أ.د.عبدالله بن أحمد الفيفي
إنَّ حافز الأَشياع لضَمِّ خُطَبٍ منسوبة إلى (عليِّ بن أبي طالب، رضي الله عنه) إلى مشروع (الشَّريف الرَّضِي، -406هـ= 1015م)، وعدم الاكتفاء بـ«الكلام القصير في المواعظ والحِكم والأمثال(1) والآداب»، إلى جانب الدافع الدِّينيِّ والعائليِّ لدَى الشَّريف نفسه- وذلك لما طمع إليه من «عظيم النفع، ومنشور الذِّكر، ومذخور الأجر»- مضافًا إليه الحافز الطائفي؛ كي يُبين «عن عظيم قَدر أمير المؤمنين، عليه السلام، في هذه الفضيلة، مضافة إلى المحاسن الدَّثِرَة، والفضائل الجمَّة»، إنَّ ذلك كلَّه كان كافيًا لاستجازة الشَّريف نِسبة ما نسبَ إلى (عليٍّ) من المطوَّلات، والفلسفيَّات، والخطابات المتمنطقة، والطبيعيَّات، والبديعيَّات، ما دام لا يخرج بذلك عن مأثور أخبار عليٍّ الشَّعبيَّة، ولا عن نواميس نَهْجه في الأفعال والأقوال، وإنْ بحسب مرويَّات القوم وتصوُّراتهم.
هكذا أمسك بخناقي (ذو القُروح)، كمعتاد أفعاله. فقلتُ له:
ـ لكن هذا شيء، وتصديق أنَّ تلك الخُطَب الطِّوال جاءت بنَصِّها وفَصِّها على لسان (ابن أبي طالب)، وأنها ظلَّت محفوظة متناقلة لنحو ثلاثة قرون، حتى قُيِّض لها من صَبَّها للناس صَبًّا في كتاب، شيء آخر.
ـ فإذا أضيف إلى ما سبقَ الدافعُ العِرْقيُّ، من المفاخرة، والمنافرة، والمكاثرة، وَفق «نَهْج البلاغة» القَبَليِّ الأَبَويِّ المتوارث، الذي أوشك أن يحوِّل النبوَّةَ من اصطفاءٍ فرديٍّ إلى نَسَبٍ عائلي، والشَّرَفَ من قيمةٍ مكتسبةٍ بالسُّلوك والعمل إلى دَمٍ نبويٍّ، وَفق ثقافة العَرَب الجاهليَّة، وكما تجلَّت بَعد الإسلام في مناقضات (الفرزدق) و(جرير)- على سبيل القِيَم الجاهليَّة المؤسلَمة- إذا لوحظت تلك العوامل استحكمَ في مِرْجَلِها الباعثُ الحماسيُّ، وسيطرت الحميَّةُ العَلويَّة، واختمر المزاجُ العائليُّ، الذي عَبَّر عنه (الشَّريف) بقوله: «وأردتُ أن يسوغ لي التمثُّل في الافتخار به، عليه السلام، بقول الفرزدق:
أولئك أبائي، فجئني بمِثلهمْ
إذا جمعَتْنا، يا جريرُ، المجامعُ!»(2)
ـ لقد كان غرض (الشَّريف الرَّضِيِّ) في تأليف «النَّهْج» شريفًا، فيما رأى، أو فيما حاول أن يُقنِع به نفسه، عبر مستويات متدرِّجة من أدوات الإقناع. ولم يكن الرجل ذلك الأكاديميَّ الذي تؤرِّقة الأمانة العِلميَّة.
ـ أتفقُ معك. لكنَّه لم يكتف بذلك، بل جعل لعمله هدفًا آخَر أشرف، تربويًّا، وتعليميًّا، وبلاغيًّا، جلَّاه في تسمية الكتاب بـ« نَهْج البلاغة»؛ وكأنما هو كتابٌ مدرسيٌّ لمَن أراد معرفة أصول البلاغة وأساليبها وأعراف طرقها؛ فهذا الكتاب هو «نَهْج»، أي طريق، ومنهاجُ تعلُّم «البلاغة»، والدُّربة عليها.
ـ ولا تنس أن ذلك حدثَ في تلك القرون التي أخذ النحويُّون يشقِّقون لنا تشقيقات أخرى، سَمَّوها (عِلم البلاغة)، بعد تشقيقاتهم النحويَّة العتيقة المعقَّدة المستهلَكة، التي سَمَّوها (عِلم النحو).
