د.حصة بنت زيد المفرح
لم يكن مستغربًا منذ القدم أن يكتب طبيب نصًا أدبيًا، أو فلسفيًا، أو ينظم الشعر، أو يبدع في حقول أخرى؛ وفقًا للنظرة الشمولية للعلوم والفنون، عوضًا عن أن الأدب كان، ومازال جاذبًا للأطباء الذين انفتحوا على أبعاده الإنسانية؛ يلتقطون تفاصيلها الصغيرة، ويتمثلون تناقضاتها النفسية.
ولتجارب كتابة الأدب بأجناسه المختلفة بأقلام الأطباء تاريخ طويل: محليا، وعربيا، وعالميا؛ مما لا يتسع المقام للإسهاب فيه، غير أن ما يعنيني هنا هو اتجاه كتابة السيرة الذاتية تحديدًا، سواء أكانت سيرة جزئية في بعض نماذج السيرة المكتوبة عن تجارب محددة مثل الابتعاث، أم سيرة شبه كلية تستعرض حياة الطبيب منذ الصغر وحتى لحظة الكتابة. وسأقدم هنا أنموذجًا لهذه الكتابة في العمل السيرذاتي الموسوم بـ(من الزلفي إلى برلين: سيرة طبيب) للطبيب السعودي محمد بن عبدالله المفرّح.
ويبدو الوعي بالقراءة والكتابة بوصفهما ممهدين لإنتاج السيرة، في مسارات بسيطة تشكلت منذ الصغر، وشكلت بعض تحولات الشخصية، وتكوينها العلمي والثقافي؛ ذلك أن المرحلة الابتدائية كانت بداية جيدة في حب القراءة والكتابة، وممارستهما بشغف غالبًا، ولقضاء حاجة أحيانًا، وقد كان إتقانه لهما دافعًا ليكون كاتبًا للرسائل بين الأحبة، وقارئًا لها في زمن ندرت فيه العملتان (القراءة والكتابة)، ثم كاتبًا لمقال نشر عام 1379 مطالبًا بإنشاء مستشفى في مدينة الزلفي.
بيد أن الانتقال إلى ألمانيا، سيجسد تحولًا مغايرًا على مستوى تشكيل الوعي هذا، والانفتاح به نحو المقروء بلغة أخرى، الألمانية ثم الإنجليزية. ثم ما اقتضاه المشهد من حديث عن أصول اللغة الألمانية التي تعلمها بداية لدراسة الطب قبل أن يتعلم الإنجليزية. كما تبرز ثقافته الأدبية في مواضع متفرقة من السيرة؛ مستشهدًا بأبيات شعرية للمتنبي، وامرئ القيس، وأبي فراس الحمداني، وعبدالرحمن الداخل، وغيرهم.
وكان المؤلف مدفوعًا لكتابة السيرة من مقدم الكتاب(أ.د محمد بن إبراهيم الحمد) الذي اشترط عليه ألا يتدخل فيما يكتب، ولا يعدل، أو يحذف شيئًا من المكتوب؛ لذا جاءت المقدمة سيرة أخرى موجزة تحكي جانبًا من سيرة محمد المفرح وفق منظور(السيرة الغيرية)، وإن كانت لا تخلو من ملامح السيرة الذاتية؛ فقد كان الحمد متحدثًا عن بداية معرفته بصاحب السيرة منذ كان طالبًا في الثانوية، مرافقًا لمريض يشرف الطبيب على علاجه، ثم ما اقتضاه السرد هنا من انعطاف عن حالة مرضية واحدة خاصة إلى حالات كثيرة تقف منتظرة فرصة الدخول عليه للمعاينة الطبية، ولا تعود إلا بعد أن تفعل، مع كثرة أعداد المرضى، وانتهاء وقت الدوام الرسمي.
ويضاف إليها تنقلات أخرى بين الإشادة بإخلاصه، وتميزه في بيئته التي كان سابقًا ورائدًا فيها بسبب مهنته، ثم ما فرضه تقديم الكتاب بعد ذلك من حديث عن حكاية قصة تأليفه، وإلحاح المقدم على المؤلف حتى يمضي قدمًا في المشروع الكتابي الذي تردد كثيرًا قبل اتخاذ القرار بإنجازه. وإذا كان الكاتب قد امتنع كثيرًا، وانصرف طويلًا عن الكتابة لتوثيق جزء من تاريخه؛ فإنه بعد قرار الكتابة، لم يكتب تاريخًا خاصًا خالصًا، وإنما طعمه بتوثيق مشاريع كبرى، وإنجازات تاريخية مشرفة تتعلق بمدينته(الزلفي) خاصة، ووطنه (المملكة العربية السعودية) عامة.
