لا يكاد يوجد إنسان إلا وشعر بعجز اللغة، وبأنَّ الكلمات تقصُر عن الإحاطة بكل ما يدور في صدره من أفكار ومشاعر. وترتفع بين الكتّاب والروائيين والفلاسفة نبرة استياء من قيود اللغة، حتى أنَّ الروائي ألبرتو مانغويل وصف اللغة بأنها أضعف الأدوات التي يملكها البشر «فنحن نريد التعبير عن شيء مذهل ومعقد، وفي النهاية نكتفي بكلمة: أُحبُّك» (داخل المكتبة خارج العالم، 152).
كذلك الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط الذي رأى أنه: «على الرغم من الغنى الكبير للغاتنا، يجد المفكّر نفسه غالبًا في مأزق العثور على لفظ يعبّر بدقة عن مفهومه الذي لا يمكنه أنْ يعبّر عنه من دون ذلك اللفظ بطريقة مفهومة، لا للآخرين ولا حتى لنفسه» (نقد العقل المحض، 194).
حتى المطرب الراحل طلال مداح عرف هذا الشعور حين غنَّى: (تصدّق ولا أحلف لك/ عجزت بلساني أوصف لك...).
يخوض الإنسان يومياً صراعًا لا يهدأ في سبيل انتزاع الكلمات من فكِّ اللغة، ثم يكتشف بعد ذلك أن كلماته ليست سوى انعكاس شاحب للفكرة التي في ذهنه.
وكم أدركنا متأخرين أن ما قلناه ليس تماماً ما أردنا قوله! وكم أسأنا الفهم! وكم أسيء فهمنا! لأننا تعثرنا بأغلال اللغة؛ الأمر الذي يدفعنا أحياناً إلى الشك في قدرة اللغة على تحقيق تواصل إنساني فعّال!
ويبدو أن الإنسان هو الكائن الوحيد القادر على أن يتحدث لساعات طويلة متواصلة ومع ذلك فهو لا يضمن أنه أوصل المعنى الذي يريد.
صحيحٌ أنَّ اللغة إذا ما نُظِر إليها كوسيلة للبقاء فإنها وسيلة ناجحة جدًّا وتؤدي وظائفها بكفاءة كالتحذير من الخطر، والتعبير عن الجوع والألم، وطلب النجدة ... إلخ، لكنْ تأتي على اللغة حالات كأنما ينقطع لسانها، وتصبح الأفكار أكثر حساسية من قدرة الكلمات على التقاطها.
ويمكن إيجاز هذه الحالات في النقاط التالية:
1- الروائح:
تُعَدُّ الروائح من الظواهر العصيّة على التعبير، وحين يجد المرء نفسه مضطرا أن يصف رائحة عطر على سبيل المثال، يصبح من الصعب إعطاء فروق دقيقة بين الروائح بما يضمن وضوح الوصف في ذهن السامع. وكثير منّا يلجأ في التعبير عن الروائح إلى أوصافٍ عامة لا تعبر إلا عن شعورنا بالقبول أو النفور.
وتذهب بعض الدراسات إلى أن صعوبة التعبير عن الروائح تعود إلى طبيعة الجهاز العصبي للإنسان وطريقة تنظيم عمل الدماغ “فالأجزاء المخية الضالعة بصفة وثيقة في عمليات استعمال اللغة ذات روابط ضعيفة مع الجهاز الشمي” (الرائحة أبجدية الإغواء الغامضة، بيت فرون، ص 199).
2- التجارب النفسية المؤلمة:
كفقدان شخص عزيز، وأكاد أجزم بأن نصوص المرثيات وإنْ تمكّنت من إرضاء المتلقي فإنها لم تستوفِ مشاعر أصحابها.
ومن التجارب المؤلمة كذلك التعرّض لتجربة مروّعة كالحروب والتعذيب والاعتقال. ومن يقرأ أدب السجون يلاحظ أن الثيمة المشتركة بين المؤلفين إحساسهم بعجز اللغة عن وصف الأهوال التي عانوها.
وكذلك الأشخاص المصابون بالاكتئاب من الدرجة المتوسطة إلى الشديدة فإنَّهم يجدون مشقّة في التعبير عن الطبيعة الغامضة للاكتئاب؛ ما يجعلهم عرضة لسوء الفهم وبأنّ الاكتئاب الذي يعتريهم مجرد كلمة مرادفة للحزن.
