أ.د.عبد الله بن سليم الرشيد
الرأي مع الرأي فكر، والفكرة التي تقارع الفكرة تنمو ويشتدُّ عودها، وتثمر. ومن مشكلات الإنسان ضيقُ عَطَنِه بالمخالف، مع أن المخالف النبيل ضدٌّ جميل، والضدُّ يُظهر حسنَه الضدّ. وبضدِّها تتمايزُ الأشياء.
تلك نظرية حلوة، وإعمالها فيما نُنتج وما نستقبل مُرٌّ، ولا يصبر على مرارة التفكير سوى أشِدّاء العقول. والصبرُ على لأوائها شاقّ، ومن المشقّة تولد الراحة:
بصُرتَ بالراحة الكبرى فلم ترَها تُنالُ إلا على جسر من التعبِ
قبل نحو ربع قرن جمعني مجلس كريم بأخي الدكتور عبدالله بن محمد التويم أستاذ الإعلام، وكان إبان ذلك رئيسًا لتحرير صحيفة (مرآة الجامعة) الصحيفة الداخلية لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، فقال واستمعت، وقلت واستمع، وجرى ذكر الصحيفة فقال: ألا تبعث إلينا ما ننشره؟ فقلت ولم أتردّد: عندي مقالة لا أظنكم ناشِرِيها.
فقال ولم يتلكّأ: بل ننشرها مهما كانت.
فوعدته إرسالَ المقالة، ثم وفيتُ فوفى، وإذا هي منشورة في الصحيفة بعد أيام، وعنوانها (الدعوة: أهي تخصص علمي؟) ومن حفاوتِه بالرأي أنْ جعلها في زاويته التي تُنشرُ في كلِّ عدد، وكتب تحت العنوان (كتبها بالإنابة فلان بن فلان).
عرضتُ في المقالة لقسم في الجامعة يسمى (الدعوة)، زُعِم أنه يدرّس تخصصًا مباينًا للتخصصات الأخرى، وكانت وجهة نظري أنه لا يصلح لأن يعدّ تخصصًا علميًّا، فالدعوة ممارسة تتكئ على معرفة بالعلوم الشرعية، ومهارة في أساليب الدعوة، وليست علمًا مستقلًّا، وقد يتولاها الطبيب والمهندس والنجار والطباخ والنوتيّ والإسكافي.
ورأيت أن فتح قسم بهذا الاسم جعل الضعفاء يتقاطرون عليه، ويدرُسون فيه، لا رغبةً في أن يكونوا دعاة، بل طمعًا في شهادة جامعية، وأشرتُ إلى أني درّست في ذلك القسم، موفَدًا من كلية اللغة العربية، لتدريس النصوص الأدبية، فوقفت على ضعف شديد في أغلب الطلاب، وركاكة في القدرات عجيبة، ومجاملة من مدرسيهم لهم، جعلتهم ينجحون، على ما في جُلّهم من الضعف والخوَر، ثم ختمتُ المقالة بأن من الخير للجامعة وللمجتمع أن يُغلق هذا القسم.
كان ذلك رأيًا لا افتئات فيه على أحد، ولا شتمَ فيه ولا سباب، فثارت ثائرة بعض منسوبيه، وأعانهم على الثورة قومٌ آخرون، وتألّب معهم قومٌ من العَجَاجيين، أي من يحبون العَجَاج، ويستمتعون باستنشاق الغبار، فما هو إلا أن نشر رئيس القسم آنذاك، وفقه الله، مقالة عنوانها (ما لا تعرفه عن قسم الدعوة)، ونشر آخرون ما يقاربه، وغَمَز آخرون، وصفّر لهم جماعة، واختلط حابلٌ بنابل، وكان ما كان، مما أذكر بعضَه وأُعرِض عن بعض، وشُتِم الكاتبُ والصحيفةُ ورئيسُ تحريرها.
ومضى حينٌ من الدهر، فلقيت الدكتور عبدالله التويم رئيسَ التحرير، فحدّثني أنه بعد نشر المقالة، جاء إلى مكتبه من الغدِ، على ما اعتاد كلَّ صباح، فإذا عميدُ الكلية قاعدٌ على كرسيّه (أي كرسيّ رئيس التحرير)، قال: فسألته: ما الأمر؟ ولماذا أنت على كرسيّي؟ فأجاب: من اليوم فصاعدًا لا بدّ من أن يمرّ كلّ مقال عليّ، فأجيزَه، قبل أن يُنشر في الصحيفة! قال: فقلت: وما عملي إذن؟ هذا لا يستقيم، إما أنت وإما أنا.
وأردف: ثم وضعت مفتاح الغرفة على سطح المكتب، وقلت: لا يجتمع رئيسا تحرير لصحيفة واحدة. وخرجت. ولم يدعُني بعد ذلك، ثم رأيت اسم غيري على الصفحة الأولى من الصحيفة، مكلَّفًا رئاسةَ تحريرها. انتهى كلامه.
أقول: يا للعجب من فئامٍ لا يريدون إلا أن يسمعوا أصواتَ أنفسهم، أليس من الخير لهم -وتلك حالُهم- أن يعيشوا في الأودية والقفار؟ حتى إذا صاح صائحهم ردّد الصدى صوته، ولْيطرَبْ حينئذ، ولْيمزّقْ ثيابه طربًا.
وأما الدكتور عبدالله التويم فيكفيه أنِ انتصر للرأي، وضحّى برئاسة التحرير، ولم يعبأ بعقابيل قراره. فله ولأمثاله أصحابِ الرأي والمبدأ الحصيف أقفُ وأصفّق.