أ.د.عبدالله عبدالرحمن الناصر الشميميري
لكل فرد في هذا العالم ذكريات خاصة به تبدأ معه من مراحل طفولته الأولى وتستمر حتى نهاية حياته، ولكل ذكرى مكان خاص بها تجعل ذلك المكان ذا أهمية خاصة لدى الفرد. وإذا أردنا جمع تلك الأماكن في مكان واحد نحصل على الوطن الذي يجمع الأهل والأصدقاء ومع مرور الوقت أصبح يجمع بين جميع الناس في تلك الرقعة الجغرافية وحدة الدم والتاريخ والأفراح والآلام. تلك المشاعر التي تنشأ منذ الطفولة تستمر في النمو وتزداد مع مرور الوقت ليجد الفرد نفسه محباً لذلك المكان ويفتخر به ويذود عنه ويصبح هذا المكان وطنه. ومن هنا نشأ الشعر الوطني والذي هو نمط من أنماط الشعر العربي، وهنا لا يفوتني وأنا أتناول هذه المقدمة للإبحار في قصائد ومقطوعات شاعرنا معالي الدكتور سالم بن محمد المالك، المدير العام لمنظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة والتي ضمّنها في مجموعته الشعرية خميسيات حيث انتهج الحكمة منهجا في شعره فـتميز بنمط شعري متجدد ارتآه مسلكا فريدا يبسط فيه أفكاره متمسكا بأخلاق الدين الحنيف، والذي تنطق بها أبياته الشعرية وتنطق بالوطنية وبالأخلاقيات التي يلتزم بها المسلم بديهيا.
والحكمة بوجهة نظر الدكتور سالم المالك تعني العلم و العمل مع موافقة الحق سواء بالفطرة او الاكتساب، من هذا المنطلق استطاع الدكتور المالك ترسيخ مبدأ الحكمة في شعره باعتبارها من مقومات الهوية الوطنية العربية و الإسلامية ويمضي الدكتور المالك من خلال خميسياته باحثا عن القيم المثلى في نبل المقاصد و داعيا للتمسك بها لكونها النهج القويم للإصلاح و تجاوز المعوقات و الصعوبات و التحديات ولذلك اتضح الابداع في شعره سواء كان قصيدا أو مقطوعات، كما نراها في الخميسيات وهناك ثلاثة أسباب لتسمية الدكتور المالك لمقطوعاته الأسبوعية بالخميسيات، وهي:
أولا: سميت خميسيات لأنها تتكون من خمسة أبيات.
ثانيا: لكونها تنشر كل يوم خميس
وثالثا: انها على حسب عدد أبنائه وبناته حفظهم الله، وكأنه يرمز لكل منهم ببيت في خميسياته. وتقرأ لفظ الخميسيات على وجهين، الأول بفتح الخاء وكسر الميم أو خُمَيسيات بضم الخاء وفتح الميم وكلا الوجهين صحيحان في النطق، علما بأن انطلاقة الخميسيات كانت في مطلع شهر فبراير 2015 و في فبراير 2025 ستكمل عشر سنوات لم يتوقف فيهن الدكتور المالك من التواصل الشعري مع عشاق الشعر
وقد أصدرتها منظمة الإيسيسكو ضمن النشاط الثقافي والأدبي، ولا يفوتني أن أنوه بأن الدكتور المالك سبق و أن أصدر كتابا بعنوان مرآة الأيام يحتوي على 365 حكمة بعدد أيام السنة فلا عجب أن تنهمر الحكمة ينبوعا ثرا في شعر الدكتور المالك حيث طرز بشعره لوحة باذخة الجمال تزخر بالحكمة بقوة ألفاظها و صورها البليغة.
وقد صدر من الخميسيات حتى الآن تسعة أجزاء وبصدور الجزء العاشر، كما هو مقرر له في بداية العام 2025 تكون الخميسيات قد عانقت عامها العاشر، والمتصفح لجميع أجزاء الخميسيات خلال عقد من الزمان سيجد أنها تميزت وتفردت بأربع مميزات لا تخفى على عين القارئ المتفحص، وهي:
أولا: أنها تطرقت لجميع جوانب الشعر مثل: الغزل والحماسة والوطنية ووصف المناسبات المختلفة ومكارم الأخلاق والمدائح النبوية، وإن كنت أرى أن مشاعر الوطنية تجلت بوضوح في غالب المقطوعات. حيث اكتنزت بحب فطري للوطن بأبيات تفوح بصدق المشاعر تجاه الوطن وقيادته.
