عندما حطت الطائرة التي تقلني في مطار الملك خالد الدولي لمدينة الرياض، كانت لدي انطباعات أولية مسبقة ولكن ما شهدته كان أرقى وأجمل مما توقعت بكثير.
عندما دخلت صالة جوازات السفر رأيت ضباط الهجرة من السيدات الفاضلات حيث تميزت السيدة الكريمة التي ختمت جوازي بمهنيتها و اتقانها الرفيع للغة الإنجليزية بحكم طبيعة جواز السفر الذي أحمله. لقد كان دلالة بالغة للنقلة الثقافية والاجتماعية التي شهدتها المملكة في الفترة الأخيرة.
لقد كانت رحلتي إلى بلاد الحرمين الشريفين بدعوة كريمة من وزارة الثقافة في المملكة العربية السعودية لغرض الاشتراك في ندوة تحاورية بعنوان «من الخيال إلى البناء - أسس و مستقبل العمارة والتثمين في السعودية و العراق» ضمن سلسلة نشاطات و ندوات مرتبطة مع معرض «بين ثقافتين» common ground والمقام في الرياض للفترة من 18 - 31 ديسمبر 2024 .
من الواجب عليّ أن أسجل إعجابي بكوادر الوزارة ضمن الفريق اللوجستي بما في ذلك سمو الخُلق و التعامل المهني حيث قام الكادر بتنظيم تنقلاتي في المدينة حسب الجدول الزمني المتفق عليه.
لقد انبهرت بمحتويات المعرض من خلال صالاته الكبيرة والتي تضم رموزا ثقافية متميزة من السعودية والعراق و تنفيذ نماذج معمارية مطابقة لمهارات ومواصفات البناء في كلا البلدين، حيث أذكر منها بناء لنموذج «الصريفة أو المضيف أو الديوان» الشائع في منطقة الأهوار العراقية والمصنوع من قصب البردي. لقد كانت تشكيلات الكتابة المسمارية في الحضارة السومرية حاضرة والتي تعتبر الأصل التاريخي لنشأة الأحرف الأبجدية في كافة لغات الحضارة الإنسانية تاريخيا.
كما ضم المعرض صورا جوية ونماذج مجسدة لطريق زبيدة الصحراوي و بضمنها محطات القوافل و الواحات لخدمة القوافل منذ زمن العصر العباسي ليربط مدينة بغداد بمدينة مكة المكرمة قبل قرابة 1200عام.
كما احتوى المعرض على أعمال فنية أصيلة لفنانين سعوديين واخرين عراقيين ابتداء من جيل الرواد و انتهاءً بالجيل المعاصر. ويذكر أن المشرفين على الصالات يمتلكون ثقافة واسعة حول المعروضات لشرح الموضوعات الفكرية والفلسفية المتضمنة في الرموز و الشواهد والأعمال بتوسع معرفي رائع.
لقد كانت الأعمال الفنية تحكي قصة أولئك الفنانين التشكيليين وهم يحوّلون صورا ذهنية عن وقائع الحياة إلى رسائل فلسفية بواسطة الفرشاة الملونة و استعمال المقتنيات المحلية من خشب الأشجار وأقفاص الطيور و المنتوجات الزراعية و غيرها من المقتنيات المتاحة لخلق جمال متميز.
وكان ضمن المعروضات اللوحة الأولى التي رسمها الفنان العراقي الرائد والراحل جواد سليم في عام 1953 عندما كان يدرس الفن في إيطاليا. كما احتوى المعرض على الأصول الهندسية للتركيبات والزخارف المعمارية مع مخططات توضيحية لمجالات التناظر والتشابه بين المدن الرئيسية في كلا البلدين. لقد كان للأزياء الشعبية نصيب وافر في هذا المعرض وخصوصا في طريقة التنسيق و اقتباس الالوان.