3- المشاعر المعقدة:
كالمشاعر الغامضة الخاطفة التي يصعب إدراجها ضمن شعور محدد بعينه؛ لكنها خليط من المشاعر المتداخلة كالشعور بهوية المكان، أو كالحنين الجارف إلى شيءٍ ما غامض، يشبه لحظة انفصالنا عن العالم عندما نستمع لأغنيةٍ ما: فيضٌ مضطرب من الصور والمشاهد المتلاحقة... وجوه.. منازل... طرقات… عذوبة غامرة، وعالم نقي. وغيرها من المشاعر العميقة التي لم توضع لها أسماء، والتي يزخر بها الإدراك الإنساني.
4- البديهيّات:
كما يصعب التعبير عن الشيء لشدة خفائه، كذلك يصعب التعبير عن الشيء لشدة وضوحه، وكما قيل في المثل: من المعضلات توضيح الواضحات.
والسر في ذلك يعود لعامل الأُلفة والاعتياد؛ فالأشياء الحسية التي اعتادت العين على رؤيتها بشكل دائم، تصبح لاحقا غير قابلة للملاحظة وكأنها غير موجودة، وكما لو أن العين قد أصيبت بالعمى، وينطبق أيضا على عالم الأفكار فالفكرة البديهية المألوفة يجد العقل صعوبة في ملاحظتها، وبالتالي صعوبة في التعبير عنها.
5- الجمال الفائق:
أمام الجمال المذهل ينعقد اللسان، وتصبح اللغة غير كافية، فلا يبقى للمرء سوى اللوذ بالصمت أو إعلان العجز. وهو ما حدث للشيخ والمفسّر برهان الدين البقاعي في كتابه “نظم الدرر” فحين أراد أن يصف جمال النظم للقرآن الكريم، انتهى به المطاف إلى الاعتقاد بأنه لا سبيل إلى وصف إعجاز القرآن إلّا بإعلان العجز عن وصفه، وهو تعبير يصلُح لوصف كل جمالٍ مبهر.
6- المفاهيم العلمية والفلسفية الموغلة في التجريد:
من هذه المفاهيم: مفهوم الزمن والزمكان في الفيزياء واللا نهائية في الرياضيات والمفاهيم الفلسفية والفكرية كالوعي والنفس والمنهج والنظرية والمعنى والفكر ... إلخ.
وقد استحوذ على الفلاسفة والعلماء حلمٌ باختراع لغة مثالية تعبر بدقة عن مفاهيمهم وتتجاوز ما يرونه نقصًا في اللغات الطبيعية، ولعل أشهر هؤلاء الفلاسفة: جوتلوب فريغه، ولودفيغ فتغنشتاين، ومارتن هايدغر.
أخيراً، وكي لا يُظنّ أن المقالة تحاول رسم صورة متشائمة عن اللغة، تبقى اللغة من أعظم النعم التي وهبها الله للإنسان، وهي الملكة التي منحت الإنسان قفزته السحرية ليعتلي سلّم الكائنات.
وإذا كانت اللغة تضيق في بعض المواضع فإنها تتسع في مواضع كثيرة لا حصر لها، ويكفي اللغة شرفا أنّنا لا نستطيع الكلام عنها إلا بها.
بل هناك من المعاني ما لا يمكن لوسائل التعبير الأخرى كالموسيقى والرسم أن تعبّر عنها بالكفاءة نفسها التي تعبّر عنها اللغة. فعلى سبيل المثال القصة التي كتبها القاص الأمريكي “شون هيل” وهي من أجمل القصص القصيرة، وتحمل رؤية إنسانية ومعاني عميقة لا تستطيع ريشة رسام ولا آلة موسيقيّ ولا كاميرا مصِّور أن تلتقط مثل هذه المعاني:
صرخ (بيلي) ذو الخمسة الأعوام: سيارة إطفاء!
وقد أخبرته أمه أن أباه رجل إطفاء.
كبـُر (بيلي) فأصبح يشعل النيران؛ لعلَّه يلتقي بأبيه”
** **
- خالد القعيب
Guaib1404@gmail.com