ثانيا: احتوت على الفن التشكيلي إيمانا من الدكتور المالك بأن الشعر والفن التشكيلي متجانسان ومتناغمان ويصوران ما يخالج الفكر ويجاري الأحداث.
ثالثا: الاهتمام بالخط العربي، فكل إصدار من الخميسيات كُتب بنوع من أنواع الخط العربي التي شكلت لوحات زخرفية هندسية لإبراز غناء وثراء وأهمية الخط العربي وترسيخ جماله ومكانته لدى الأجيال القادمة.
رابعا: وهي عبارة عن خمسة أبيات (مقطوعة شعرية) تأتي متزامنة مع الأحداث وتتنقل من بحر إلى بحر ومن موضوع إلى آخر وتطرقت لجميع جوانب الشعر وهي معنونة بالحكمة والتي تتصدر كل خميسية.
ويمكن لمتتبعي الشعر العربي ملاحظة أن الشعر في أسرار الأشياء لا في الأشياء ذاتها، ولهذا يمتاز بقدرته على خَلْق الألوان النفسية التي تصبغ كل شيء وتلوِّنه لإظهار حقائقه ودقائقه حتى يجري مجراه في النفس ويجوز مجازه فيها؛ فكل شيء تعاوَره الناس من أشياء هذه الدنيا فهو إنما يعطيهم مادته في هيئته الصامتة، حتى إذا انتهى إلى الشاعر أعطاه هذه المادة في صورتها المكتملة، فأبانت عن نفسها في شعره الجميل بخصائص ودقائق لم يكن يراها الناس كأنها ليست فيها، و هذا هو نهج شاعرنا معالي الدكتور سالم بن محمد المالك في مقاربته للشعر الوطني في قصائده حيث يؤطر للشعر الوطني نمطا حماسيا مميزا، يجعل منه ذا وقع قوي على مستمعيه بالإضافة إلى جمالية الصور التعبيرية والمصطلحات العربية القوية حيث سجل هذا النمط من الشعر الوطني مكانته بين الشعوب العربية في إثارة الوعي لدى الشعوب العربية بالإضافة إلى الوقوف مع الشعب:
أولا: في مجال خدمة الوطن: هنا يخصص الدكتور سالم المالك للشعر الوطني دوراً مميزاً في تجسيد الواقع الذي يعيشه المواطنون في البلاد ويصف تعايشهم مع التحديات التي يواجهها الوطن من خلال تمسكهم بمجموعة من القيم والمبادئ الراسخة في فطرتهم البدوية، حيث يعمل على شد الهمم في الحروب والمعارك. فيقول في إحدى قصائده معبرا عن ذلك:
ولي وطن تُعطّره السجايا
قوي بالعزائم والمزايا
فما الأوطان إلا من رجال
سهام في الشدائد والرزايا
وفيه من الرجال ذوو إباء
تضيء بما استجادوه السنايا
ومهما حاول الباغون هدمًا
فلن يجنوا سوى بؤس البلايا
فيا وطني سلمت فدتك روحي
فدون حماك لا أخشى المنايا
ثانيا: التغني بالمناسبات الوطنية: حيث يعبر فيه الشاعر عن مشاعره الوطنية من حب وتقدير واعتزاز وافتخار في المناسبات الوطنية المختلفة:
كل شيء في بلادي - مصدر الفخر وزادي
وطني أنت منار - لا تبال بالأعادي
يوم تأسيسك ذكرى - هو يوم ليس عادي
شع في الآفاق نور .. و علا صوت المنادي
والصدى أسمع شآما .. عم مصر والبوادي
حاول الاعداء ظلماً - فتهاوى من يُعادي
ولواء الحق نادى.. فسمت روح الجهاد
وأعيد الملك يزهو - برجال كالجياد
إن رأيت الشبل فينا - شامخاً فذّا ريادي
سترى الشيخ يباهي - - «إنه الحب بلادي»
