الكتابة ليست مجرّد كلمات تُسطر على الورق، بل هي انعكاس وجداني عميق يتداخل مع العقل المتقد. إنها لغة تتجاوز الحدود المألوفة، تحمل بين طيّاتها إحساسات وتجارب قد تكون عايشتها أو كنت شاهدًا عليها. ليست الكتابة وليدة خيال بحت أو وهم زائل، بل هي الحقيقة المغموسة بالدموع والمغلفة بالألم، تلك الحقيقة التي تترك أثرًا دائمًا في الكاتب وترافقه مدى الحياة.
عندما تبدأ الأصابع في خطّ الحروف، تنبع الكلمات من أعماق النفس، كأنها قطرات ندى تتساقط بعد ليلة عاصفة. هي لحظات تجد فيها الكلمات طريقها من قلب الكاتب إلى العالم، معبّرة عن مشاعر قد تكون دفينة، لكنها حقيقية. الكاتب يعيش تلك المشاعر ويتألم لآلامها ويبكي لدموعها. ورغم الألم، تعيد الكتابة للكاتب تماسكه، تُرممه من الداخل وتمدّه بالهدوء الضروري لاستمرار الحياة.
يحاول الكاتب من خلال كتاباته أن يُرسل رسالة عميقة إلى الإنسانية. هذه الرسالة تتعلق بالصراع الأزلي بين الخير والشر. في هذا السباق الأبدي، لا يُعرف أيهما يصل أولًا، لكنّ صفحات الكتب تبقى شاهدة على هذا الصراع. إنّها مليئة بهواجس الإنسان وبصراعاته الداخلية، وبظلمه وعدله، وبتناقضاته التي تعكس طبيعته البشرية.
الكتب تُشبه الرمال، تتراكم الحكايات فيها كما تتراكم حبات الرمل في الصحراء. كلّ صفحة هي جزء من قصة أكبر تعكس مشاعر الإنسان وخبراته وأحلامه. إنّها مرآة تعكس طبيعة البشر بكلّ تعقيداتها. الكاتب، أثناء سرد الحكايات، يتأرجح بين الحقيقة والخيال. الحكايات تُشبه أعمدة طويلة تتسلّق الطيور قممها. من هناك، تُشاهد هذه الطيور العالم بعيون مختلفة. تُراقب ما فعله الإنسان، وتراه بكلّ جماله وقبحه، وبحقيقته وخياله.
هذه الحكايات ليست مجرّد قصص للتسلية، بل هي انعكاس لتجربة مع العالم. الكاتب يعيش محنة دائمة، فهو المسؤول عن تنظيم الحكايات لمنحها معنًى وهدفًا. لكنّ هذه المهمة ليست سهلة، فهي تتطلب منه أن يعايش كلّ كلمة يكتبها.
في كثيرٍ من الأحيان تصبح هذه المحنة عبرة لغيره. فمن خلال حكاياته، يُقدّم الكاتب دروسًا للبشرية، ويروي قصصًا تحمل في طيّاتها شغفًا لا ينطفئ. لكنّ الكاتب لا يتوقف عند هذا الحدّ، فهو أيضًا يتخيل المستقبل. عقله يعصف بالتخيلات التي تتجاوز الحاضر، وتنظر إلى ما قد يكون، تتساءل عن مصير البشر وعن شكل العالم القادم. هذا الجانب من الكتابة رغم صعوبته، هو ما يجعل الكتابة فنًا خالدًا. فهي ليست مجرّد تأريخ للحاضر، بل نافذة على المستقبل.
إنّها رحلة إنسانية عميقة تبدأ من الذات وتنتهي بالعالم. الكاتب يعيش كلّ لحظة من هذه الرحلة، يتأمل ويتعلّم ويُعلم. من خلال كلماته، يُقدّم لنا العالم كما يراه، يفتح لنا أبوابًا لم نكن ندرك وجودها. إنّها تجربة تُغني حياة الكاتب وتُضيف إلى حياة قرائه، بل هي حياة كاملة مليئة بالإحساس والعقل والأمل. إنّ جوهر الكتابة يكمن في قدرتها على خلق توازن بين العاطفة والعقل.
العقل يلعب دورًا في ترتيب الأفكار واختيار الكلمات وبناء الحكاية. أما العاطفة فتبقى حاضرة، تضفي على الكتابة تلك اللمسة الإنسانية التي تجعلها حقيقية ومؤثرة، هذا التوازن ليس سهلاً. فهو يتطلب من الكاتب أن يكون صادقًا مع نفسه حين يعبّر عن مشاعره. إنه فنٌّ يحتاج إلى ممارسة وتأمل وشجاعة. فالكتابة الحقيقية هي تلك التي تجمع بين القلب والعقل، بين العاطفة والتفكير.
الكتابة ليست مجرّد أداة للتعبير، بل هي وسيلة لاستمرار الحياة. من خلالها يُمكن للكاتب أن يتعامل مع مشاعره ويفهمها، لكي يُحولها إلى شيءٍ إيجابي. إنّها وسيلة للتغلب على مواجهة التحدّيات في عالم مليء بالتناقضات. تُقدّم الكتابة للإنسان وسيلة على رؤية الجمال في وسط القبح، على العثور على الأمل في وسط اليأس. من خلالها، يُمكن للكاتب أن يُثير التساؤلات ويُحفّز التفكير ويُغيّر المفاهيم.
الكلمات لها قوة، والكاتب يعرف كيف يستخدم هذه القوة. من خلال الكتابة يُمكن للكاتب أن يُسلّط الضوء على القضايا التي تهمّه ويُعبّر عن رأيه ويُدافع عمّا يؤمن به. إنّها وسيلة للتواصل وللتعبير وللتغيير. الكتابة الحقيقية هي تلك التي تُحدث فرقًا، فتُغيّر حياة الناس وتُلهمهم، إنّها حياة.
إنّها تجربة تُغني حياة الكاتب وتُلهم قرّاءه، وبهذا تبقى الكتابة وسيلة لفهم هذا العالم، وللتعامل مع تحدّياته، إنّها فعل يتجاوز الزمن الذي يحمل في طيّاته جمال الإنسانية بكلّ تناقضاتها.
** **
- فؤاد الجشي