ـ وبذا أحسنوا وأساؤوا، وتمنطقوا وخالفوا المنطق، وبالغوا في بلاغيَّاتهم، كي يستولدوا عِلمًا مبتدَعًا، لا يقلُّ في بعض أوجهه استغلاقًا وإلباسًا من بعض أوجه (النَّحو). حتى لقد عَدُّوا- على سبيل الشاهد- الآية: «يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ»، والآية: «جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ»، من ذلك الباب المخترَع الذي أسموه (المجاز المرسَل)، قائلين: إنَّ المذكورِين في الآيتين إنَّما كانوا يجعلون بَنانهم في آذانهم، ولا يُدخلون أصابعهم كلَّها! فلا تظنوا غير هذا، يا قَوم!
ـ يا لهم من فُطَناء نُبَهاء حقًّا! وأنا الذي كنتُ أتصوَّر أنَّ المقصود أنَّ قوم (نُوح) كان أحدهم يُدخِل إصبعه بطولها في أُذنه، لولا هذا التنبيه المجازيِّ المرسَل الحصيف، الذي كشف الغمَّة عن الأفهام المدلهمَّة!
ـ بالفعل، هذا التفاتٌ بلاغيٌّ طريفٌ حقًّا! مع أنَّ كلَّ عامِّيٍّ- أمس أو اليوم وإلى قيام الساعة- لا يحتاج إلى مثل تلك البلاغة السكَّاكيَّة؛ لأنه ما زال يُعَبَّر بالإصبع في مثل هذا السياق، في الفصحى والعامِّيَّة، عن مثل ما عبَّر عنه «القرآن»، لا يُبتغَى فيه مجاز ولا تخييل، بل هو تعبيرٌ حقيقي؛ من حيث إنَّ الإصبع، مهما طالت، قد تُطلَق على طَرَفها، أو ما يُسمَّى منها (البَنان)، وقد تُطلَق على كُلِّها، كما هو الحال في التعبير بـ(اليَد)، وليس الناس في حاجةٍ إلى «عِلْمٍ»، إذن، ليُدرِكوا ذلك.
ـ وما دام العَرَبيُّ ما انفكَّ يستعمل هذا، منذ نعومة لُغته، فأين المجاز؟
ـ لا مجاز تحت الشمس! إنَّما المجاز انحرافٌ أسلوبيٌّ عن مألوف القول، لغايةٍ فنِّـيَّةٍ متوخَّاة. أمَّا حين يغدو الكلام من قبيل مألوف القول عبر العصور، فقد غَبَرَ حقيقةً، لم تَعُد فيه من المجاز رائحة، لا مرسلة ولا مقيَّدة! ومهما يكن من شيء، فتلك قضيَّةٌ أخرى، إنَّما ضربناها مَثَلًا على مقدار ذلك الهَوَس الذي اعترى الطبقة العالمة بما يُسَمَّى «بلاغة»، خلال تلك القرون التي ظهر فيها «نَهْج البلاغة». وقد ظلَّ «نَهْج البلاغة» كتابًا مَدرسيًّا بالفعل، منذ كتبه (الشَّريف)- الرَّضِيُّ أو المرتضَى أو كلاهما- وصولًا إلى طبعته الحديثة، بضبط (الشيخ محمَّد عبده) وشَرْحه. أي منذ كتبَ الشَّريف في تقديم «النَّهْج»: «ورأيتُ من بَعدُ تسميةَ هذا الكتاب بـ»نَهْج البلاغة»؛ إذ كان يَفتح للناظر فيه أبوابها، ويُقرِّب عليه طِلابها، وفيه حاجة العالِـم والمتعلِّم، وبُغية البليغ والزاهد، ويَمضي في أثنائه من عجيب الكلام في التوحيد والعدل، وتنزيه الله، سبحانه وتعالى، عن شَبَهِ الخَلْق، ما هو بِلال كُلِّ غُلَّة، وشِفاء كُلِّ عِلَّة، وجلاء كُلِّ شُبهة.»(3)
ـ تلك، إذن، هي أسباب تأليف الكتاب، ومسوِّغات نَسْجه، وأهداف وَضْعه.
ـ ومنها «جلاء كُلِّ شُبْهة (معتزليَّة)»، كما أوضحتُ في حوارٍ سابق، لـ«تنزيه الله، سبحانه وتعالى، عن شَبَهِ الخَلْق». وليس من بين الأهداف التحقيق، ولا من الغاية التوثيق الجازم، ولا التأريخ الممحَّص. ثُمَّ ثَمَةَ نكتةٌ أخرى.
ـ هاتِ، نَكِّتْ، رعاك الله!