ثالثا: الاعتزاز بالوطن: اعتاد الشاعر ألا يغفل المناسبات الملحمية والتي تمر على الوطن فتراه هنا يصدح بأبيات فيها من النفس الوطني ما يبعث شعور الاعتزاز والفخر بالوطن فيقول:
حزم وعزم في الرؤى مركوز
ولكل مجد في الحياة رموز
ما قامت الدول الكبيرة ضدها
فهي التي إن أقدمت ستفوز
وهي التي في النائفات تألق
وضياؤه للعالمين يروز
لا من ينافسها وكل أيدوا
والحانقون سواقط ونشوز
يا موطني يا قصة لا تنتهي
هي للأنام مآثر وكنوز
رابعا: الافتخار بالوطن: ولا يكل شاعرنا في تطويع موهبته في الشعر حيث يسعى في نظمه للشعر الوطني إلى إيصال فكرته إلى المواطنين داعيا بفخر وإباء إلى تقديس الوطن وتحفيز مشاعر الحب والانتماء:
إن تُرفع الراياتُ للوطن الأشمْ
فلانه بالحزم قاد وبالكرم
يسمو ويرقى نحو هامات العلا
وينال بالإخلاص موقعه الأتم
بقيادة حكم الكتاب سبيلها
وبسنة، شرع النبي المعتصم
ما القول فيما قد تحقق من رؤى
سيخلد التاريخ ذا الرأي الأهم
يا موطني ما قلت فيك مجاملا
أفدي أياديك الجليلة بالقسم
خامسا: التعلق بالوطن: يمكننا القول إن شعور التعلق بالوطن والحنين إليه أحد أسمى أهداف الدكتور سالم المالك في قصائده، حيث يؤكد على أن أجمل العلن، حُبُّك للوطن:
رأيت فيك جمال الكون يا وطني
فأنت فخر لنا يزهو مع الزمن
لينفخ الكير من في قلبه ضِغَن
فالحلم ننهله من قائدٍ فَطَنِ
وأنبل الناس من تعلو كرامته
ومن إذا رُمْتَهُ تلقاه في المِحَنِ
شعارنا الحزم في أعلى مراتبه
بالعزم نمضي بلا ضعف ولا وهن
إن الشموخ لنا والمجد غايتنا
هذي بلادي: سأفديها بلا ثَمَنِ
سادسا: نشر الوعي الوطني: يسهم الشاعر بما يحمله من مشاعر الحب والتقدير للوطن في تعزيز مكانة الوطن في نفوس أفراده ويخلّد أهمية التضحية بالغالي و الرخيص من أجل أن يبقى الوطن:
ولي وطن أرى فيه الجمالَ
ولم أر مثله بلغ الكمالَ
أُلام بحبه وأراه شمسا
وأعشق أرضَهُ عِشْقا خيالا
أصون وفاءه فأزيد قَدْرًا
وأسعى دونه فأطيب حالا
يموت المرء والأوطان تبقى
ويُذْكَرُ فيها من أوفى الوصالَ
أيا وطني أنا تَفْدِيكَ رُوحي
ويسري حُبُّها فيك ابتهالا
سابعا: في تحفيز شعور الانتماء للوطن: يساهم الدكتور المالك وبشكل عفوي و غير متكلف في تحفيز شعور الانتماء للوطن لدى الشعب والذود عنه ضد الأعداء المتربصين به فيقول في أحد القصائد:
وطن به عزف السلام مواطنه
والخير فيه لمن أراد مكامنه
هو دائماً بلد المروءة والنهي
من جاءه وجد القلوب حواضنه
وعهدته في كل ضائقة جثت
بالجود يمنح ماءه ومعادنه
أرخصت عمري والحياة وما بها
بذلا يغذي مجده ومحاسنه
لا شيء يعدل موطني فمحبتي
عشقت على مر الزمان مفاتنه
ثامنا: تعزيز القيم العليا واللحمة الوطنية: يحفز الشعر الوطني في شعر الدكتور سالم المالك، الشعب على دفعهم بكل حماسة للعمل على بناء الوطن والصعود به إلى القيم العليا مع احترام وحدة الأرض ويعزز فكرة الوحدة الوطنية والمساواة بين المذاهب والطوائف في البلد الواحد دون تمييز أو تفرقة بين هذا وذاك. والتأكيد على أن الوفاء للوطن، معدن الأمن والرخاء:
