عبدالله العولقي
خلال القرن الثامن عشر الميلادي غرقت أوروبا في المادية المحضة وضاعت ملامح الإنسانية والرحمة فتصدى المفكر جان جاك روسو (1712م - 1778م) لهذه الموجة ودشّن مدرسة جديدة في الأدب تستند في كتابتها إلى الرومانسية أو العاطفة الجياشة المتدفقة والمشتعلة بالحب والغرام والقريبة من الطبيعة والفطرة الإنسانية ، كان يقصد من ذلك تطهير النفس من دنس المادية العنيفة التي طغت على الأوروبيين بالعودة إلى الطبيعة حيث الفطرة الغريزية التي جُبل الإنسان عليها ، كان يكثر في أدبه من ذكر الحنين إلى بلاد الشرق موطن العواطف الصادقة وكأنه يخترق الزمن إلى الماضي البعيد حيث الشمس الدافئة والعواطف الجياشة الجريئة التي كان ينشدها عمر بن أبي ربيعة (644م –711م) دون حرجٍ أو وجل ، المؤسس الرائد لأدب الرومانسية الإنساني .
يقول روسو عن تحولاته الفكرية تجاه الرومانسية بأنه اشترك في مسابقة أدبية فلسفية دافع من خلالها عن الرومانسية وهاجم المدنيّة التي أفسدت المجتمع ففازت مقالته بالمركز الأول ، فيقول عن هذه التجربة : حينها كتبت صكّ شقائي بنفسي ، إن جميع البلايا والمصائب التي أحطتها في حياتي كانت بعد هذه التجربة ، فقد دخل روسو بعدها في مشاحنات فكرية عنيفة مع رجال الدين ومع أدباء عصره لم يتحملها قلبه الرقيق ، أما عمر بن أبي ربيعة فقد تذمر أهله وقبيلته يوم وُلد في نفس يوم وفاة الخليفة العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فسموه باسمه لكنهم تشاءموا وقالوا : أي خيرٍ رُفع وأي شرٍ وُضع ، وقالوا أيضاً : زُهق الحق وظهر الباطل !!.
من خلال تتبع الحركة الرومانسية بين أدب عمر بن أبي ربيعة وجان جاك روسو سنجد أن ظروف النشأة متباينة إلى حد التناقض ، فالحركة الرومانسية عند بن أبي ربيعة نشأت كفعل ، فقد نشأ الشاعر في كنف أسرة ثرية ذات نسبٍ قرشي رفيع ، توفي والده وترك له ثروة طائلة فنشأ في دلالٍ وترف ، وتربى بين أحضان أمه يساعدها في إدارة الأموال والأملاك ، فأتيح له الإختلاط بالنساء والجواري دون تحرّج الأمر الذي منحه الجرأة في تقديم خطاب الغزل بهذه الصورة الجريئة في تجربته الشعرية ، والحقيقة الأخرى أن ظروف الحياة والمعيشة في زمنه تمتعت بالإستقرار السياسي في الجزيرة العربية وفي الحجاز تحديداً الأمر الذي منح شعر الغزل بعداً رومانسياً قوياً ترك عمر بن أبي ربيعه أثره على طائفة من الشعراء من بعده عرفوا بأسماء حبيباتهم ككثيّر عزة وجميل بثينة وقيس ليلى وقيس لبنى وغيرهم ، أما الرومانسية في فرنسا فقد أسسها روسو كردة فعل تجاه الاتجاهات المادية المدنية المحضة التي جعلت حياة الناس في أوروبا بعيدة عن الرحمة والإنسانية الأمر الذي ترك أثراً عميقاً في نفس روسو وجعله يعود إلى الطبيعة والفطرة ويدشن بدايات الإتجاه الرومانسي في الأدب الأوروبي الحديث .
بعد أن ظهرت وانتشرت الحركة الرومانسية في أوروبا تأثر بها الكثير من الأدباء والشعراء العرب ، كان عباس العقاد أول من عبّر عن هذا التأثر في كتابه الديوان بالشراكة مع عبد القادر المازني في عام 1921م ، تبعه ميخائيل نعيمة في كتابه الغربال في عام 1922م ، وقد ألقت الرومانسية بأثرها العميق على العديد من اتجاهات الأدب العربي في القرن العشرين كمدرسة أبولو وكذلك شعراء المهجر الأمريكي ، وتختلف هذه الرومانسية الحديثة عن رومانسية ابن أبي ربيعة لأنها متأثرة بالمدرسة الأوروبية من حيث الأفكار والإتجاه فهي إلى حدٍ ما تعتبر اتجاهات مقلدة وليست مبتكرة ولكنها للأمانة قد أثرت الشعر العربي الحديث وبثّت فيه روحاً جديدة من الإبداع والإبتكار الفني .
