محسن علي السهيمي
لو لم يكن من أمر القصيدة العربية -العمودية تحديدًا- إلا أنها توثِّق للحدث والمناسبة، وتصف المشهد بطريقة فنية رائقة، وتُعبر عن خلجات النفس بصورة أكثر مصداقية وحميمية، ومن ثَم يُكتَب لها القبول فتخلد في ذاكرة الأجيال لكفاها. السؤال الجدير بالطرح هو: هل استطاعت القصيدة الحديثة التوثيق للحدث والمناسبة ووصف المشهد والوفاء بأغراض الشعر كافة بما يضمن لها القبول والخلود؟ الإنسان العربي منذ أن عَرف الشعر حتى اليوم وهو يوثق للأحداث والمناسبات، ويصف المشهد الماثل أمامه -حتى الغائب والمُتخيَّل- من خلال القصيدة العمودية، وهو إن حاول -في العقود المتأخرة- ذلك من خلال القصيدة الحديثة ففي الغالب لا يُكتب للقصيدة النجاح والخلود في الذاكرة.
ومن باب ضرب المثال، فقد جاء وصف الربيع من خلال القصيدة العمودية في هذه المقطوعة الفنية الرائقة التي جاء فيها:
أتاكَ الربيعُ الطلقُ يختالُ ضاحكًا
منَ الحُسنِ حتى كادَ أنْ يتكلما
وقد نبَّهَ النيروزُ في غَسقِ الدُّجى
أوائلَ وردٍ كُنَّ بالأمسِ نُوَّما
يُفَتِّقُها بَردُ النَدى فَكَأَنَّهُ
يَبُثُّ حَديثًا كان أَمسِ مُكَتَّما
ومِن شَجرٍ رَدَّ الربيعُ لِباسَهُ
عليهِ كَما نَشَّرتَ وشيًا مُنمْنما
أَحَلَّ فَأَبدى لِلعُيونِ بَشاشَةً
وَكانَ قَذًى لِلعَينِ إِذ كانَ مُحرَما
وَرَقَّ نَسيمُ الريحِ حَتَّى حَسِبتَهُ
يَجيءُ بِأَنفاسِ الأَحِبَّةِ نُعَّما
فكان من أمر هذه القصيدة أن أطربتْ فاستُظهِرتْ وكُتب لها الخلود عبر القرون المتطاولة. فهل توجد قصيدة حديثة مماثلة وثَّقت للربيع ووصفته بكل براعة ومن ثَم خلدت في ذاكرة الأجيال؟
القصيدة العمودية تغنَّت بالمكان بهذه السيمفونية الشجية التي جاء فيها:
يا جارَةَ الوادي طَرِبتُ وَعادَني
ما يُشبِهُ الأَحلامَ مِن ذِكراكِ
مَثَّلتُ في الذِكرى هَواكِ وَفي الكَرى
وَالذِكرَياتُ صَدى السِنينِ الحاكي
وَلَقَد مَرَرتُ عَلى الرِياضِ بِرَبوَةٍ
غَنّاءَ كُنتُ حِيالَها أَلقاكِ
ضَحِكَت إِلَيَّ وُجوهُها وَعُيونُها
وَوَجَدتُ في أَنفاسِها رَيَّاكِ
فذاع صيتُها وحفظتها الذاكرة وغنَّتها الحناجر، ولم تبرح الأجيال تتناقلها. فهل جاءت القصيدة الحديثة بمثل هذا الوصف للمكان والتغني به والتوثيق للحالة الشعورية المتقاطعة مع جماليات المكان، ومن ثَم نالت مثل ما نالت هذه القصيدة الفريدة ومثيلاتها؟
القصيدة العمودية وثقت لدهشة اللقاء بتحفة فنية حفظتها الذاكرة العربية جاء في مطلعها:
في مَدخلِ الحمراءِ كان لقاؤُنا
ما أطيبَ اللُّقيا بلا ميعادِ
عينانِ سوداوانِ في حِجريهما
تتوالدُ الأبعادُ من أبعادِ
هل أنتِ إسبانيَّةٌ؟ ساءَلتُها
قالتْ وفي غرناطةٍ مِيلادي
غرناطةٌ؟ وصَحتْ قرونٌ سبعةٌ
في تينكَ العينَينِ.. بعدَ رقادِ
القصيدة العمودية وثَّقت للمناسبة في أجمل صورة ما جعلها ماثلة لا تفارق -بكافة تفاصيلها- تلافيفَ الذاكرة، ومن ذلك هذه القصيدة المموسقة التي جاء في مطلعها:
دربٌ منَ العشقِ لا دربٌ منَ الحجرِ
هذا الذي طارَ بالواحاتِ للجُزُرِ
ساقَ الخيامَ إلى الشطآنِ فانزلقتْ
عبرَ المياهِ شراعًا أبيضَ الخَفَرِ
ماذا أرى؟ زورقٌ في الماءِ مندفعٌ؟
أمْ أنهُ جَملٌ ما ملَّ من سَفرِ؟
وهذهِ أغنياتُ الغوصِ في أُذُنِي؟
أمِ الحُداةُ شَدَوا بالشعرِ في السَحَرِ؟
ولا تسأل بعد ذلك عن ذيوع هذه القصيدة وانتشارها واشتغال الذاكرة بها حتى أصبحت لازمة طربية تحضر وتُردد في مواقف ومناسبات متعددة.
