رقية نبيل عبيد
عندما قرأت رائعة أجاثا كريستي «مقتل السيد روجر أكرويد» ظننت أنها أتت بعمل خارق لم يستطعه أحد من الأوائل لما كشفتْ عن شخصية الجاني، واتضح في النهاية أن ليس سوى رواية الحكاية! نعم البطل الذي تعلقنا به والذي رافقناه يتفاجأ بوجود الضحية ويتفاجأ بمقتلها ويصطحب بوارو في كل مكان ورغبته صادقة في العثور على المجرم، ليتضح لنا أنه كان يخدعنا طوال الوقت، ولم يكن أمينًا في روي الحكاية فقد أخفى كل تفاصيل ارتكابه جريمته! حبنها شدهتُ بالفعل وأكبرت أجاثا كل الإكبار لقدرتها على الإتيان بفكرة كهذه وعلى خداعنا التام بتلك الطريقة، فلا أحد، لا أحد كان ليشكك في بطل القصة وراويها الرئيسي!
واليوم أدرك أن ثيمة متشابهة قد طُرحت منذ عام 1905 في أول قصة وأول ظهور وأول ولادة للص الذي طبقتْ شهرته الآفاق، اللص الظريف اللص النبيل الجنتلمان آرسين لوبين!
عندما كتب الشاب الفرنسي موريس لوبلان الذي يتفجر حماسة ويمتلئ خياله بشتى قصص اللصوصية والبحارة والمغامرات قصته القصيرة جدًا اعتقال آرسين لوبين ونُشرت في صحيفة فرنسية عام 1905 لم يكن ليخطر بباله، لم يكن ليحلم أن تنال قصته هذه الشهرة الواسعة، وهذا الإقبال الشّره وهذا التلهف على مزيدًا من قصص اللص النبيل الغامض! بل إنه ما كان ليعرف أنه يكتب للتاريخ وأنه بصدد ولادة شخصية من أشهر شخصيات الأدب الأوروبي، شخصية ستعيش بعده عقودًا من الزمن، وستصيّر إلى سلاسل وأفلام لا حصر لها، وستُلهم العديد من الكتاب الذي عشقوا المغامرة والغموض مثله إلى خلق المزيد من الأبطال المشابهين لبطله.
وبعد هذا النجاح المدوّي كتب موريس قصته التي أعقبت سابقتها «آرسين لوبين في السجن» ثم «الهروب من السجن» لتصبح سلسلة قصص متتالية جُمعت ونشرت في كتاب عام 1907 تحت عنوان «آرسين لوبين اللص الجنتلمان» ويحوي القصص التسع الأولى لهذا اللص العبقري الظريف، تبع ذلك روايات طويلة ولقاء مع المحقق الأشهر في ذاك القرن شيرلوك هولمز!
آرسين لوبين يعشق الاحتيال والتخفي ويدمن الخطر والمغامرة، لا يسرق إلا الأثرياء، وعمله لا بد وأن يحمل رائحته، ولا أحد رأى وجهه الحقيقي يومًا، فهو يختبئ وراء ألف قناع، وقد يكون العجوز الذي ساعدته بلطف أو الفاتنة التي اختطفتَ نظرة سريعة إليها! مشعوذًا تارة وطبيبًا مختصًا في علم الجراثيم تارة أخرى! ومسروقاته لا تكون إلا أصلية مهما خدعتْ نسخها المزيفة الآخرين إلا أنه لا ينخدع بها قط ومعلوماته الإثرائية في مجال التحف واللوحات والجواهر النفيسة الأصلية بحرًا لا ساحل له، وعلى غرار شيرلوك هناك امرأة واحدة في هذا العالم نجحتْ في سرقة قلبه وأسْر عواطفه، جمهور العامة الذي عاصروا لوبين عشقوا أعماله وتابعوا بتلهف كل خبر صادر عنه، وفي قرار أعماقهم شجعوه صادقين من كل قلوبهم.
ولعل أحد أهم أسباب ذيوع قصصه هي لغتها السهلة ومغامراتها المشوقة، وكل خدعة في مغامراته كانت أكثر حبكة وغموضًا وإثارة من التي سبقتها، وإذا كانت هذه الخدع معروفة أو متوقعة لقارئ اليوم فما ذاك إلا لأن موريس كان قد ابتدعها قبل أكثر من مائة عام وقلده منذ ذلك الوقت وحتى اليوم العشرات، ناشرين أسلوبه وابتكاراته في كل أنحاء العالم، غير أنها أبدًا ستبقى تحمل بصمته الخاصة، كما أن ظُرف بطله وشهامته في العديد من المواقف وثقته بنفسه وسخريته الدائمة من رجال الشرطة كلها صارت علامات على آرسين لوبين ساهمت بشكل مباشر في إشهار اسمه، وإذا كنت رأيت أو قرأت عن شخصية مماثلة فاعلم إذًا أن اللص لوبين هو الأصل منها.
بعد عقود طويلة، وحينما صار الشاب الصغير المتحمس رجلاً ناضجًا حنكته السنوات والخبرة، كتب رسالة إلى الصديق الذي رافقه طوال عمره، إلى الجوهرة التي أنتجتها قريحته الأدبية، قال: «إلى صديقي العزيز، لقد أخذتني في طريق لم أكن أعتقد أني سأغامر بالخوض فيه يومًا، ولقد وجدت الكثير من التوفيق والمتعة الأدبية في هذا الطريق، لذا بدا لي أنه من الصواب كتابة اسمك على رأس هذا المجلد، للتأكيد على مشاعري بالامتنان الصادق تجاهك».
الحقيقة، الحقيقة الصادقة أنني وقعت في حب آرسين لوبين من أول قصة له! لطالما سمعت عنه دون أن يدفعني ذلك للقراءة له، وكنت أعلم أن الكثير من القصص والشخصيات التي أعجبت بها هو في الحقيقة مصدرها، لكن لم أتخيل أن يكون بتلك الروعة! بذلك الحضور الطاغي، بهذه الدقة والإتقان المسرودة بهما تفاصيل مغامراته، لقد كان لوبلان مبدعًا فوق كل وصف ولا شك! وبعد المجموعة القصصية انطلقتُ في رحلة بحث عن كل رواياته وآثاره وأخذت أقرأ ما كتب النقاد عنه وأفتح صفحات ويكبيديا التي تحكي عن موريس لوبلان وأتصفح بمزيد من الإعجاب كيف تداخلت شخصية المحقق الأشهر والذي كان قد ولد قبله بنصف قرن شيرلوك هولمز مع قصص اللص الظريف، وأنّى التقى هذا الضدان اللطيفان، وعليّ الاعتراف أنني لم أكن يومًا معجبة بحضرة المحقق الشهير مهما قرأت له ومهما اختلف عمري أثناء تلك القراءة، غير أن قصة واحدة ومغامرة واحدة لآرسين لوبين أوقعتني في حبله، ترافقني الملايين التي وقعت من قبلي والملايين التي ستقع من بعدي.