إنا إذا وقع النزال أشاوس
صبر إذا حمى الوطيس فوارس
إن قيل لبوا للنداء فإننا
كالبرق يعرفه الظلام الدامس
نحن الجبال صلابة وسيوفنا
ان تلتمع فرّ العدو الخانس
فلقد قطعنا العهد نحو مليكنا
وولي عهد بالإخاء يُدارس
وطني فدت مغناك كل جوارحي
فجميعنا فيك الأم ين الحارس
تاسعا: مشاعر الحنين إلى الوطن: يمكننا القول إن شعور التعلق بالوطن والحنين إليه أحد أسمى أهداف الدكتور سالم المالك في قصائده، حيث يصف حبه للوطن ومدى العذاب في البعد عنه ولا يغفل الدكتور سالم المالك هذه الوظيفة في شعره الوطني، بل يسترسل في حنينه فيخاطب وطنه وكأنه معشوقته التي غاب عنها طويلا فيترجم شوقه للوطن بهذه الأبيات:
ولي بلد يعانقه السحابُ
وترفعه المكارم والوثابُ
إذا ما زرته أيقنت أني
غريب في جوارحه مصابُ
فإن قيل الرياض اهتز قلبي
فكم يحلو بها الشهد الرضابُ
فمن بين المدائن شع نورٌ
لها كالبدر زينه الشبابُ
فسيري يا بلاد الخير إني
أراك الحسن هام به الربابُ
عاشرا: تمجيد البطولات الوطنية: شهد الشعر الوطني على مر العصور تصوير الأحداث الوطنية الخالدة والتي سجلت في تاريخ الأمم، حيث عمل الشعراء على تخليد هذه الأمجاد بقصائد حماسية ثورية بقيت راسخة في عقول الجميع. وكم كان شاعرنا مبدعا وموفقا في تلخيص مسيرة الوطن منذ يوم التأسيس حتى يومنا هذا عندما ينظم متغنيا بأمجاد الوطن في يوم التأسيس:
جاد الزمان وكم نراه يجود
والخير في أرض الهدى معهود
كم من بلاد في العصور تسيّدت
ثم اختفت والغابرون حشود
في فجر يوم خالد ومبارك
جاء الأمير وعهده الممدود
ابن السعود محمد ومؤسس
لبلادنا والمنجزات شهود
بقيت على مر الزمان أبية
الأمن فيها والأمان يسود
وكقدر كل الشعراء السعوديين العظام في الوقوع بعشق مدينة الرياض عاصمة الوطن لم يكن شاعرنا الدكتور سالم المالك استثناءً، فقد خصص الكثير من شعره لمخاطبة الرياض ومغازلة الرياض و تمجيد الرياض شأنه شأن الراحل الشاعر، السفير، الأديب، الروائي، الأكاديمي، ومعالي الوزير: الدكتور غازي القصيبي رحمه الله في قصيدته (أنتِ الرياض) حيث انتهج نهجا فريدا في حب الرياض و جعلها في مقام الحبيبة ومزجهما مع بعضهما حتى أصبحا في النهاية شيئاً واحداً، فتُذكّره الرياض بالحبيبة والحبيبة بالرياض.. فيقول رحمه الله:
وفاتنة أنتِ مثل الرياض ترقّ ملامحها في المطر وقاسية أنتِ مثل الرياض تعذب عشاقَها بالضجر ونائية أنتِ مثل الرياض يطول إليها.. إليكِ.. السفر
وعلى نسق مماثل في تمجيد ومدح الرياض وتحيتها شارك شاعرنا الدكتور المالك محبي الرياض وعاشقيها ولم يحاول أن يستأثر بها لوحده فقال:
هتف الجميع مفاخرًا مسرورا
تحيـا الرياض تألقًا وحضورا
ستكون شمسًا للعوالم كلهـا
