يقول الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي حاكم إمارة الشارقة: «إن بناء المستقبل رهين ببناء الإنسان، حيث أصبحت القوى البشرية تشكل أهم العوامل المؤثرة في تقدم الدول وتطورها، وإن المشروع الثقافي الذي حرصنا على تبنيه وتنفيذه، انطلق على الدوام من الثوابت العربية الإسلامية، وحرصنا على إبراز هذه الروح في ما ننفذه من مشاريع وخطط في كل مجالات التربية، والثقافة، والعلوم، وعلى غرسها في نفوس وعقول الناشئة، حفاظاً على هويتنا الحضارية، وصوناً لها من التبدد والضياع في عصر العولمة».
وفي كلمة للكاتب والباحث الإماراتي الدكتور عبد العزيز المسلّم يقول: إن المعرفة كتاب وحروف، ومداد يرسم الكلمات ليحولها إلى معان مفيدة، سواء كلمات بشكلها التقليدي أو بوصفها نصوصاً افتراضية على أجهزة وبرامج وتطبيقات ذكية مهيأة للقراءة. وفق توجيهات ودعم صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، مضت عملية النشر في معهد الشارقة للتراث بتسارع محمود، جعل كثيرا من المهتمين يتطلعون إلى أهمية وفاعلية منشورات المعهد ومعها منشورات مركز التراث العربي، كونها ترفد المكتبة العربية والعالمية بما يمثل إضافة نوعية لها”.
صدر عن معهد الشارقة للتراث بالإمارات، كتاب: «عبد العزيز المسلّم يرصُد موسُوعة الكائنات الخرافيّة في التّراث الإماراتي دراسة في المخيّلة الشّعبيّة»، في طبعته الثالثة سنة 2020م، والطبعة الثانية سنة 2018م، والطبعة الأولى سنة 2017م، من القطع المتوسط، الكتاب باللغات العربية والإنجليزية والإسبانية للدكتور عبد العزيز المسلّم، بالشارقة.
1. من هنا نبدأ
وفي تمهيد للكتاب يشير الدكتور عبد العزيز المسلّم، بالقول:» أن الكائنات الخرافية بأشكالها وأهواله، سواء كانت في إطار الحكايات الخرافية أو خارجها، وإن كانت قديما تروى مشافهة ولا تفسر، كانت جميع عوالمها محجوبة معزولة عن التداول والمناقشة، وكثير من الحوادث والكوارث الشخصية والعامة، التي حدثت في الماضي، كانت تنسب - أحياناً - إلى الخوض في مثل هذه الأمور.
ويكمل رئيس معهد الشارقة للتراث، أن الحكاية الخرافية في هيئتها العامة، فتدخل ضمن أقسام الأدب العبي، أما في صفتها الخاصة ومضمونها، فتأتي ضمن باب المعتقدات الشعبية وصيانة التقاليد، فلكل انحراف خلقي أو انحلال اجتماعي، كان هناك كائن خرافي مخيف، مهمته ردع من جَرُؤ على تجاوز تلك الحدود، والآفات الاجتماعية كثيرة، مثل: الحسد، العري، البغي، الزنى، السرقة، الخيانة، الجشع، الظلم، الغدر، الحقد، وكانت ترسل إليها تطعيمات مؤلمة في الصغر، تستقر في أقصى الذاكرة، وتساعد كثيرا على التحصن من الاقتراب منها.
وعن خصوصية المجتمع الإماراتي، يوضح الدكتور عبد العزيز أن مجتمع الإمارات كان يعيش في عزلة شخصية بحتة، وانفتاح اقتصادي كبير؛ فعلى الرغم من بساطة الحياة القديمة وبساطة الناس وطيبتهم النادرة، إلا أنهم كانوا كثيري الحيطة والحذر من الاتصال بالآخر: الآخر القريب أو البعيد، وهذا ساعد على بروز حالة من الانعزال عن التأثر بالأفكار الجديدة التي لا تمر إلا بقنوات معلومة؛ فالتأثر جائز، لكن الإجماع على الجديد كان ضرورياً، والانفراد كان سمة شاذة.