وإذا كانت كثير من كتب السير الذاتية تستجمع ما كتبه صاحبها في مذكرات، أو يوميات؛ فإن سيرة المفرح - باعترافه- لم تسلك هذا الطريق، ولم تكن لدى صاحبها نية الكتابة عن سيرته، أو نشرها، أو حتى الاحتفاظ بها مكتوبة، وإن لم تنشر فيما بعد؛ إذ يشير إلى تكوين محتواها من الذاكرة، ولا شيء غيرها بقوله: « حينما يتقدم العمر تبدأ الذاكرة بالغبش ويكون جميلًا لو أن الإنسان راجعها، وتصيد منها ما يعتقد أنه صالح ومفيد» وهي كما يصفها» قفزات في الذاكرة، ومقتطفات» ثم عندما يقف في آخر محطات الكتاب(مرحلة التقاعد والعمل الخاص) يعلن فـ» هنا يتوقف النبش في الذاكرة» بتعبير المؤلف في مقدمته. ولأن المؤلف لم يكتب مادة السيرة في فترات سابقة لكتابتها كما أسلفت.
وكما أشار مقدم الكتاب، وأكد المؤلف نفسه في مقدمته؛ فإن رصد الأحداث بدقة غير ممكن تمامًا؛ لذا كان يردد في بعض المواضع عبارة» إن لم تخني الذاكرة».
ويأتي الكتاب ليضيء جانبًا مهمًا من سيرته الحياتية؛ لارتباطه بمهنة الطب، وعمله طبيبًا لسنوات طوال، وإرهاصات ذلك ونتائجه، وهو الدافع لاختيار عنوان (سيرة طبيب) لكن السيرة لا تنحصر في هذا الجانب تحديدًا، بل تمتد لتشمل جوانب أخرى سأشير إليها، ومن ثم فسيرة الطبيب والطب تقع بين عالمين: العالم الخاص للطبيب، والعالم العام للحياة، ثم تنفتح على سير كثيرة. وكانت السير المتداخلة في هذه السيرة تعين في أقطاب ثنائية أُجملها في: سيرة المقدمة وسيرة الكتاب، سيرة الداخل وسيرة الخارج، سيرة الإنسان وسيرة الطبيب، سيرة الطبيب وسيرة الإداري، سيرة قبل ا لابتعاث وسيرة بعده، سيرة قبل التقاعد وسيرة بعده، سيرة الكتابة وسيرة الصورة.
ولعل الرغبة في سرد سيرة(الطبيب) تحديدًا بدت من العنوان الرئيس الذي رسم مسار رحلة السيرة مبتدئًا بالزلفي ومنتهيًا ببرلين؛ فقد رصد العنوان بداية تكوين هذا الطبيب طفلًا في مسقط رأسه(الزلفي) ثم شابًا في(برلين) ألمانيا؛ لتحقيق حلم الطفولة، وشما بين الحلم وتحقيقه كان (محمد المفرح) يخوض غمار الحياة، ويتنقل بين جنباتها في هاتين المدينتين، ومدن أخرى مثل: الرياض والقصيم، وبعض مدن ألمانيا وإنجلترا. وإن كان اتجاه الرحلة هذا يقابله اتجاه رحلي عكسي (رحلة العودة) من برلين إلى الرياض، ثم الزلفي مشاركًا وداعمًا لموطن انتمائه، وهو الذي صنع مفاتيح بداية حلمه ذات يوم.
