سهام القحطاني
{قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} -الأعراف 188-
هل كلما تطور فكر الإنسان وعلمه ابتعد عن ما هو خرافي؟ أو اقترب من كل ما هو خرافي؟
ولعل هذه المسألة لا تُقاس بهكذا مسطرة، بل تُقاس بمقادير خوف الناس من المستقبل في زمن الصراعات والحروب؛ حتى يحدد المرء مساحته الآمنة الاستباقية، فالخوف يكسر أصولنا العقلية ويدفعنا نحو الكهنة والعرَّافين.
ليظل الخوف التجارة الرابحة التي لا تخسر أبداً لتُجار دمار البشرية.
خوف كل يوم يغيِّر قناعه لكنه يظل بمستوى ذات الأثر على النفس البشرية التي تركض نحو المعرفة الاستباقيّة للقدر لتبحث لها عن مساحات آمنة بعيدة عن مصادر الخوف وتهديداته.
فتطلع الإنسان إلى معرفة ما يخفيه القدر تكاد تكون شبه فطرة لم تتغيَّر مع تطوره الفكري، منذ الأجداد الأوائل، بل وما قبل نزوله إلى الأرض؛ عندما وسوس الشيطان لآدم ليأكل من الشجرة المحرَّمة لمعرفة ما تخفيه له من قدر إذا أكل، وقد تكون نزعة الخوف وراء كسر قيد التحريم، وقد تكون نزعة المعرفة التي قدّرها الله له عندما علَّمه الأسماء كلها، ولا تزال تلك النزعتان متجذرتين في الطبيعة الإنسانية.
وفي الأرض تقابل الإنسان مع مجهول الطبيعة الذي يحيط به ويتحكم في مقادير موته وحياته؛ لذا سعى إلى وسائل اكتشاف ذلك المجهول وتسخيره لمصلحته وأمنه وحياته، ومن هذا الخوف نشأت حكاية الإنسان مع «النجوم» أو التنجيم، فالإنسان في ذاته كما يقول «ابن مسكويه» في المسألة الثالثة والثمانين «متطلع إلى الوقوف على كائنات الأمور ومستقبلاتها ومغيباتها، فهو بالطبع يتشوقها ويروم معرفتها».- ص203، الهوامل والشوامل-.
ويعتبر البابليون أول من أسس علم التنجيم ما قبل الميلاد وكل أمة كانت تُضيف لهذا العلم، فالمصريون القدماء استطاعوا أن يُسخروا التنجيم لاكتشاف خصائص شخصية كل إنسان حسب برجه المرتبط بتاريخ ميلاده.
وبعض الأمم كان علم التنجيم جزءًا ومن هويتهم الثقافية رسخوه من خلال مسكوكاتهم مثل الرومان الذين سكوا عملات تروّج للبرج الفلكيّ لحاكمهم أغسطس.
وعند العرب كان علم التنجيم منتشراً بين الكهنة والسحرة ومع ظهور الإسلام تراجع باعتباره نوعاً من تقرير الغيب، ومع انتشار ترجمة علوم الفرس عاد التنجيم في العصر العباسي ووصل إلى قصور الخلفاء وهو ما توثّقه قصيدة أبي تمام التي يسخر فيها من المنجمين:
والعلم في شهب الأرماح لامعة
بين الخميسين لا في السبعة الشهب
أين الرواية، بل أين النجوم وما
صاغوه من زخرف فيها ومن كذب؟
وكان الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور من أكثر الخلفاء اهتماماً بالتنجيم وكان يهتم بالمنجمين، وكان منجمه الخاص يُسمى «نوبخت الفارسي» وقد استعان به أبو جعفر المنصور في تحديد مكان وزمان بناء مدينة بغداد.
والأمر لا يختلف عند الخلفاء الفاطميين فقد استعانوا بمنجمين مغاربة لتحديد مكان وزمان بناء مدينة القاهرة.
وتعددت وسائل التنجيم ما بين الكهانة والعرافة وقراءة الكف والفنجان والتاروت، وتنوَّعت بطاقاتها التوصيفيّة ما بين الرؤية والتوقع والإلهام والقدرة الروحانيّة، لتُخبئ خلفها الوجه الآخر من الشيطان.
وقد خلّد التاريخ الكثير من العرَّافين منهم عرَّاف العرب «عرَّاف اليمامة» «رياح بن كحيلة»، وعرَّاف اليمامة خُلد تاريخاً وشعراً فكان مضرب مثل لشعراء العرب قديماً وحديثاً، فتقول عائشة التيمورية في رثاء ابنتها وألم الفراق الذي لا يحتمل:
ولو جاء عرَّاف اليمامة يبتغي
برئي لرد الطرف وهو حسير
وكان العرب قبل الإسلام يحملون أبناءهم الصبية إلى العرَّافين لاستطلاع مستقبلهم.
ويعتبر العرَّاف الفرنسي «نوستراداموس» من أشهر العرَّافين منذ عصر النهضة وحتى اليوم وفي المستقبل، إذ إن «توقعاته» التي هي عبارة عن «رُبعيات» تتجاوز حدود الزمان والمكان، والذي قال عنها «ميراي كورفاجا» في مقدمة تلك الرباعيات «أن ثمة رغبة جامحة في أعماق كل واحد منا تدفعه إلى محاولة الكشف عن المستقبل، والعمل على هتك الحجاب الذي يحيط بأسرار حياتنا البشرية».
والعرَّاف الأمريكي «إدغار كايس» أو العرَّاف النائم؛ لأنه يعرض توقعاته وهو في شبه غيبوبة وكان يقول «الأحلام هي إجابات اليوم عن أسئلة الغد».
وأصبح التنجيم تجارة رابحة تعتمد على «صناعة خوف الناس وتخويفهم»، وأصبح المنجمون نجوماً للجن والشياطين.
إن الإيمان هو الذي يحمي المرء من خوفه، وقد أرشدنا ديننا العظيم إلى أقوى درع يحمينا من كل خوف وهو «الدعاء» كما ذُكر في الأثر النبوي»لا يزيد في العمر إلا البر ولا يرد القدر إلا الدعاء».
«اللَّهم اصرف عنّا برحمتك شرّ ما قضيت».