د. إبراهيم الشمسان أبو أوس
إن قدر لك أن ينالَك أو تنالَ كتاب (صُرُوف) فاقرأه؛ لأنه جدير بالقراءة، ولا يصرفنَّك غلافه ولا سوء خطّ عنوانه ولا صغر بنط حرف طباعته؛ فالكتاب كنز من المعارف والتجارب والذكريات العجيبة المدهشة.
قرأت الكتاب فضحكت في مواطن وبكيت في مواطن ودهشت في مواطن وتوقفت في أخرى. عرفت جوانب ما كنت أعرفها عن الزميل الصديق أ.د. إبراهيم بن مبارك بن موسى آل جوير، لقيته صدفة في القاهرة زائرًا لزملائي زملاءه مبتعثي جامعة محمد بن سعود الإسلامية، في ذلك اليوم رأيت شابًّا مرحًا مبتسمًا ضاحكًا، أدهشتني جراءته وانطلاقه في حديث متواصل، لا يحدثك حديث زمّيت لا تكاد تسمع إلا صوته بل يحدثك بصوته وإقباله وحركات جسده، قفز ذلك اليوم فجأة إلى وسط المجلس وجلس، وكان هذا جزءًا من بيانه لأمر ما عدّت أذكره. ومضت السنوات لقيته بعدها مدعوًّا معنا إلى مزرعة زميلنا أ.د. محمد بن حسن الزير، كان معه ذلك اليوم رزمة من ثلاثة كتب عن الاجتماع نشرت له حديثًا، وجلس على الأرض وشرع يكتب إهداءًا على كل كتاب وأدركت أن سيناله من ذلك نصَب فقلت له: لعلك تهدي الكتب من غير كتابة حتى نستفيد بها ويمكن أن نهديها بعد ذلك، فانشرح صدره لهذه الفكرة ووزع الكتب على الحاضرين شاكرين مقدرين، ولقيته مرة أخرى حين اشتركنا في ندوة زميلنا الدكتور عبدالعزيز بن محمد الزير رحمه الله. نحن في جامعتين وذوا تخصصين مختلفين فلم تتصل أسبابنا وإن لم تنفصل فابنته ابنتنا الدكتورة أسماء حفظهما الله ظلت همزة وصل بيننا.
سترى في هذا الكتاب جوانب مختلفة من شخصية هذا الرجل القدير، ترى الرجل المرح المزاح، وترى الرجل الملهم السريع البديهة التلقائي، وترى الجريء الذي يقتحم الصعاب، والصبور الذي لا يثنيه الملل، وأنعم الله عليه بذهن حاضر وبذاكرة حيّة، وامتلك من المهارات اللغوية ما أهله للتصدر في المحافل والمهرجانات والندوات غير هيّاب، وصاحبه التوفيق في كل اتجاه اتجهه، أنعم الله عليه بحسن الخُلُق، وبقدرة عجيبة على تأليف القلوب واكتساب محبة من يلقاه، يتمثل في تصرفه تربية بيئته الإسلامية فيتلقاها الآخرون بقبول حسن. وتجد من جوانب إنسانيته وحسن رعايته من حوله ما يسر الخاطر ويبهج النفس، حين ابتعث للدراسة لم ينكفئ عليها ويحبس نفسه فيها بل كان إيجابيّا فعّالًا وكأنه مبتعث لخدمة الإسلام ونشره وتعليم العربية والإسهام في فتح المراكز وبناء المدارس والمساجد، ألقى المحاضرات وخطب في الجمع، وأمّ السنّة والشيعة، فكان لتلك الميزات أثرها في اعتماد الدولة عليه في الداخل أو الخارج.