ـ أسلوب «النَّهْج» في معظمه أسلوبٌ كتابيٌّ لا شفاهي. لا لما حُمِّل إيَّاه من أوزار السَّجع والبديع فحسب- وهو ما كان القرن الرابع الهجري، لا الأوَّل الهجري، مسرحه الذهبي- ولكن أيضًا لأنَّه أسلوب كاتبٍ، متأمِّلٍ، موجَّهٌ إلى قارئٍ مستقرئ، وليس بأسلوب خطيبٍ، يُلقِي كلمته فوق منبرٍ على جمهرةٍ من السامعين، ومعظمهم من الأعراب، وسُوقة الناس، وربما بعضهم من غير العَرَب، فلا قِبَل لهم إجمالًا بمثل ذلك التحذلق في المباني والمعاني، إنْ وُجِدت لدَى صاحب المنبر، افتراضًا. ذاك شأن الخطيب، وإلَّا عُدَّ فاشِلًا في (فنِّ الخطابة)، لعدم مراعاته مقتضى الحال والتلقِّي. وللخطابة، ومشافهة الجماهير، أساليبهما المباينة نوعيًّا لأساليب الكُتَّاب إلى القُرَّاء، التي يعرفها الخطيب المِصْقَع والشَّحْشَح، ولا ينبغي له أن يزيغ عنها، وإلَّا كان قارئَ نشرات أخبار لا خطيبًا! والكتابيَّة خاصيَّةٌ ظاهرةٌ في «النَّهْج»، ولا تُناسب مقتضى الحالات التي زُعِم أنَّ نصوص «النَّهْج» قيلت في سياقاتها.
ـ وبهذا النقد الداخلي للنصوص ينكشف عِلميًّا أمر ذلك الكتاب الذي فيه رَيب!
ـ أمَّا بالعودة إلى أسلوب «نَهْج البلاغة»- وهو أسلوب القرن الرابع الهجري، وأسلوب (الشَّريف) عينه، كما تفضحه مقدمة «النَّهْج»، وكما يعرفه القارئ في كتابات الشَّريف الأخرى، نثرًا وشِعرًا، وليست بأسلوب صَدْر الإسلام قطعًا، ولا بطابع الخطابة في القرن الأوَّل من الهجرة، ولا حتى القرن الثاني- أمَّا ذلك الأسلوب، فأيُّ حلاوةٍ فيه لدَى من لا تعجبه ترديدات الببغاوات؟ وأيُّ طلاوةٍ في تلك الأنساق الرياضيَّة، المرصوصة من الجُمل المكرَّرة، والسَّجع المطَّرِد، والتزويقات الصوتيَّة المُمِلَّة؟!
ـ وكيف يقارَن هذا بالنسيج القرآني؟!
ـ تلك سقطة (أحمد القبَّانجي) السحيقة، وهي أسخف من أن تُناقش! فـ(القرآن) بالغ التأثير في المتلقِّي، ببنيتَيه الصوتيَّة والدلاليَّة معًا. يأسر الألباب، وإنْ لم تكن من ألباب المؤمنين به. أمَّا مَن لم يُؤْتَ نصيبًا من ذوقٍ أدبيٍّ، ولا حِسٍّ جماليٍّ، ولا تمييزٍ لُغويٍّ، ولا إدراكٍ لجماليَّات البلاغة والأساليب، والتفريق بين مستوياتها وأطوارها، وتاريخ ترقِّيها، ثمَّ هو فوق ذلك مزورُّ النفس لهوًى مخامر، ولعُقَد قاهرة، مطموس العقل لاعتقادٍ مضادٍّ؛ أمَّا من تلك حاله، فمرفوعٌ عنه القَلَم، منزوعُ الصلاحيَّة للنظر في هذه الشؤون، عاجزُ التأهيل أساسًا عن مقاربتها، فضلًا عن مقارنتها.
ـ أجل، لقد يأتيك من عجائب المخلوقات من لا يعترف لـ(المتنبِّي)، مثلًا، بشِعريَّته، أو لـ(طه حسين) بأسلوبيَّته، فماذا تملك لمثل هذا الكائن، الذي نزع الله عنه الحِسَّ الأدبيَّ السليم؟!