نعود إلى رائد الرومانسية في أدبنا العربي عمر بن ابي ربيعة ، فلم تكن ريادته للإتجاه الرومانسي في زمنه تقتصر على إبداعه في تدشين اتجاه جديد في موضوعات الشعر العربي والتي للأسف كان يستند بها في تجربته على مضمون الغزل الجريء الذي يصل إلى حد الفحش والغلو في العلاقة مع المرأة ، بل إن هذه الجرأة تجاوزت السياق الديني والعبث في محرمات المعاني الإسلامية كالحج ومكة ومنى وهكذا، لكن الذي يهمنا هو تلك الجوانب المشرقة في تجربته الشعرية والتي تتضمن ريادته الأدبية في عدة أمور نلخصها بأنه أول من ابتكر - ما يسميه النقاد المعاصرون - الوحدة الموضوعية ، أي ترابط أجزاء القصيدة وسيرها في اتجاه واحد فكراً وشعوراً ، فقد كانت القصيدة العربية قبله ذات مواضيع متعددة تتسم بتراتبية معروفة معينة ، وقد عادت هذه التراتبية إلى عهدها السابق بعد مدرسة عمر بن أبي ربيعة حتى زمننا المعاصر - في قصائد شوقي مثلاً – أما بعد تأثر المدارس الحديثة ( الديوان وأبولو والمهجر) بالأدب الأوروبي فقد تم إدخال مصطلح الوحدة الموضوعية إلى أدبنا العربي - شعراً ونقداً – رغم الريادة السابقة لعمر بن أبي ربيعة له قبل عدة قرون عندما جعل القصيدة مختصة بموضوع معين لا تتحول عنه وأغلبها بلا شك في باب الغزل ، وهذا الأمر يتعلق بريادته الأخرى وأعني عندما جعل الغزل فناً منفرداً بعد أن كان ضمن موضوعات القصيدة أو بوابة فنية قبل الدخول في موضوع القصيدة ، كما أنه كما يقول بعض النقاد أول من صوّر الرجل بصورة المعشوق لا العاشق ، بحيث أنه جعل المرأة هي التي تبحث عن الرجل وليس العكس :
قالت الكبرى : أتعرفين الفتى.. قالت الوسطى : نعم ، هذا عمر
قال الصغرى وقد تيّمتها .. قد عرفناه ، وهل يخفى القمر ؟
بالإضافة إلى أن هناك ريادة علمية تتعلق بقدرته الفطرية على فهم طبائع الأنثى وغريزتها ونفسيّتها وهواجسها وانفعالاتها وقد جسّد ذلك كله مبثوثاً في قصائده الجميلة ، كما جسّدت قصائده منهجية الحوار بين العاشقين بطريقة إبداعية مبتكرة ، وقد سبقه إلى ذلك أمير الشعر الجاهلي امرئ القيس إلا أن عمر بن أبي ربيعة كانت له ريادة الحوارات المطولة والثرية بحكايات البطولة والشجاعة في الوصول إلى المحبوبة رغم المخاطر وهذا يقودنا إلى أمر آخر حول شخصيته الجريئة ، وهو صدامه العنيف مع المجتمع وخروجه عن العادات والتقاليد المألوفة ، فقد وصل به الحال إلى الخروج للحج من أجل التغزل بالنساء ، فكانت الأسر تخشى على بناتهن من الشاعر الجريء فتمتنع من الحج مخافة شعره ، فظاهرته الشعرية وصلت إلى حد الخروج عن مألوف العرف السائد في المجتمع ، وقد حاولت بعض القوى المجتمعية أن توقف هذا التمرد الشعري وتكبح جماحه إلا أنها باءت بالفشل وآلت الأمور إلى عكس ذلك ، فقد انتشر شعره بين الشباب والعشاق ، وكانت الناس في العراق والشام ومصر يتساءلون عن أخباره وقصائده ويبحثون عنها ويتساءلون عن جديد أبياته ، وبعضهم كان يبحث عنه إذا وصل الحجاز للقائه والإستماع إلى مغامراته وأشعاره ، وهكذا ظل ابن ربيعة يتمتع بهذه الروح العاشقة حتى وصل السبعين من عمره ، وتورد بعض الروايات خبر توبته وهجره للعشق والغزل إلا أن آخر قصيدة قالها قبل وفاته تعكس أن قلبه لا يزال ينبض بغرام الأنثى حتى آخر نبضة !!.
هذا الصدام مع المجتمع والخروج عن المألوف نجده عند روسو أيضاً ، فقد كان متمرداً على التقاليد الاجتماعية إلى حدٍ كبير لكن حياته تختلف كثيراً عن حياة ابن أبي ربيعة المستقرة ، فقد عاش روسو مطارداً في جميع الإتجاهات إن صح التعبير ، وقد يستغرب قارئ أعمال روسو كيف لهذه النفس المضطربة أن تكتب مثل هذه الأعمال الإنسانية بهذه الدرجة من السمو ، لقد كانت نفسه الرقيقة تعانق الأشجار وتقبل الأحجار وتعشق كل ما يمت للطبيعة بصلة ، فقد مرّغ وجهه بتراب قبر مدام دوفارين بعد أن عرف بموتها ، كما كان يقيم جلسات ثقافية لقراءة مذكراته ، كان يقرأ بانفعالية مدهشة وعاطفة جياشة تضج بالمشاعر الخارجة من أعماقه ، لقد كان يذوب ذوباناً كاملاً عندما يكتب رومانسياته العذبة ، يقول عنه هاشم صالح : لقد طهر روسو الأرواح والقلوب وضرب على الوتر الحساس في نفوس بني البشر ، فعندما كان المجتمع الباريسي يقرأ روايته ( هلويز الجديدة ) ، كانت السيدات والآنسات يذرفن الدموع في شوارع باريس على مصير بطلة القصة (جولي ) ، وعندما كان يقرأ مذكراته للحضور في صالونه الثقافي يبكي بشدة ويبكيهم معه ، لقد فجّر روسو المشاعر المكتومة عند الإنسان !!.
وفي الختام .. دشّن ابن أبي ربيعة الرومانسية الأولى في الأدب العربي قبل روسو بقرون مديدة ، ظروف نشأتهما المعيشية وتجربتهما الأدبية متباينة إلى حدٍ بعيد ، لكنهما عاشا بجرأة في خلافهما مع العرف الاجتماعي ، نختلف معهما في كثير من توجهاتهما ، لكننا نعترف أنهما أيقظا في النفوس مشاعر إنسانية صادقة تستحق أن تذكر .