وتفوح مسكًا طيبًا وزهورا
ثم ينتقل إلى تمجيد تاريخها ويوثّق دورها الأساس في كونها نقطة انطلاقة المؤسس في إعادة توحيد الدولة السعودية فيقول:
هذي الريـاض إلى الأمام ريادة
تزهو بمن راض الصعاب جسورا
منهـا سرى عبدالعـزيز بهمة
وأعاد ملكـًا للبلاد ونورا
وتلاه أبناء بحكم راشد
وحفيده من بعدهـم منصورا
ولم يكتف شاعرنا بذلك، بل قام بتمجيد أهل الرياض و سكان الرياض وقاطني الرياض فقال:
إن جئت ضيـفًا للرياض ستلتقي
شعبًا كريمًا شاكرًا مشكورا
وتظن أنــك بين أهلك آمنًا
وستستفيض معزّة وحبورا
إن الرياض بما لها من تالد
في كل يوم تستعـزّ ظهورا
من عاش في أحيائها ورياضها
سيظل مفتونًا بها مأسورا
ولا يكاد شاعرنا في غمرة احتفائه بالرياض إلا أن يفصح عن حبه وعشقه ويظهر نوعاً من الحرمان الذي كان يعانيه وهو بعيد عنها فيعترف بشوقه وعشقه لمدينة الرياض فيقول:
إني عشـيقك يا رياض وهل ترى
لأسير عشقك أن يكون صبورا
ويقول أيضا:
فإن قيل الرياض اهتز قلبي
فكم يحلو بها الشهدُ الرضابُ
التحليل الأدبي و الفني للمقطوعات التي تناولت حب الوطن في الخميسيات:
الوطن هو محور أبيات الشاعر على اختلافها وتنوّعها، ولذلك لا تخلو قصيدة أو قطعة أو حتى نُتفة أو يتيم من العبارات التي تُشيد بوطنه وترسِّخ وطنيَّتَه، لذلك فالألفاظ: وطن، الأوطان، وطني، بلادي، موطني، بلد المروءة، أرض الهدى. نجدها وفيرة في الأبيات، تتشابك مع الكلمات التي تحمل معاني الحب والفخر والتمجيد والفداء، وهي غزيرة في النصوص، ومنها: أعشق عِشْقا، تَفْدِيكَ رُوحي، محبتي، العزائم، إباء، الفخر، الجهاد، مجد، تألق، مآثر، الأشم، يسمو، هامات العلا، جمال، كرامة، الشموخ، حب، النُّهى، الجود، محاسنه، أشاوس، فوارس، نحن الجبال، اهتز قلبي، المكارم، المنجزات، أبية، مفاخرًا، همّة، منصور، كريم، معزّة، تستعزّ. فكان النص وطنيًّا بامتياز، يلامس وجدان كل مواطن يعرف معنى الوطنية ويدرك حق الوطن وما يجب عليه تُجاهه.
وبتعدّد القصائد والقِطْعَات الشعرية تعدّدت الإيقاعات الخارجية والداخلية؛ فتمثّل تنوّع الإيقاع الخارجي في تنوّع البحور الشعرية، فمنها الوافر ومجزوؤه، والكامل، والبسيط، وقد غلب الوافر والكامل عليها، مما جعل الأبيات طربية تُناسب التغنّي بالوطن وذكر أمجاده وإنجازاته. كما تنوّعت القوافي بين المطلقة والمقيّدة، وغلبت عليها المطلقة فكانت ملائمة لإطلاق الصوت ومدّه مُفاخَرَةً بعناصر الوطن وانتشاءً بروح الوطنية. وتنوّع الروي بين الياء والدال والزاي والميم والنون واللام والسين والباء والراء، وهكذا كانت الحروف اللسانية أكثرها، وهذا أمر طبيعيٌّ لأن أكثر الحروف مخرجها اللسان، والمدقّق في هذه الحروف يجد أنّ (الراء والميم والنون واللام والباء) مُذْلَقَةً وهذا ما يجعل الروح العربية تسري في جسد القصيدة، فقلّما توجد كلمة عربية تخلو من هذه الحروف لسهولة النطق بها.