ـ والأدهى حين ينصِّب هذا نفسه ناقدًا أدبيًّا، وهو عَيِيُّ اللِّسان، بَليد الفِطرة، أعجميُّ المزاج، مَلْخُوْم الحواسِّ، دَعِيٌّ في هذا الميدان! ولو كانت به مسكة من عقلٍ أصلًا، ما تقحَّم بافتئات في غير ما يُحسِن. أو لو بقيت به نُخالةٌ من حياء، ما خاض فيما لا يعرف. وهذا وأمثاله، أيًّا ما كان دِينه أو دَيدنه، أو كانت هويَّته، ليس مخاطَبًا بالإعجاز البلاغي أصلًا؛ لأنه من المرفوع عنهم التحدِّي لمخمصته المشار إليها. ولقد عبَّر عن هذا (الوليد بن المغيرة)- المشرِك المعاند، المطاول ببيانه «القرآن»- فانقلب حين سمعه إلى قومه وهو يقول: «سمعتُ منه كلامًا ليس من كلام الجن، ولا من كلام الإنس، واللهِ إنَّ له لحلاوة، وإنَّ عليه لطَلاوة، وإنَّ أعلاه لمُونق، وإنَّ أسفله لمُغدِق، وإنَّه ليعلو ولا يُعلى عليه.» وبقطع النظر عن صِحَّة هذه الرواية، فذلك ما يجدر بشهادة عَرَبيٍّ صادقٍ، غير مكابر، بَيْدَ أنها غير متوقَّعة أبدًا من مغوليٍّ، مثلًا، أو من تركماني، أو حتى من عَرَبيٍّ ممسوخ اللِّسان. وهل تنتظر من مثل هذا أن يفقه ما الحلاوة؟ أو ما الطلاة؟ وأين مواطن الإيناق؟ وأين منابع الإغداق؟! لأنَّ فاقد الشيء لا يعطيه! وذلك كذلك ما شَهِد به منصفو الكافرين قبل المؤمنين، عن نَصٍّ لا بالشِّعر هو، ولا بالنثر، ولا بالنَّظم، ولا بالترسُّل، ولا بالسَّرد، ولا بالأمثال والمقولات الحِكميَّة، ولا بالمتكلَّف، ولا بعفو القول الساذج؛ سهلٌ في امتناع، منيعٌ في سهولة، يستعصي على التصنيف الأجناسي بين النصوص. جامعًا من سِحر البيان ما في فنون القول المتباينة كافَّة. وهذا هو الجمال الأدبي، ومناط الإعجاز البلاغي، لدَى مَن فَقِه اللُّغة، وعايش فنون الخطاب، لا تلك المعادلات الذِّهنيَّة، والتلاعبات اللفظيَّة، التي دبَّجها (الشَّريف الرَّضِيُّ/ المرتضَى) على صحائف كتابٍ وَسَمَه بـ«نَهْج البلاغة».
[وللحديث بقايا].
**__**__**__**__**__**
(1) كذا! وما في « نَهْج البلاغة» حِكَم، لا أمثال. ذلك أنَّ المَثَل مأثورٌ شَعبيٌّ، وليس بقولٍ حكيمٍ فرديٍّ، وإنْ كان أصله كذلك. وهو يَرِد في موقفٍ قَصصيٍّ، ويُحفَظ كما سُمِع، بلا تغيير، وإنْ تضمَّن أخطاء لُغويَّة، أو نحويَّة. ولذا فقد أخطأ (أحمد السِّباعي، رحمه الله)، في كتابه «الأمثال الشَّعبيَّة في مُدُن الحِجاز»، في إعراب بعض تلك الأمثال؛ والأمثال الشَّعبيَّة إذا غُيِّرت لم تعد أمثالًا. ومن ذلك تغييره المَثَل الشَّعبي المعروف الذي يقول: «احييني اليوم وموِّتني بُكرة»، فغيَّر هنا كلمة «بُكرة» إلى «غدًا». (تُنظَر طبعة: (جُدَّة: تِهامة، 1981)، ص16). وهذا يُعَدُّ تحريفًا في الجنس الأدبيِّ للأمثال. وكذا قوله، على سبيل الشاهد: «اعطيني عُمْرًا وارميني في البحر»؛ فالمثل المعروف: «أعطيني عُمُر وارميني في البَحَر». ثمَّ إنَّ هذا المَثَل مبنيٌّ على السجع بين كلمتي «عُمُر» و«بَحَر»؛ فذهب تغييرُه بالبناء النَّحوي والبناء البديعي معًا. هذا مع عدم النَّجاة من الوقوع في خطأين نحويَّين؛ حيث أصلح المفعول به ونسي أنَّ الفعل فعل أمر! فإذا كان سيقوِّم المَثَل نحويًّا، فكان الصواب أن يقول: «أعطني... وارمني». (يُنظَر: م.ن، 12).
(2) (1990)، نَهْج البلاغة، شرح: محمَّد عبده، (بيروت: مؤسَّسة المعارف)، 79.
(3) م.ن، 81.
** **
- (العضو السابق بمجلس الشورى - الأستاذ بجامعة الملِك سعود)