«منامات نوح عبد الرحيم وأحواله» مجموعة قصصية صدرت عام 2024م للأديب ماجد سليمان يأتي بعد خمس روايات، وأربع مسرحيات، وأربع مجموعات شعرية، وثلاثة كتب منتخبات، ومجموعتين قصصيتين، وكتاب في المقالات، ليؤكد مسيرة حافلة بالثراء والتنوع.
المجموعة الجديدة، الممتدة عبر64 صفحة من القطع المتوسط، تأخذ القارئ في رحلة عبر منامات متخيلة تنبض بالحياة، حيث تحيل الخيال إلى واقع مشحون بالرمزية، مستندة إلى أماكن حقيقية من مدينة السيح.
إنها لوحات متشابكة من الحلم والواقع، تعكس عمق التفاعل بين الإنسان وذاكرة المكان، وتنسج نصوصاً تنبض بجمال اللغة وحيوية التصوير.
انتخبت منها ما يلي:
المنامة الثانية جاء منها (رأيتُ في منامي:
أنّي طريح على حافة قناة عين فرزان والظمأ قد أخمد أنفاسي، وأيبس عروقي وأرخى عظامي وفتك بقوَّتي وهَدّ صبري، وصوت شيخ يُتأتئ ضاحكاً قُربي ...إلخ.)
القصة لا تحمل عنواناً، مما يجعل القارئ يدخل مباشرة في تفاصيل الحلم دون تمهيد، اعتمد القاص على الرمزية والإيحاء أكثر من الأحداث المادية المباشرة.
استخدام القاص لغة مشبعة بالصور البلاغية.
أما العطش والظمأ في القصة يمكن تفسيره كرمز للاحتياج الروحي أو العاطفي. كمان أن النص يمتاز بثراء لغوي واستخدام مكثف للتشبيهات والصور البلاغية. القصة تتأرجح بين الموت الوشيك والحياة المتجدّدة، مما يعكس صراعاً أزلياً. ودخول المرأة الحكيمة في اللحظة الحرجة يوحي بفكرة أن هناك دائماً قوة خارجية تنقذ الإنسان في أوقات الشدة.
أراد القاص ماجد سليمان من خلال هذه القصة أن يقدم تجربة ذات طابع فلسفي وروحي، وطرح تساؤلات حول المصير.. والحياة، والموت!
والأسلوب الأدبي العميق يجعل النص قابلاً لتأويلات متعددة، يظهر قدرة الكاتب على خلق جو مشحون بالعواطف والمعاني.
أما في المنامة السادسة التي جاء فيها (رأيتُ في منامي: أنّي دلفت بين صخور كثيفة جوار عين الضّلع، فتمتمت وأنا أفتح قميصي الأسود الفضفاض، حيث كانت رياح الشتاء قد شرعت في العواء، تماماً مثل ذئب أعياه الجوع الطويل، رأيت الرمال الكثيفة وهي تتراشق بالحجارة الطينية وتتبادل روث الأنعام وجلود الثعابين اليابسة، وقع نظري لحظتها على شاهد صخري رفيع نُحتت عليه كتابات مُتداخلة الخطوط، عَمِلتُ جَهْدي لقراءتها ولم أُفلح. بصعوبة سمعت من بعيد صوت مُنادٍ يشبه صوتاً جاء من عميق السنين، كان صوتاً يتسع شيئاً فشيئاً حتى ملأ الأرجاء، وانتزع أنيني الداخلي، واجترَّ خلفه حزني القديم.
سِرْتُ طويلاً في الليل العميق حتى دخلت خيمة صغيرة تَحَلّق فيها جمع لهم هيئة تشبه الصيادين، فتلفَّتوا سريعاً في بعضهم وهم يتساءلون بنظرات مشحونة بالعجب والدهشة، كيف دخل عليهم هذا الرجل الغريب فجأة وهتك ستر اجتماعهم؟ وقد يكون قدّ اطلع على شيء من أسرارهم وأحاديثهم . لم يكونوا يعرفون أني من هذه الأرض، وأني غريب في بلاد وجئت إلى بلادي أنزف حنيناً، حينها يبست شفاهي خوفاً من ردة فعلهم التي لا تجافي القسوة، نهضوا معاً وتقدموا نحوي شاهرين بنادقهم الطويلة ومن خلفها نظراتهم القافزة من أعين اشتد احمرارها).
في هذا النص رمز إلى رحلة الإنسان في مواجهة صعوبات الحياة والبحث عن الذات والانتماء. هناك صراع داخلي بين الحنين للماضي والخوف من المجهول، وبين الغربة والعودة إلى الجذور. كما أنه يعبر عن تجربة عميقة مشحونة بالرموز، ويمثِّل رحلة ذاتية للبحث عن الهوية وسط العزلة والمخاوف. الأسلوب الفني القوي يجعله نصاً مفتوحاً للتأويل، مما يثير فضول القارئ ويدفعه للتفكير.
الأستاذ ماجد سليمان نسج في مجموعته الأدبية لوحة مدهشة، مزج فيها الواقع بالحلم، وجعل من القصة نافذة تطل على عالم المنامات والرؤى. بأسلوب مشوق وعميق، خط كلماته بحرفية عالية، تاركاً القارئ في فضاء رمزي شاسع، تتعدد فيه التأويلات وتتقاطع التفسيرات، وفق ما تلتقطه الروح وتدركه البصيرة. إنه عمل يضج بالإبداع، ويمنح لكل قارئ تجربة تأملية فريدة، تعيد تشكيل حدود الخيال والواقع.
** **
- براك البلوي