والمتأمل في رحلته يجد أنها رحلة الجزء الأكبر من هذه السيرة المتعلقة بالطب تحديدًا؛ إذ هناك ما يعقبها بعد عودة الطبيب إلى وطنه، واستئناف عمله في مهنة الطب، وأعمال إدارية أخرى، ويدعم ذلك العنوان الفرعي (سيرة طبيب) الذي يجسد (ميثاق التعاقد) بين المؤلف والقارئ بلفظ (سيرة)، ويخصص هذه السيرة بلفظ آخر(طبيب)؛ ليجعل أفق التلقي المتوقع منصرفًا نحو الحاضر من السيرة المتعلقة بالطب خاصة، والغائب منها الذي استكمل في محطات متفرقة من الكتاب، سارت وفق تسلسل زمني منظم؛ استدعى تحديد العناوين الفرعية للسيرة، وهي سبعة عناوين، أو سبع محطات ترويها فصول سبعة: يبدأ الأول بمدينة النشأة والانتماء، ومدارج التعليم الأولى(الزلفي)، ويعبر الثاني إلى مرحلة الانتقال من الزلفي إلى الرياض، ويخصص الثالث لرحلة الابتعاث الأولى إلى ألمانيا و(برلين) تحديدًا، أما الرابع فيرصد رحلة العودة إلى الوطن، ثم العودة مرة أخرى إلى ألمانيا؛ لاستكمال دراسة التخصص، ويخصص الفصلين السادس والسابع للحديث عن عمله طبيبًا في القطاع الحكومي ثم القطاع الخاص؛ فالعناوين الداخلية متممة للعنوان الرئيس، وداعمة لبعده الشمولي للسيرة، وإن كان انتقاء هذا العنوان الرئيس، ومعه الفرعي يقول بسلطة سيرة الطب، وتسيدها على أجزاء السيرة الأخرى. وهو ما يؤكد أن كتابة هذه السيرة الجزئية لم يكن بهدف استعراض محطات الحياة كلها، والولوج إلى تفاصيل كثيرة قد لا تدعم هذه السيرة، وإنما كانت سيرة الوفاء لطبيب أحب مهنته حبًا عظيمًا، وأراد أن يمنحها شيئًا من مشاعره بقلمه، بعد أن منحها الكثير من وقته، وجهده، وسنين حياته.
ولا يمنع الحديث عن سيرة الشطبيب من الارتداد إلى زمن الطفولة، الذي لم يكن عالمًا طفوليًا مثاليًا لا يبالي بعوالم الكبار، ومشقات الحياة، لا سيما حين تستحضر بعض محطاته بين اللعب، والتعليم والعمل الجادين. وهناك رحلتان علميتان خارجيتان، كلاهما إلى(ألمانيا) وإن كانت الرحلة الأولى استهدفت دراسة اللغة الألمانية أولًا، ثم بكالوريوس الطب العام، مع دراسة اللغة الإنجليزية والدبلوم العام للأمراض الحارة؛ فإن الرحلة الثانية استهدفت التخصص في الأمراض الباطنية، بعد أن كانت رغبته الأولى دراسة (طب الأطفال)، كما لو أن الأمر يتعلق بسيرتين: سيرة تكوين طالب التعليم العام قبل أن يصبح طبيبًا، ثم سيرة الطبيب بعد تخرجه من البكالوريوس والدبلوم، ثم التخصص.
ولعل هذه التحولات والتقلبات قد عبرت عنها الآية الكريمة التي افتتحت بها السيرة «وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ» آل عمران، 140. ولا نعدم وجود سيل من الأمنيات كانت تندس بين سطور السيرة، وبعض منها تحقق، غير أن ما نقتنصه من لحظات التعبير عن خيبة أمل، أو فشل تحقيق أمنية، أو حدوث ما لم يكن متوقعًا، لا نجد فيه إلا تقديرًا للظروف التي لم تسعفه لتحقيقها، وتطلعًا إلى خطوات قد تتلوها، وتكون أكثر نجاعة، ونجاحًا، وتوفيقًا.
ولأن السيرة (سيرة طبيب) فإن الكاتب لم يعن ببعض محطات حياته الأخرى مع أهميتها إنسانيًا، واجتماعيًا، وشخصيًا، ولم يعرج على ذكر بعض الشخصيات، أو يرصد علاقته بهم مع عمق العلاقات التي تربطهم، ثم إن سير حياتنا الواقعية جميعًا ليست على مستوى واحد من الإشعاع أو العتمة، والانتصار أو الإحباط، والصعود أو الهبوط، والجريان أو الركود، وإنما هي بين هذه وتلك. ومن حق الكاتب- وهو حق مشروع من طبيعة السيرة الذاتية نفسها- أن ينتقي منها ما يرفد غايته من كتابة السيرة، لا سيما إذا كانت سيرة جزئية تستعرض بعض محطات الحياة ذات العلاقة بالطب تحديدًا.
