دهليز آخر طويل فتضاءلت الضوضاء، وقابلتنا على طرفي الممرّ غرف اللقاء المتلاصقة. وكانت بعضها مُواربة الأبواب فرأيت سجناء ينتظرون ممثّليهم القانونيّين. منهم من بدا ذاهلًا، ومنهم من غلبته دموعه، فضلاً عمّن اعتادوا الأمر.
هذا التناقض يجعل السجن في أغلال عرفة يبدو كفضاء غير متماسك بين تصويره كبيئة تعسفية قمعية وبين منح السجناء بعض الحريات التي تتناقض مع هذه الصورة. هذا التباين يُضعف البناء الدرامي ويُفقد النص مصداقيته كعمل ينتمي إلى أدب السجون.
قد نتغاضى عن استلهام الأفكار العامة ونعتبرها تناصاً أدبياً مشروعاً إذا كانت المعالجة الإبداعية تمنح النص بُعداً خاصاً ورؤية متفردة. ولكن أن تُستخدم نفس الكلمات والتعابير التي وردت في رواية شرق المتوسط لعبد الرحمن منيف، فهذا يثير إشكالية عميقة تتعلق بحدود الأصالة في النص الأدبي. في شرق المتوسط، يتحدث البطل بشغف عن تفاصيل الحياة خارج السجن، متسائلًا عن استمرارها رغم غيابه، وهو حديث يعكس العزلة القاسية التي فرضها عليه السجن. نقرأ:
“وأصمت. لكن العالم الخارجي يظل في رأسي كتلة نار راكضة. هل هذا العالم موجود فعلاً؟ هل ما زال الناس يذهبون إلى دور السينما يضحكون يجلسون في الحدائق والسيارات لا تزال تسير في الشوارع والباعة والمتاجر، والمتحف آه لشد ما أتلهف لأن أذهب إلى المتحف، والنساء.. النساء في المدينة الكبيرة آلاف، عشرات الآلاف، كل امرأة عالم من الجنون والدفء، هل تنقضي هذه السنون وأخرج مرة أخرى سبع سنين. ست سنين، ما أطولها: آلاف الأيام انتهت ولم نقض بعد نصف المدة التي حكمنا بها. هل تنتهي المدة؟ إلّا يستطيعون أن يلفقوا لنا تهمة جديدة ونقضي في السجن خمس سنين أخرى، إنهم قادرون على كل شيء! ألم يحكم على مجدي ثلاث سنوات جديدة قبل انتهاء المدة الأولى بيوم واحد؟ وعثمان..؟ تركوه في الخارج أسبوعاً واحداً، ثم جاء مرة أخرى يحمل على كتفيه ثماني سنين!
الشوارع المضاءة في الليل، الناس، الرجال والنساء، كل شيء في العالم الخارجي يسير دون خوف. والمطاعم يمكن للإنسان أن يدخل إلى أي مطعم، ويطلب كل ما يشتهي. يمكن أن يأكل في أية ساعة، حتى يشبع، وإذا لم يعجبه نوع من الأكل يصرخ طالباً نوعاً آخر، ويعطي النادل الحساب وفوقه قروش قليلة، ولكن إذا رأى صرصاراً فإن المطعم سوف يغلق في اليوم التالي: إن صرصاراً يكفي لأن يهدم سمعة أكبر المطاعم! والإنسان في العالم الخارجي يستطيع أن يذهب إلى المرحاض متى يشاء، لا أحد يمنعه، لا أحد يدق عليه الباب ويطلب منه أن يخرج فوراً، لا أحد يجبره على حمل القذارة بصفيحة ترتج بين يديه وتتسرب إلى ثيابه ويديه.. هل ما زال العالم الخارجي موجوداً بالفعل؟”
هذه التساؤلات تحمل بُعداً شعورياً متجذراً في تجربة السجن السياسي الطويل الذي عاشه البطل. وفي المقابل، نجد في أغلال عرفة تعبيرات مشابهة عندما يكتب البطل رسالة للمحامي يقول فيها:
في أغلب الأحيان أجلس إلى نفسي أتفكّر وأتأمّل، أحاول تقبّل حالي… لكنّ الحنين إلى العالم الخارجيّ سُرعان ما يُضيّق عليّ الخناق… هل هذا العالم حقاً موجود؟ هل ما زال الناس يجتمعون بأحبّتهم؟ يذهبون إلى السينما؟ يشاهدون المباريات؟ يستحمّون متى أرادوا؟ يسيرون في الشوارع المضاءة في الليل؟ يركضون على الشواطئ؟ يأكلون ما يشتهون؟ ويحتسون ما يريدون؟ من دون خوفٍ ولا وجلٍ؟ هل مازالوا يصرخون في وجه النادل إذا جاءهم بطعامٍ غير مُستوٍ أو وجدوا حشرةً في صحن من صحونهم؟
