د.نادية هناوي
نشأت الرواية في العراق في العقد الثاني من القرن العشرين برواية (جلال خالد)1928 لمحمود أحمد السيد وقبلها كان قد كتب رواية (في سبيل الزواج) 1923 وسبقه سليمان فيضي فكتب (الرواية الإيقاظية) 1919 لكن مؤرّخي الأدب متفقون على أن (زينب) 1914 أول رواية عربية مع أن مؤلفها محمد حسين هيكل لم يكتب اسمه على غلاف الطبعة الأولى وصنِّف تأليفها كتاباً ولم يقل إنه أدبي بله أن يجنسها رواية علماً بأنها في قالبها السردي هي قصة طويلة.
واستمر النهج الواقaعي غالباً على الرواية العراقية التي ظهرت في الثلاثينات والأربعينات والخمسينات من القرن نفسه مثل (مجنونان) 1939 لعبد الحق فاضل و(الدكتور إبراهيم) 1939 و(اليد والأرض والماء) 1949 لذي النون أيوب و( ليلة الحياة) لحورية هاشم نوري و(من الجاني) 1954 لحربية محمد و(نادية)1957 لليلى عبد القادر. وفي نهاية الخمسينات مطلع الستينات ظهر قصاصون عراقيون خرجوا عن التقليدية في كتابة القصة والرواية وجربوا توظيف تيار الوعي وتقاناته كالتداعي الحر والمنتجة والوصف الموضوعي كما برز النهج الواقعي وباتجاه فردي. ولعل أهم تطور فني شهدته الرواية العراقية- كما يؤكد ذلك الناقد الدكتور شجاع العاني - هو توظيف أشكال الوعي، ومنها التعدد في الأصوات برواية غائب طعمة فرمان (النخلة والجيران) 1966 وتعدد الرؤى في رواية (خمسة أصوات)1967 للكاتب نفسه.
أما الرواية السعودية فارتبطت نشأتها بما شهدته المملكة من استقرار سياسي وانتعاش اقتصادي مع اتساع نطاق التعليم وازدياد عدد المبتعثين. ويذهب أغلب النقاد إلى أن رواية (التوأمان) 1930 لعبد القدوس الأنصاري هي الرائدة، ومن بعدها تأتي رواية محمد نور الجوهري (الانتقام) 1935 ورواية أحمد السباعي ( فكرة) 1948 ورواية محمد علي مغربي (البعث) 1948. وفي منتصف القرن العشرين صدرت لحامد دمنهوري روايتان (ثمن الضحية) 1959 (ومرت الأيام) 1963 ثم روايتي إبراهيم الناصر (ثقب في رداء الليل) و(سفينة الموتى) ومن بعده توالت الروايات لعبدالعزيز مشري وعبدالعزيز الصقعبي وغازي القصيبي ورجاء عالم وتركي الحمد وعبده خال. ومن أوائل الروائيات في السعودية هند باغفار في روايتها (البراءة المفقودة) 1972 ونزيهة كتبي في (صحوة الآلام) 1973 وهدى الرشيد (غدًا سيكون الخميس)1976 .
بيد أن الحديث عن رواية فنية ناضجة سواء في العراق أو المملكة العربية السعودية يعني الحديث عن تيار الحداثة تأثراً بموجات الأدب والفكر الغربية من جانب، وما كان يجري على الساحة العربية من تطورات اجتماعية ونزعات قومية وتيارات أيديولوجية من جانب آخر.
ولم تدخل الرواية السعودية مرحلة النضج الفني إلا حين تخلصت من الدوران في فلك ما هو تقليدي ومحافظ. ويحدد النقاد ميلاد الرواية السعودية في صورتها الناضجة فنياً وموضوعياً بما صدر بين الأعوام 1959 - 1979 من روايات وهي: (ثقب في رداء الليل) لإبراهيم ناصر و(أمير الحب) لمحمد زارع وغيرهما. ولا شك في أن رواية (شقة الحرية) 1994 لغازي القصيبي شكلت انعطافة فنية كبيرة ومهمة، تجعل منها فاتحة لعهد سردي جديد، سيتأكد مع الثلاثية الروائية لتركي الحمد وروايات عبده خال. وكان لتوظيف التراث الشعبي والملاحم والسير الذاتية والغيرية دور أيضاً في الدفع نحو تطوير الكتابة الروائية لاسيما من ناحية توظيف التقنيات السردية. وكان لظهور عدد من نقاد الرواية أن يساهم في توجيه الأنظار نحو عالم الرواية فازداد عدد كتّابها وتضاعفت أعداد الروايات بحسب الإحصاءات التي تشير إلى أن عدد الروايات كان لا يتجاوز المئة والعشرين ما بين 1930 - 1989 وقفز العدد خلال الأعوام من1990 إلى 2008 الى ما يقرب من أربع مئة رواية ويزيد.