وانصراف الكاتب في بعض المواضع للحديث عن أحداث بعيدة عن الطب، لا يعني أن ننحيها من سيرته الطبية؛ فالكاتب لم يولد طبيبًا؛ لذا جاءت سيرته لترصد بدايات تشكل الطبيب الصغير الذي كان يتعلم تعليمًا شاقًا، وفي جعبة أحلامه ذلك الطبيب الذي سيكون، ثم ما آلت إليه أحداث مرحلة الشباب من علاقة وثيقة بالطب متعلمًا إياه، ومنافسًا على الاستفادة من اللغتين في التعلم أكثر، وأخيرًا ما آلت إليه أحداث العمل الإداري، ومحاولة الاقتراب منه وال بعد عنه؛ حرصًا على الاحتفاظ بالمهنة الحلم.
ولم تكن وقفات استعادة ذاكرة المجد- كما يحلو لي أن أسميها هنا- وهي ليست كذلك مع آخرين شغفوا بالمناصب، وتعلقوا بأطنابها دون أن يتركوا أثرًا يذكر فيشكر-؛ فلحظات الفخر التي نلمحها، لم تكن فخرًا بالمنصب نفسه، وإنما بما قدمه أثناء العمل فيه، ثم إحجامه أكثر من مرة عن الالتحاق بالمناصب الإدارية التي قد تأخذه بعيدًا عن المهنة التي أحبها وأحبته. ومع ذلك، فقد رصد محطات أكاديمية إدارية لامعة في تاريخه، بعضها تحقق، وبعضها لم يتحقق لأسباب يفصلها، ومن أبرزها: المدير العام للشؤون الصحية بمنطقة القصيم، الإسهام في مناقشة الخطة الخمسينية لوزارة الصحة، واقتراح إنشاء عدد من المستشفيات في القصيم، قبوله عضو هيئة تدريس بكلية الطب في جامعة الملك سعود، واعتذار وزير الصحة عن انتقاله للجامعة من وزارة الصحة؛ بسبب حاجة الوزارة الماسة إلى خدماته.
ومع تكليفه بعدد من الأعمال الإدارية المتعاقبة الأخرى، وكان معظمها يستهلك وقتًا وجهدًا قد يصرفه عن الطب؛ فقد كتب» لم أترك العمل الطبي يومًا واحدًا مما جعلني على صلة يومية بالطب، عمليًا وعلميًا».
وللطب في سيرة طبيب -كما هو متوقع- حضور متنوع يشمل جوانب كثيرة: منها ما يشير إلى فوائد طبية ينثرها هنا وهناك، ولم تكن هذه الفوائد في مجملها نتيجة دراسة الطب؛ فقد ارتبط بعضها بسنوات حياته المبكرة، وتقاليد الطب الشعبي في الزلفي، وخيارات الأدوية الشعبية، ومسببات الأمراض وآثارها، ثم الشغف المبكر بالطب في كتابة موضوعات إنشائية عن الطب والمستشفيات، وعزمه على دراسة الطب منذ التحاقه بالسنة الرابعة الابتدائية، وما تلاها من حديث عن تعميق الاختصاص نظريًا وعمليًا، وبراعته في الطب منذ كان في سنته الأولى بعد التخرج، وهي براعة يشهد له بها كل من عرفه، وسمع عنه، أو تطبب عنده، ومازال كذلك- حفظه الله-.
كما أن عمله الطبي في جزء منه قام على التطوع وفاء لمسقط رأسه (الزلفي) في مبادرة(عيادات الطبيب الزائر) التي شارك فيها عدد من أطباء المدينة، وطبيبة واحدة، وكان المؤلف يستذكر الحدث بشعور العطاء الممزوج بالفخر، لاسيما في تعليق خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز- حفظه الله- حين كان أميرًا للرياض آنذاك، على أهمية المبادرة، وعظم شأن الوفاء بقوله» الإنسان إذا لم يكن وفيًا لمسقط رأسه لا يكون وفيًا لوطنه» ويضع المؤلف صورة من الوثيقة التي اقتطع منها هذا القول، وهي مقال نشر في صحيفة الوطن عام 2006 بقلم الملك سلمان بن عبدالعزيز - حفظه الله-.