عندما تنتهي صالات المعرض تبدأ من الجهة الأخرى الفعاليات الثقافية ضمن فناء كبير تم تسميته بشارع المتنبي تتوزع على جانبيه مجموعة المتاجر الراقية لعرض الكتب و الأزياء و اللوحات الفنية و الأغراض المنزلية و كل ما هو مرتبط بتراث البلدين. يتوسط هذا الشارع بناء مناظر لمقهى الشاهبندر الشهير في بغداد مع منحوتة كبيرة للشاعر أبو الطيب المتنبي انتهاءً ببوابة عشتار الموروث عن الحضارة البابلية.
في داخل مقهى الشاهبندر تم توزيع المقاعد التقليدية للمقاهي العراقية مع لوحات تصويرية على الجدران لإحياء الصورة الذهنية المحفوظة في الذاكرة العراقية. تتوسط صدر المقهى منصة او مسرح لإقامة الندوات مع شاشة إلكترونية خلف المنصة للتعريف بكل من الندوات المقامة من اسماء المتحاورين. عند باب المقهى هناك شاشة تعرض البرنامج اليومي حسب التوقيتات المحددة.
خلال تواجدي في الرياض كان لي شرف الجلوس على مسرح مقهى الشاهبندر مع الزملاء الافاضل دكتورة نورة البادي (عميد كلية الهندسة المعمارية والتصميم الرقمي بجامعة دار العلوم) و الاستاذ يزيد المطاوع (مصمم معماري) حيث كان يدير الندوة الاستاذ حسين نهابة (مترجم و ناشر) للنقاش في الندوة التي اشرت لها في بداية المقال. ولقد كان لي شرف اللقاء بالأديب و الإعلامي الاستاذ محمد رضا نصر الله على هامش فعاليات المعرض حيث استأنست كثيرا بمعلوماته الموسوعية خلال تاريخه المهني الطويل و هو يلتقي بقامات فكرية و أدبية في العالم العربي.
لقد أعددت تقريرا عن العمارة العراقية حيث قام فريق الإخراج في المقهى بعرض صفحات التقرير مع شواهد الصور و المخططات على الشاشة الخلفية لربط موضوع الندوة مع الصورة. كان التقرير يضم عشرة فصول تبدأ من التخطيط الحضري والتصميم المعماري مرورا بالمعالم التاريخية و مركز بغداد التاريخي. لقد كان لرواد العمارة العراقية و محاور الاستدامة في العمارة مساحة كبيرة في التفصيل والتوضيح بالإضافة إلى الاتجاهات العالمية في التصميم والمواصفات. لقد تم اختتام التقرير بالعلاقة المتبادلة بين العمارة و الفن التشكيلي تحت عنوان «الحنين إلى الماضي».
لا يفوتني ان أشير باعجاب الى التخطيط الحضري لمدينة الرياض ومنها محددات ارتفاعات الابنية على الشوارع الرئيسية و الازاحات أو الارتدادات الكبيرة حول الابنية المرتفعة لإكمال بانوراما المدينة خصوصا مع الإنارة الليلية و توزيع المساحات الخضراء مع تنسيق كامل لزراعة النخيل إضافة إلى امتدادات البنى التحتية و خطوط مترو الرياض المتضمن للتحفة المعمارية لمحطة «كافد» والتي صممتها المعمارية العراقية زها حديد.
من الامانة والعرفان توجيه الشكر والثناء إلى الاستاذة الفاضلة مريم عبد الرحمن (مديرة الندوات) و التي تميزت بحسن الادارة و سمو الاخلاق و الاهتمام بالتفاصيل و دقة المتابعة لكافة الندوات. لقد تركت الايام المعدودة التي قضيتها في مدينة الرياض اثرا طيبا في نفسي بما فيها من الذكريات الجميلة و المشاعر الطيبة لأشقائي و أولادي في المملكة العربية السعودية. أتمنى لهذا الكرنفال الثقافي أن يستمر و أن يتطور لسنوات عديدة قادمة.
** **
همام الشريفي - معماري استشاري عراقي مقيم في المملكة المتحدة