2. حكايتي مع الكائنات الخرافية
يبرز الدكتور عبد العزيز المسلّم على أن علاقته بالكائنات الخرافية قديمة جدا؛ منذ نعومة أظافره وهو لصيق بكثير من الكائنات الخرافية التي تملأ حقيبة والدته، كما أن نشأته في أسرة لها جذور ممتدة في أنحاء متفرقة، جعلت لديه ذلك الثراء في حقل الخرافات وكائناتها؛ إذ نشأ المسلّم في أسرة متوسطة في الشارقة، وأصوله أحسائية (شرقي السعودية حاليا).
3. موسوعة الكائنات الخرافية، تجربة رائدة
يشير الدكتور مصطفى جاد أستاذ علوم الفولكلور بالقاهرة، أن الأستاذ عبد العزيز المسلّم بكتابه الشهير «خراريف» الذي صدر عن دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة، سنة 2007م، ومنذ ذلك التاريخ شرع في عمليات جمع منظمة لما توافر لديه من مادة عن الكائنات الخرافية، ثم برزت فكرة الموسوعة التي بين أيدينا، ليضم فيها جميع ما عكف على جمعه، وبلغ 36 خرافياً.
ويكمل جاد أن الموسوعة تثير بداية إشكالية التصنيف؛ فإذا كان مصطلح «خراريف» الذي استخدمه المؤلف في الكتاب، يعني الحكايات الخرافية التي يرتبط أبطالها بالكائنات فوق الطبيعية، فإن الموسوعة التي بين أيدينا تحوي توصيفا للكائنات الخرافية نفسها، ومن ثم فنحن أمام موضوع في المعتقد الشعبي وليس الحكاية الشعبية، إذ تبقى ملامح الحكي متأصلة في لغة المؤلف أو ما استخلصه من الرواة الذين انحاز إليهم مستخدما المصطلح المحلي «خروفة» فضلاً عن أن الموضوع الذي اختاره يحمل في طياته عناصر الحكي والتشويق، بل العناصر الدرامية، كما سنعرض لاحقاً.
وبالتالي فدراسة الكائنات الخرافية من أصعب وأدق موضوعات التراث الشعبي العربي عامة والمعتقد الشعبي خاصة، والمتخصصون في المجال يدركون كيف يمثل بحث هذا الفرع من تراثنا الشعبي نوعاً من المجازفة والمغامرة غير مضمون العواقب؛ فالموضوع يقع في منطقة ضبابية بين العالم الواقعي، والكائنات العلوية التي شكلت صورا أسطورية في المخيلة الشعبية، وقد استطاع عبد العزيز المسلّم أن يقدم مدنه الميدانية من دون أن يفلت منه ركن واحد من أركان المنهج العلمي الذي تعارفنا عليه في مجال البحث الأكاديمي، وهو أسلوب متأصل في المؤلف، نلمحه في كتاباته السابقة عن الأزياء والزينة، وعن اللهجة الإماراتية، فضلاً عمَّا أصدره ضمن سلسلة الذاكرة الشعبية.
ويضيف الأستاذ مصطفى على أن المؤلف في جمع مادته بمجموعة من الرواة الثقات، الذين جلس يسمع منهم ويدون أحاديثهم عن الموضوع، وقد اتبع سياقاً موحّداً في جمع مادته واستخلاص المعلومات؛ فقدم في بداية كل مادة التفسير اللغوي لتسمية الكائن الخرافي لنتعرف إلى ملامحه، ثم شرع يبحر في كتب التراث العربي؛ للوقوف على تأصيل عربي للكائنات الخرافية التي جمعها.
كما التزم المؤلف بالبعد الجغرافي والمناطق الثقافية في الإمارات؛ فنجد مواد ممثلة للبيئات الساحلية والصحراوية والجبلية، كما تجاوز الحدود المحلية للبحث في التراث العالمي؛ ليقف على كائنات شبيهة، متبعا المنهج المقارن، ولعل الاتجاه الموسوعي جعله دائما محايدا في عرض مادته، وهو أمر متعارف عليه في علم الموسوعات.