وأما الإيقاع الداخلي فقد حفلت به الأبيات؛ فجاءت جميعها مرصّعة المطلع؛ حيث جاء التصريع بين الكلمات: (السجايا/المزايا) و(بلادي/زادي) و(مركوز/رموز) و(الأشم/الكرم) و(وطني/زمنِ) و(الجمال/الكمال) و(مواطنه/مكامنه) و(أشاوس/فوارس) و(يجود/معهود) و(حضورا/مسرورا). وهذا المحسّن البديعي اللفظي عكس على القصائد افتتاحًا موسيقيًا مُمتِعًا، ينبع من الالتزام بعمود الشعر العربي الأصيل. كما لعبت الكلمات المتناسقة والمنسجمة دورًا بليغًا في الموسيقى الداخلية، وذلك من حيث أصواتها وعدد حروفها وحركاتها وسكناتها، خصوصا كلمات القافية، ومنها: (السجايا، المزايا، الرزايا، السنايا، البلايا، المنايا) و(أعادي، منادي، بوادي، يعادي، جهادِ، جيادِ، ريادي، بلادي) و(رموز، تفوز، يروز، نشوز، كنوز) و(الكرم، الأتم، الأهم، القسم) و(زمن، فطن، محن، وهن، ثمن) و(كمال، خيال، وصال، ابتهال) و(مكامنه، مواطنه، حواضنه، معادنه، محاسنه، مفاتنه) و(فوارس، أشاوس، الدامس، الخانس، الحارس) و(وثاب، سحاب، مصاب، رضاب، شباب، رباب) و(معهود، حشود، الممدود، شهود، يسود) و(حضورا، مسرورا، زهورا، جسورا، منصورا، مشكورا، حبورا، ظهورا، مأسورا، صبورا). بالإضافة إلى بعض العبارات التي وردت بتقسيم متساوٍ، مثل: (إن الشموخ لنا، والمجد غايتنا)؛ وهذا التجانس بين الألفاظ والتناسق بين العبارات أنتج توازنًا صوتيًا يضاف إلى الموسيقى الداخلية التي أدّت وظيفتها في التأثير الإيجابي على أُذْنِ المتلقّي مما يحرّك فيه إحساسا عميقًا وشعورًا نفسيًا دفّاقًا.
ولا تكاد تخلو قطعة شعرية من صورة شعرية، فقد وردت الاستعارة في قوله: (ولي وطن تُعطّره السجايا) فشبّه الوطن بشيء قابل للتَّعطُّر مثل الثوب، وحذف المشبه به وأبقى على أحد خصائصه على سبيل الاستعارة المكنية، وللإغراق في المجاز جعله يتعطّر بالسجايا، فكأن السجايا طَيْبًا ملموسا أو عطرًا فوَّاحا يُدرك بالحواس. وقد كان لهذا النوع من الاستعارة حضور جزيل، فقد وردت في قوله: (يسمو ويرقى نحو هامات العلا) وفي قوله: (ويسري حُبُّها فيك ابتهالا). كما وردت أنواع التشبيه المختلفة، ومنها: التشبيه البليغ في قوله: (نحن الجبال) وفي: (ستكون شمسـًا للعوالم) والتشبيه التام في: (شعّ نورٌ لها كالبدر). وجاءت الكناية في قول الشاعر: (ولي بلد يعانقه السحابُ) كناية عن المجد والإباء وعلوّ الكعب والمقام. وقد أثّرت هذه الصور على الأبيات فجمّلت فنّيّتها وأبرزت شاعريّتها وزيّنت أدبيّتها.