ولعل أكثر الروائيات إنتاجاً في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي هي رجاء عالم بدءاً من روايتها (أربعة صفر) 1987 ومن بعدها تأتي رجاء الصانع وأميمة الخميس وليلى الجهني وصفية عنبر وفاطمة بنت السراة وقماشة العليان وصبا الحرز وبدرية البشر وغيرهن. ومن الروائيين نذكر مثلاً لا حصراً يوسف المحيميد وعبد الله ثابت وإبراهيم البادي وجبير المليحان وعبدالرحمن الدرعان وفهد الخليوي وعبدالغني الغامدي وعبدالله سعيد الجمعان ومحمد حسن علوان.
ولقد تطورت لغة السرد في الرواية السعودية عبر مراحلها الثلاث: التأسيسية والنضج والتحولات، وما يميز المرحلة الأخيرة أي التحولات هو ميلها إلى:
- التجريب واستثمار حركة السرد والعناية بالطاقة الإيحائية وبلغة فصيحة مرنة تبتعد عن التزويقات اللفظية.
- توظيف تقانات تيار الوعي كالمونولوجات والتداعي الحر والمونتاج الزماني والمونتاج المكاني.
- العناية بالوصف ومركزة الطبيعة واستقصاء تفاصيل المشهد باستعمال عين الكاميرا.
- غلبة الرواية المونوفونية على الرواية البوليفونية وبنزعة حوارية تصطرع فيها المتضادات وتتعارض العلاقات. وهذا ما يجعل السرد محملاً بطاقة درامية وأبعاد تأويلية أنثروبولوجية وأيديولوجية وسوسيولوجية متعددة.
- الانهماك بالتوظيف ما بعد الحداثي للتاريخ عبر إعادة صياغة وقائعه وسجلاته والتركيز على ما فيه من المهمش والمنسي.
- مركزة المدينة بوصفها موضوعاً سردياً أثيراً، يصفه الناقد محمد العباس بالكائن الذي يغري (على كتابة الرواية وهي الكفيلة بإنهاء ما يُعرف بالتاريخ الشفوي.. فالولادة الجديدة للرواية المحلية مدينية بامتياز وعليه فإن النصوص الروائية المتولدة لا تنفصل بحال عن تلك البنية الثقافية الأشمل وعمّا تؤمنه لها من فضاء ديمقراطي واختيار حداثي أشبه بالصيرورة الدائمة) لكن المدينة في ثلاثية تركي الحمد (الكراديب / الشميسي / العدامة) عبارة عن سجن كبير وفي روايته (أطياف الأزقة المهجورة) تغدو المدينة عدواً للإنسان في نظرته لذاته وإدراكه للآخرين من حوله. والرواية تسرد بضمير الغائب وبطلها هشام إبراهيم العابر الذي تكدره طقوس الزواج البالية وما اعتاد المجتمع عليه من تقاليد فيسعى إلى التغيير. ويكون لتوظيف الحوارات المونولوجية دور في جعل السرد مرآة عاكسة للعالم الداخلي لشخصية هشام الذي مقتته المدينة بسبب نشاطه السياسي فاقتيد إلى سجن الكراديب. وأحس أنه تائه في صحراء ثم تتوثق علاقته بالسجناء الآخرين ويتبادلون حوارات ذات طابع فكري كالحديث عن جبهة التحرير الوطني والحزب الشيوعي عام 1964 (العلة ليست في الأنظمة السياسية ولكنها فيمن يحاولون إثبات إخلاصهم لهذه الأنظمة بأي شكل من الأشكال وبعضهم ملفاته مفتوحة ودستة من الخيزران على ظهورهم وأقدامهم). ويشكل هشام مع مجموعة من السجناء السياسيين حلقة حزبية ويجري التحقيق معهم باستمرار. ويُظهر الكاتب من خلال شخصية هشام معرفة عميقة بالماركسية من قبيل موقفه من مستقبل الاشتراكية العلمية ومجتمع الوفرة والعدل التي يراها مجرد سفسطة وفلسفة عبث وشطحات صوفية.
وبسبب ما عاناه هشام من التعذيب والقهر يتأكد له أن الحرمان من الحرية شيء بغيض وبدونه كل شيء يتحول إلى عدمية رهيبة. ويرى نفسه شهيد المبادئ ويتمثّل بأبيات الحلاج. وعلى الرغم من أن السلطات تفرج عنه في حزيران 1972 لكن الشعور بالوحدة والاغتراب عن المدينة يبقى يلازمه. وتنتهي الرواية والبطل ضائع في أزقتها المهجورة فلا تجوبها سوى أطياف لا حياة فيها.