4. تصنيف المؤلف للكائنات الخرافية
يشير الدكتور مصطفى جاد، إلى أن التصنيف الذي اختاره الدكتور عبد العزيز المسلّم للكائنات الخرافية، يضمّ ثلاثة موضوعات رئيسية:
البشر وأنصاف البشر
النباتات والحيوانات والطيور
الجمادات والجن والشياطين
والمتأمل في هذا التصنيف سيلحظ من الوهلة الأولى أنه قابل لتفصيل أكثر؛ فالنباتات يمكن أن تستقل بتصنيف منفرد عن الحيوانات والطيور، والجمادات يمكن أن تستقل عن الجن والشياطين، وهكذا، غير أن المؤلف آثر هذا التصنيف حتى تتوافر لديه مواد أكثر في المستقبل، وقد تستوعب الموسوعة في ما بعد الكائنات الخرافية في منطقة الخليج العربي، ومن ثمّ يتسع التصنيف ويضيق تبعاً لحجم المادة المتوفرة.
5. الخرافة فعل إنساني لمواجهة الخير
يشير الدكتور باسم عبود الياسري عضو اتحاد المؤرخين العرب، أنه منذ ولد الإنسان في هذا العالم وهو يواجه مصيره، وكانت الطبيعة أول ما واجهته، بتلك الظواهر الطبيعية، كظهور القمر والرعد والمطر، فكانت أسراراً حار في تفسيرها وعجز عن فك رموزها؛ فكان لا بد لها من أن تشكل هاجساً وقلقاً، قادته إلى نتائج غير دقيقة، دفعته إلى إنتاج حكايات في محاولة لتبديد قلقه؛ فكانت الخرافة التي تحولت قصصا يتداولها الناس في ما بينهم.
ويكمل الدكتور عبود أن الحكايات الشعبية ظلت فترة طويلة يعدها بعض الدارسين شيئاً لا يستحق الاهتمام، وفي ما بعد صار ينظر إليها أنها التراث الحقيقي للشعوب، إذ لا يخلو شعب من الشعوب من تلك الخرافات، بغض النظر عن تقدمه أو عدمه، واهتمت بها منظمة «يونسكو» بحسبانها جنساً ثقافياً يستحق الاهتمام، والخرافة أكثر من مجرد حكايات جميلة ومشوقة ومخيفة تقص الأطفال، إنها ملاحظات دونها الإنسان في عصر من عصور حياته، أو ضمن حضارة معينة مر بها، عبرت عن مفاهيمه وإدراكه لها؛ فصاغ تلك الحكايات نتيجة ملاحظات راقب بها الكون بعينين حائرتين وعقل مشوش، وبالتالي هي شبه ضرورة الإنسان؛ لديمومته في هذه الحياة، وقبوله بعدم قدرته على إيجاد حلول وإجابات لما يرافق الحياة البشرية.
وعن كتاب الدكتور عبد العزيز المسلّم، يبرز باسم على أن هذا الموضوع، وضع الباحث كتابه هذا عن «الخراريف»، في محاولة جادة وجميلة لتدوين تراث دولة الإمارات من تلك الحكايات التي لا بد من أن تندثر فيما لو أهمل تدوينها، و»خراريف» تسمية محلية للخرافة، أصابها بعض التحريف عن الأمل.
6. قراءة في بنية الموروث الحكائي الشعبي في الإمارات
يوضح الدكتور رسول محمد رسول، أن الباحث عبد العزيز المسلم يعمل في حقل التراث الشعبي وفروعه المعرفية التي تندرج في فضائه، محاولا النفاذ إلى مكنونات هذا التراث، بمختلف نصوصه الشفاهية والمدونة، المنظورة وغير المنظورة، الشاهدة على عصرها أو المضمرة في ما وراء المرئي فيه، المرغوب فيها تدوالاً أو المسكوت عنها تواريا، في ظل حراك ثقافي إماراتي واعد، يجتهد باحثوه في ترسيم حدود هويته وخطابه.
يكمل الباحث رسول، على أن هذا الكتاب ينتمي إلى هذا العشق الوجودي للهوية الثقافية، وإلى الجهد الذي بذله المسلّم فيه، ويمكن عده الأكثر تماساً مع جوهر التراث الشفاهي في الإمارات، لأنه يذهب بنا ليس إلى سردية الحكاية الشعبية في معالمها القصصية فحسب إنما - أيضاً- إلى ما بعدها؛ إلى حقل مكونات الحكاية، وتحديداً إلى الكائنات الرئيسية أو المحورية فيها، تلك الكائنات التي هي بنت الخيال بقدرما هي بنت الواقع، بنت الكائن بقدرما هي بنت المفترض أن يكون، بنت المعقول بقدرما هي بنت اللا معقول، وهكذا.
** **
د. أسامة خضراوي - المغرب