ولم تكن البطولة تروى قرينة بصاحب السيرة؛ بل إنه صنع نماذج بطولية متنوعة، وفي كل مشهد سيري كان يقدم بطلًا جديدًا، وقد يحضر البطل في أكثر من مشهد؛ لعظم تأثيره على مسيرة حياته في جانبيها الإنساني الاجتماعي، أو المهني الطبي، أو لتأثير عام، أو خاص؛ لصالح وطنه، أو مجتمعه، أو لخدمة العلم وأهله.
وللبطولة مساراتها من حضور جزئي لبعض أفراد عائلته ممن كان لهم علاقة مباشرة ببعض أحداث هذه السيرة، والرحلة إلى عوالم الطب، بدءًا من قريب داعم كما في والدته (مريم السكران)، وزوجه (أم طارق) ووالدها الشاعر المشعان، التي آثر ألا يتحدث عنها كثيرًا إلا على سبيل استعراض أحداث جزئية تؤرخ لسيرة دراسة الطب، أو التعبير عن مشاعر الامتنان لرفيقة الرحلة والحياة. وهناك العمان (محمد وعبدالرحمن)- رحمهما الله- اللذان يستدعيهما في بعض أحداث الطفولة؛ لتقاربهم في السن.
وهناك الأصدقاء وزملاء الدراسة ومنهم: جاسر الحربش، فالح الفالح، عثمان الربيعة، وغيرهم إضافة إلى بطولات عامة لوزراء سعوديين عاصرهم، أو عمل معهم قبل تكليفهم بالوزارة، أو بعدها، وهم أصحاب المعالي الوزراء: رشاد فرعون، حسن نصيف، جميل الحجيلان، عبدالعزيز الخويطر، حسين الجزائري، غازي القصيبي، عبدالرحمن آل الشيخ، فيصل الحجيلان، أسامة شبكشي، حمد المانع، عبدالله الربيعة.
ونلمح حضور الصور في السير، وهي صور تعود لما التقطته الذاكرة من مواقف، وحوادث، وليس من بينها صورة واحدة تعود إلى عهد قريب تجاوز حدود السيرة زمنيًا، بما في ذلك صورة الغلاف التي عبرت عن مرحلة زمنية متوسطة بين أزمنة عبرت عنها الصور الأخرى في الصفحات الداخلية.
كما يضع صورًا أخرى توثق شهادات دراسية، ومكاتبات رسمية، ونماذج من كتاباته في مراحل حياته المختلفة، ومنشورات صحفية، جاءت في صورة ( الكولاج) الذي عرف في الفن التشكيلي، وانتقل منه إلى أشكال الكتابة على اختلافها، والفنون الأدبية وغير الأدبية، في قيامه على دمج مواد مختلفة بالنص ليست من تكوينه الأولي، وهي على هيئة قصاصات من نصوص أخرى؛ مما يشكل مظهرًا من مظاهر التناص.
ولما كانت السيرة الذاتية لا تكتفي بسرد الأحداث، والحديث عن روافدها؛ فإن ما يسرده المؤلف من معلومات متنوعة يمكن أن تكون داعمة لهذه الأحداث، فهناك الأحداث التي رصدها مرتب طة بتاريخ الطب في المملكة العربية السعودية، وبعض إرهاصات تشكل مشاريع ريادية مهمة، علاوة على النفاذ إلى مسالك العمل الإداري الصحي، مع العناية بالتوثيق تاريخًا، وصورة، واستشهادًا بحضور شخصيات أخرى مرافقة تعي تفاصيل هذه المسالك، وفي التوثيق إطلالة تاريخية ستحتفظ بها ذاكرة الكتاب، ومن يقرؤه في كل مرة، سواء من الأجيال الحالية، أو القادمة.
ويتوقف سرد الذاكرة الذي يتتبع حياة المؤلف في مواضع متفرقة من السيرة؛ ليتحول إلى سرد تاريخي، أو جغرافي، أو اجتماعي، من حديث عن الأماكن وتاريخها، والصلة بين مناطق الجزيرة العربية والكويت خاصة التي تربطها صلات عميقة بالزلفي وأهلها، وحديث عن العادات والتقاليد الاجتماعية، ومشاركة المرأة في المجتمع، والمأكولات الشعبية مثل المخامير، والمعلومات الجغرافية الدقيقة، والأهازيج والرقصات والأغاني الشعبية، وطقوس الأعياد، والحرف اليدوية مثل البناء، والمهن مثل التجارة، والألعاب الشعبية: الحاح، الكعابة، الطابة، البلبول، الدنانة، السباق، الحبشة، القداح، الخطة.