وكان للمحسّنات البديعية حضور غزير في الأبيات؛ فمنها اللفظية، مثل الجناس الناقص في: (حزم وعزم) و(الأمان والأمن). ومنها المعنوية، مثل الطباق الإيجاب في: (يموت وتبقى) و(ضائقة والجود)، وطباق السلب في: (أرى ولم أر)؛ وقد خدمت هذه الصور التنوّعَ البياني للقصائد فزادتها بلاغة وجمالا. كما كَثُرَ الإطناب المتمثّل في كثرة المرادفات، مثل: (الشدائد والرزايا) و(يسمو ويرقى) و(ضعف ووهن) و(الشموخ والمجد)، وفي العبارات المتلازمة، مثل: (مفاخرًا مسرورا) و(تألقًا وحضورا) و(مسكًا طيبًا وزهورا) و(معزّة وحبورا)، وأيضا في وفرة الاشتقاقات، مثل: (أعشق/عِشْقا) و(وطن/الأوطان) و(جاد/يجود) و(شاكرًا/مشكورا). هذا كلّه يدلُّ على سعة قاموس الشاعر وموسوعيته وحسن انتقائه للجمل التي تشعُّ بالشاعريّة والاتساق.
وقد غلب الأسلوب الخبري على القطع الشعرية، لأنه يوائم الفخر والإشادة وسرد الحقائق وذكر المنجزات، فتنوعّت صيغه التي كثر منها التوكيد، مثل: (إنّ الشموخ لنا والمجد غايتنا، إنّ الرياض.. تستعزّ ظهورا، إنّا إذا وقع النزال أشاوس)، والشرط، مثل: (فهي التي إنْ أقدمت ستفوز، إِنْ قيل لبوا للنداء فإننا كالبرق، فإِنْ قيل الرياض اهتز قلبي). وقد كان للأسلوب الإنشائي نصيب في النصوص؛ حيث تعدّد النداء في مثل قوله: (فيا وطني سلمت، يا موطني يا قصة لا تنتهي)، والاستفهام في: (وهل ترى لأسير عشقك أن يكون صبورا؟). وهكذا تكامل الأسلوبان الخبري والإنشائي لخدمة الغرض العام للقصائد وهو ال فخر والتغني بأمجاد الوطن وحُكّامه وشعبه.
وعلى ضوء ما سبق يمكن الحكم على عاطفة الشاعر بالصدق تُجاه وطنه الذي خلّده في جميع قصائده، وقد بدت رؤيته عميقة متناسبة مع الموضوع، ومشاعره واضحة صادقة وموقفه الوطني لا لبس فيه؛ كل هذا عبّر عنه بنصوص مفعمة بحيوية ألفاظها، ومطربة بحسن إيقاعها، ومتينة بجودة سبكها، وبليغة بانتقاء تراكيبها. ووجود هذه الخصائص في جميع الأبيات يجعل المتلقّي يشعر بتلاحم النصوص حتى كأنها نص واحد رغم تفرّقها، كما يلمس إبداع الشاعر وعبقريته في جلّ الأبيات التي يمكن للبيت الواحد منها أن يكون قصيدة متكاملة في البناء والمعنى والبلاغة.
هذه جولة سريعة (في خميسيات معالي الدكتور) التي بقي لنا الكثير لنقوله في شاعريته المستندة إلى تجسيد حب الوطن وتمجيده والتغني بإنجازاته، و هذا غيض من فيض، فتلك المشاعر الوطنية لا تنقطع بهذه المختارات ولا تقف عند الإصدارات الأولى من الخميسيات بل نجدها حتى في القصائد الأخرى والتي ينشرها الشاعر بشكل متتالٍ.
هنيئاً لنا مثل هذه القامة الأدبية الشامخة، وهنيئاً لكل من عرف هذا الإنسان الرائع الذي قدم للمجتمع الأدبي المحلي والعالمي ما عجز عن تقديمه المئات من الأطباء، ونأمل أن يكون هذا الوفي لبلده ولزملائه ولعمله قدوة للكثير من الأشخاص للنهوض بواقع الأدب في المملكة العربية السعودية. وأن يستمر في تمثيل الوطن خير تمثيل على كل الأصعدة وفي كل مجالاته الثقافية والدبلوماسية.
** **
استشاري الأمراض الصدرية والعناية المركزة - المدير الطبي بمستشفى الدكتور عبدالرحمن المشاري الخاص في الرياض