د. شاهر النهاري
ابتهجت كثيراً بوجوده في المنتصف قريباً مني، وكان قد غاب منذ نيف وثلاثة عقود، بعد أن صنع من الأدب صروحاً للإبداع، بعيداً عن عياداته الأدبية الطبية الإبداعية، وأصدقكم القول فقد صَعُبَ على قلبي، وهو ينظر بوحشة، متفحصاً المكان والوجوه كالتائه بيننا، يكاد لا يستوعب البريق بالأيدي والمستجدات والأسماء والصفات، وسط ما يحدث في الجوار من مفارقات عصر تحديات مختلفة، وموضات شبابية تنظر للكبير بعين شفقة على الطيبين، وسط تكنلوجيا تتراقص وتقهقه وتخرج لسانها أمام الكبار، وتتحداهم أن يلاحقونها بركب مهتزة، ومواقع تواصل قمة العرة تحتاج مزيداً من التفسخ، وذكاء تقنيات صنع محتوى بالذل، وجذب للمشاهدات بشرب ماء النار، وأكل سلة مجمع الأضرار، ومصاحبة مفاجئات فجة ترغب في عصر ضحكة كل غريب وعجيب وشاذ، وبمنتهى التفسخ، وخلع هدوم الستر، وكشف مستور القريب، وفضح أسرار الجميع من على البعد، ودخول للزوايا الضيقة، بين دورات المياه، وغرف النوم، والغمز واللمز بمنتهى صفاقة الوضوح، والبحث عن فضيحة تباع للمتابعين، من أجل حسنات من القلوب والزهور، تبعا لأدب يكتب بغير أدب، ولغة هجين لم تعد واحدة، بعد أن نقشتها وتداخلت معها لغات ورموز وأوسم ومصطلحات عجيبة، ووقار لا يكون، ومتابعين لا يريدون أن يتعبوا أنفسهم بتهجي أكثر من عناوين دالة، وكلمات متقاطعة مبعثرة، ورغبة في التجمع بوسط قطيع، ليس من المهم كنه عشبهم، ولا نقاء ينبوعهم، يهرولون عبر تعرجات جروف وأحراش الحياة بين ضيق وانفراج، وبين علم قد لا يحيطون بأطرافه، حتى ولو كانوا في مقدمة القطيع، وكانوا أول من يصرم عشب الحياة بالثنايا الهوليودية، واهمين بأن غثاؤهم مسموع مؤثر، بين قنوات تيك توك، ومساخة إنستغرام، ومغبة سناب شات، وجلبة فيسبوك ويوتيوب، ومزيد من زغللة تطبيقات الدردشة السرية، لا تكاد تستجلي حروف النور، حتى يصعد غيرها غشاوة.
عذراً يا دكتور القصة القصيرة ومبدعها يوسف السباعي، والعذر قد لا يكون في مكانه، وقد لا يكفي لحل ألغاز عصفت بذهنك بغرابة ما يدور حولك بيننا، وصدقني أننا حتى نحن المكتئبون، من كان الأدب غاية هدفنا والكتابة فننا، لم نعد نفهم جل تفاصيل صداع ما يدور حولنا، وأننا أصبحنا يتامى أقلام ضيعت الأب والأم والتراث والثقافة الرزينة، ولم نعد نعرف كيف سيكون بوح يومنا وغدنا، ومن سيقرأ لنا بعض ما نصيغه من تبر النصوص، عز من يقرأها، إلا من بعض كبار السن، متذوّقي حس مشاعر الزمن الجميل الماضي بكم، وأمثالكم من صناع الإبداع الهادف، والكلمة الرزينة، ومنتهى قدرات الإدهاش بالحروف، بيانها وبديعها وسبكها ومغازيها، وهم اليوم قلة، يتناقصون، ويذبل حسهم وحماسهم ورغبتهم وتشوقهم لما نكتب، في نهايات ذبول يوم جديد، ينكر كل رزانة، وينفخ كل بالونه، ويُطَيِرها، لينشز صوتها المخنوق ويعلو، حتى ترتفع حرارة جدرانها، ثم تنفجر، وتعود للأرض مجرد أشلاء مبلولة من المغاط، لا تحفظ سراً، ولا تكتب للوجود عبرة.
أعيد الأسف، فأنت يا دكتور يوسف تدخل اليوم مجالا لم يعد لك، وحتى لو تجمع حولك بعض المعجبين دهشة يلتقطون صور السلفي معك، فهم يهتمون بملامحك العتيقة، وسرعان ما ينفضون من حولك، باعتبار أن شيبك لا يحقق مبتغاهم، ولا يصنع لهم فضيحة يقتنون أصدائها، هم يبحثون عن تعر مفرط، أو هز ووز، أو كلمات ترددها مثل ببغاء، ينقش عذق قديم، بمنقاره الملون، ودون أن يُعمل نبض الفراغ بين أذنيه، فأكثر ما يهم هو مزاج من يسمعونه، ومن يصفقون له ليرقص، غير عارفين بأن كلماته مسلوبة من إحدى زوايا العم جوجل العظيم، والذي لم تعرفه أنت، ولم يكن يجمع لك مواد مقالك أو حبكة قصتك، ولا ينعم عليك بترميم المقال بالذكاء الاصطناعي، ولا يذكرك بما لم تفكر به، ويعدل السطور، ويحميك من ضحك العقول على ما تقول، ولا يحلي بالزبيب الوليمة المسروقة، ويغدق بالصور والمقاطع فوقها بعد أن يطهرها، وينفي صلتها بغيرك، ليبرز إبداعك، بين شباب صغار، لا يمكن أن تعرف جدية ملامحهم، ولا ألوان بشرتهم، بسبب ما يستخدمون من الفلاتر العجيبة، التي تجعل القرود غزلاناً، والحيات أرانب أليفة لطيفة، بعوالم عجائب التقنية.
أتأسف لك مجدداً، ولكن من يعود مثلك من غياب جيلك فلا تثريب عليه أن يتمهل، فلن تكون الأرض لكم منبرا، ولا الفضاء ملكا لنتاجكم، وحتى لو فرحت القطعان قليلا بعودتكم، لكنها سرعان ما تمل وتطوي صفحاتكم عقب سجائر، ويختصرون قصصكم فجاجة نبرة، بقدر الهايكو، وكلمتين ونصف، وتغريدة، وثريد، وصورة مفبركة تغنيهم عن ألف مقال وقصة، ومن ساب داره قل مقداره.
أنا لن أجرؤ على إخبارك بما يجب أن تفعل، ولو أن العودة للغيب أفضل مرات عديدة من مقارعة صرعات العهد الجديد، الغاضب من ذاته، والمتشوق لجديد آخر، وأنت وحظك، فربما يستحسن المتابعين فيك شيئا، قد لا يكون مرئيا، وقد لا يمت بصلة للقيمة الأدبية المكنوزة في أدبك، ولكنه قد يضرب بارق الحظ، ويجعل المشاهدات ترتقي للملايين، وتجعلك نجماً متجدد الطلة، بلون شعر بلوري، وخرم أذن، وحرية في ترهات كون لا يعيد تدوير الرماد، وربما يكون العكس، فتحترق هامتك مرات ومرات، ودون أن تنتهي زيارتك القصيرة لنا بنتاج أدبي يحكي مفارقات الحقيقة.