ثم تتحرك دفة السرد نحو ألمانيا (بلد الابتعاث) لينقل شيئًا من تقاليد أهلها، والصورة النمطية للسعوديين فيها التي جعلت أسئلتهم لا تتجاوز أشياء مثل: الصحراء، والجِمال، والبترول، والنساء، وليقدم نصائح تتعلق بكيفية التخفيف من الصدمة الحضارية التي كانت آنذاك صدمة كبرى؛ بسبب التباين بين الثقافتين، متحدثًا من جهة أخرى عن بعض العادات الجيدة لديهم كما في: احترام الوقت، وعدم إهدار الطعام، وتنظيم المدعوين عددًا بما يلائم ما أعد لهم، وما يحمله من انطباع عن أساتذته الألمان الذين لم يكونوا على مسار واحد في: الجد، والعمل الدقيق، واحترام الوقت، والتعامل الحسن، إضافة إلى استحضار اهتمامهم بالثقافة العربية، واعترافهم بالفضل، وذلك بالاستشهاد بكتاب( شمس العرب تسطع على الغرب) للمستشرقة الألمانية(زيغريد هونكه). وبعد عودته كان حريصًا على تجاوز المبتعثين الآخرين لبعض العقبات التي مر بها؛ لذا كتب موصيًا بمنح الطلبة المبتعثين إلى ألمانيا فرصة دراسة اللغة الإنجليزية قبل عودتهم من رحلة الابتعاث.
ويضاف إلى ذلك، ما يعترض هذه السيرة من إيقاف لسرد حكاية صاحبها في بعض المواضع؛ ليتحول المؤلف/ الراوي إلى ناصح حكيم، ومن يعرف المؤلف جيدًا؛ يعي أن نصائحه لم تكن مجانية، أو بهدف إبراز صورة مثالية له، بل هي معبرة عن واقعه؛ فقد كان ومازال وفيًا لإنسانيته قبل مهنته، كما أنها جاءت في قالب توعوي محبب للنفوس، لا يستهدف تمجيد الذات، أو الظهور بمظهر العالم الخبير، كما في توجيه الطلاب بطرق المذاكرة الفاعلة التي تحقق لهم النجاح والتميز، والنطق بلغة الحكمة التي جاءت من مواقف مباشرة كما في قوله» الاجتهاد وحده لا يقي من صفعة ما في هذه الحياة» .
وقد يتوقف سرد الذاكرة مذكرًا بتكريم الرواد من السعوديين وغيرهم، أو للحث على دعم الاقتصاد المحلي بالأيدي العاملة السعودية، وتعزيز الصادرات في مقابل الواردات، أو للتذكير بمكانة المرأة وعلو قدرها في الإسلام، وقد يتوقف؛ ليوجه نصيحة للأحفاد حتى يسترجعوا ماضي أجدادهم، أو يقف؛ ليعبر عن وفاء تجاه صديق فقده منذ سنوات طوال (طه زمزمي) لكن حال قلمه - كما هو حال قلبه- لحظة كتابة هذه السيرة، كان يقول إنه مازال يفتقده، ويدعو له بالرحمة.
وعندما يتوقف سرد حكايته قليلًا، يعود مستأنفًا « أقول..» ثم يكمل سرد الحكاية مبتدئًا بفصل جديد، أو حدث آخر.
أما حين يتوقف السرد تمامًا؛ فإنه يختمه بذكر بعض المآخذ على القطاع الطبي الخاص، والدعوة إلى معالجتها، والالتزام بأخلاقيات المهنة الطبية، ثم التوصية بوجود ملف صحي موحد لكل مواطن، ويمكن للأطباء في القطاعين العام والخاص، الاطلاع عليه بسهولة، ومعرفة القصة المرضية كاملة دون تكرارها، أو تكرار إجراءات التحقق منها. وبهذا تختتم السيرة معلنة بداية جديدة لها بين أيدي القراء.
** **
- جامعة الملك سعود