من المواقف المضحكة ما رواه أيّام التلمذة المبكرة، قال «ومن المواقف الطريفة أنه كان يدرسنا أستاذ من مصر سريع الغضب، كان يشرح وكنت أجلس في الصف الأمامي حسب الترتيب الهجائي لأسمائنا، فإبراهيم يكون في الصف الأول، فقال الأستاذ ضاربًا مثالًا: (زَوَّجْتُك ابنتي)، فقلت: (قَبِلْت)، فثار وصرخ بي: (اخرج من الفصل!) فخرجت بهدوء، فلم يعجبه أني ما رددت عليه، ظن أني اعتبرتها سخرية أو سلبيّة كوني خرجت هادئًا، فأخذ بيدي بقوة نازلًا بي على الدرجات بسرعة إلى مكتب العميد، فتح المكتب بلا استئذان وهو غضبان، وكان العميد معالي الشيخ (عبد الله التركيّ) يتحدث مع أستاذنا القدير فضيلة الشيخ (محمد الراوي)، رحمه الله، فلما رأى الدكتور هذا ممسكًا بيدي بغضب وعصبية، ولاحظ وجهي ممتلئًا ضحكًا وأتمالك نفسي بصعوبة وابتسامتي واضحة، قال له فضيلة العميد: (ما بك يا شيخ؟) قال: (هذا الولد غير مؤدب! هذا سيئ! هذا كذا! هذا كذا!)، استغرب معالي الدكتور وقال: (ما بك يا إبراهيم؟) قلت: (أبدًا ليس إلا سلامتكم، أنا تشرفت بأن شيخي زوجني ابنته، والحمد لله هذا فضل من الله)، فانتفض أستاذي قائلا: (ما زوَّجتك!) قلت: (عندي أربعين شاهدًا وليس شاهدين فقط) قال العميد: (ما القصة؟) قال: (أنا أشرح لكم، قلت: زوَّجتك ابنتي، قال هو: قبلت). ابتسم معالي الشيخ بهدوء ووقار، فهو لا يريد أن يثير أستاذي، قال: (طلّقها يا إبراهيم)، فاستنفر الشيخ قائلا: (كيف يطلقها ؟! وهل تزوّجها أصلا؟!) قلت: (أنا أعرف أن طلاق الـمُكرَه لا يقع، وأنتم تجبرونني على طلاق زوجتي)، فاستنفر الشيخ من جديد: (زوجتك؟! كيف تكون زوجتك؟!) قال له الشيخ الراوي بلهجته المصريّة المحبّبة: (يا شيخ هوّا انتَ عندك بنت باقية؟! الله!) تذكر الرجل وابتسم وضحك، وانتهى الموقف بضحك، وأخذ بيدي وعدنا مرة أخرى إلى الفصل، وأصبح من أعزِّ الأساتذة الذين كانت علاقتي معهم قوية، وهذه من المشاكسات المحبَّبة كما يقولون، وقد ظلَّ الشيخ الراوي -رحمه الله- يرويها».
ومن المواقف الدالة على حضور ذهنه وحسن جوابه ما علّق به على قول أستاذَة أثنت على محاضرته؛ ولكنها تأخذ على المملكة العربية السعودية متابعة فكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب، قال الدكتور الجوير «فشكرتها على حسن ظنّها وعلى رأيها في الورقة وما قدمته، ثم استدركت قائلًا: (ولكّني أحبّ أن أذكر للبروفسورة وللجميع أنَّنا في السعودية نتّبع محمّد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، ونعتبر الشيخ محمّد بن عبد الوهّاب أحد المصلحين الذين مرّوا عبر التاريخ في معظم الدول، وأرجو من الأستاذة الكريمة أن ترشدنا إلى ما تراه مخالفًا لمحمّد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، ونحن في السعودية سنتبناه ونسير عليه(1)، وأنا أعلن من هنا أننا نتبرأ من كل ما يخالف منهج حبيبنا وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الشيخ محمد بن عبد الوهاب عالم فاضل ليست له قدسيّة، ويؤخذ من قوله ويرد). فضجت القاعة بالتصفيق، وأشارت تلك الدكتورة أنها لا تعليق لديها، وأنها قد اكتفت بما ذكرت والحمد لله على توفيقه».
ومن أجوبته الموفقة الطريفة بما فيها من تورية قوله تحت عنوان (الزواج من أجنبية): «وكنا في دمشق وعلى طاولة المباحثات وأمامنا الجانب السوريّ، وكان الجانب السعودي برئاسة صاحب السمو الأمير (سعود الفيصل)، وعلى يمينه معالي الأستاذ (محمد أبا الخيل)، وعلى يساره معالي الدكتور (عبد العزيز الخويطر)، وأنا على يسار معالي الدكتور عبد العزيز الخويطر، فطرح أحد الوزراء السوريّين استفسارًا يقول: (نحن في سوريا نعدّ زواج أيّ عربيّ من السوريّة وكأنّه زواجٌ سوريّ خالص بلا تمييز، فلماذا تعدّون زواج السعوديّ من السوريّة هو زواج من أجنبيّة؟ فالتفت سموّ الأمير بشكل آليّ إلى الدكتور (عبد العزيز الخويطر)، فالتفت إليّ د. (عبد العزيز)، فقلت: سموّ الأمير، هل تسمح لي فأجيب؟ فقبل، فقلت: (تعلمون أننا في السعوديّة نحكّم الشريعة الإسلاميّة القرآن الكريم والسنّة المطهّرة وفيهما أنه لا يجوز الزواج إلا من أجنبية)، فضحك الجميع».
حفظ الله على أستاذنا صحته، ولا زال الله منعمًا عليه بمنه وكرمه ورضاه.
**__**__**__**__**__**
(1) لا يريد ما يفهم من ظاهر هذه العبارة بل لازمها وهو أن نعرف المخالف لنتجنبه.