ماذا لو علموا أنّ مرحاضي فجوة صخريّة في ركن الغرفة، بجانب دكّة سريري؟ ماذا لو علموا أنّ الصرف الصحّي ضعيف، وأنّني أنام إلى جانب بركة سوداء من البراز والبول؟ كيف سينظرون إلى رجلٍ كلّما قاظ الجوّ عصفت بأنفه روائح نتنة مُقرفة؟ بأيّ عين سيرونني إذا عرفوا أنّ الحشرات حاضرةٌ باستمرارٍ في طعامي الكريه، وأنّني عندما أحكّ جلدي تتجمّع تحت ظفري طبقة ترابٍ خشنةٍ؟
التطابق في التساؤلات حول تفاصيل الحياة اليومية وطبيعتها خارج السجن يبدو لافتاً، استخدام تعبيرات مثل “هل هذا العالم موجود فعلاً؟” و”الشوارع المضاءة في الليل”، و”الصرصار الذي يهدم سمعة المطاعم”، وغيرها يجعل النص يبدو وكأنه استعارة شبه حرفية بدلاً من كونه معالجة جديدة تنطلق من تجربة الشخصية الفريدة. مما أفقد النص العمق الشعوري المرتبط بتجربة السجن الطويلة، كما هو الحال في شرق المتوسط. ففي حين قضى بطل شرق المتوسط سنوات طويلة يعاني القهر السياسي، كانت تجربة عرفة محدودة زمنياً ومرتبطة بصراعاته النفسية الداخلية، وليس بقهر السجن ذاته.
لم تكن العزلة والوحدة طارئة على عرفة؛ فقد عاش في سجن غرفته قبل أن يدخل السجن الحقيقي مما يجعل تعبيره عن الاشتياق لعالم صاخب لم يكن يوماً جزءًا منه محل تساؤل. كيف لرجل ألف الوحدة وأحبها أن يشعر فجأة بفقدان ضجيج لم يعهده؟
نقرأ في الرواية وصفاً لشكل حياته قبل دخوله السجن:
وما كنت قبل الجائحة أبغض الوحدة والعزلة بل أحبّذهما، لكنّ الحال تغيّر… صحيح أنّ حجرتي ليست ضيّقةً، لكنّها أيضًا ليست مبهجةً، فبرغم ألواح الخطوط العربيّة الفنّيّة التي زيّنت جدرانها، ومكتبتي المكتظّة، وأدوات عملي، والأشياء المبعثرة على مكتبي صارت الغرفة تبدو لي مُصمَتةً، خانقةً، مملّةً…
هذا الوصف يُظهر أن عزلة عرفة لم تكن مجرد حالة عابرة، بل كانت نمط حياة مفروضاً عليه، كما يعترف بأن نافذته لم تطل يوماً على العالم الخارجي، بل على زقاق ضيق لا يُتيح رؤية السماء أو استقبال ضوء الشمس.
وما عددتُه طوال حياتي سكينةً انقلب عندي صمتاً مقيتاً، كأنّ أذنيّ تفتقدان ضجيجَ الشارع وأصواتَ السيارات وزعيقَ الطيور…
إذن، كيف يتسق هذا الحنين المفاجئ إلى ضجيج العالم الخارجي مع شخص ظل طوال حياته في عزلة قسرية فرضها والده؟ هذا الانفصال بين طبيعة عرفة كشخصية منطوية وما يعبر عنه في السجن يكشف ضعفاً في الاتساق السردي، ويؤكد على افتقار النص لرؤية إبداعية مبتكرة تتجاوز التناص إلى تقديم معالجة أدبية مستقلة.
يمكن القول: إن رواية أغلال عرفة لعبد الرحمن سفر، رغم محاولتها تقديم سردية متشابكة تجمع بين القضايا النفسية والاجتماعية، لم تنجح في تحقيق الأصالة الكافية التي تتطلبها مواضيع حساسة مثل أدب السجون. افتقار النص إلى التفاصيل المبتكرة واستعانته المفرطة بتجارب أدبية سابقة جعله أقرب إلى محاكاة غير متقنة بدلًا من أن يكون عملاً منفرداً يحمل بصمة واضحة.
ما يميز الرواية هو تناولها للأغلال النفسية والاجتماعية والدينية التي تكبل الأفراد، وليس الأغلال السياسية أو الأيديولوجية التي تشكل لب أدب السجون التقليدي. هذه النقطة تضع الرواية في إطار مختلف، يجعلها أقرب إلى دراسة نفسية واجتماعية منها إلى شهادة عن تجربة الاعتقال أو القمع السياسي. ولو اختزلنا كل الفصول التي تصف تعنيف السجناء ومعاناتهم لما كان لها أي أثر في بنية الرواية التي تتناول أزمة البطل خارج السجن لا داخله.
** **
- رانيا منير