القصيدة العمودية احتفلت بالحِكمة وكانت بابَها الأوسعَ، فحفظ لنا التراث الشعري العربي قصائد وأبياتًا مُلئت حكمة بالغة جامعة عابرة للزمان والمكان، ومن ذلك:
جَربتُ مِن نارِ الهوَى ما تَنطَفي
نارُ الغَضَا وتَكِلُّ عمَّا يُحرِقُ
وعَذلْتُ أهلَ العِشقِ حتى ذُقْتُهُ
فعجبتُ كيفَ يَموتُ مَن لا يَعشَقُ
وعَذَرتُهُمْ وعَرفْتُ ذَنْبي أنَّني
عَيرتُهُمْ فَلقيتُ منهُمْ ما لَقُوا
أبَني أبِينَا نحنُ أهلُ مَنازِلٍ
أبَدًا غُرابُ البَينِ فيها يَنْعَقُ
نَبْكي على الدنْيا ومَا مِن مَعْشرٍ
جَمعَتْهُمُ الدنْيا فلَمْ يَتفَرقُوا
ومن قصائد الحكمة أيضًا هذه القصيدة الفلسفية الباذخة التي حملت الكثير من معاني الحكمة، وإن كانت قد قامت لغرض الرثاء:
صَاحِ هَذِي قُبُورُنا تَمْلأ الرُّحْـ
ـبَ فأينَ القُبُورُ مِنْ عَهدِ عادِ
خَفّفِ الوَطْءَ ما أظُنّ أدِيمَ الْـ
أَرْضِ إلاّ مِنْ هَذِهِ الأجْسادِ
وقَبيحٌ بنَا وإنْ قَدُمَ العَهْـ
ـدُ هَوَانُ الآبَاءِ والأجْدادِ
سِرْ إِنِ اسْطَعْتَ فِي الْهَوَاءِ رُوَيْدًا
لَا اخْتِيَالًا عَلَى رُفَاتِ الْعِبَادِ
رُبَّ لَحْدٍ قَدْ صَارَ لَحْدًا مِرَارًا
ضَاحِكٍ مِنْ تَزَاحُمِ الْأَضْدَادِ
وَدَفِينٍ عَلَى بَقَايَا دَفِينٍ
فِي طَوِيلِ الْأَزْمَانِ وَالْآبَادِ
فأين نجد كل هذا الجَمال الأخاذ الذي جمع بين فرائد الحكمة وجَمال اللغة الشاعرية إلا في القصيدة العمودية التي لها القدرة -وحدها- على احتواء كل هذه المعاني وإخراجها في قالب فني تطرب له الذائقة الأصيلة وتنتشي معه الروح فتصل الرسالة بكامل تفاصيلها؟
القصيدة العمودية لها باع في الزهد، وقد خلَّد لنا التراث الشعري العربي قصائد رائقة في الزهد لشعراء عرفوا قيمته فمزجوا هذه القيمة بأشعارهم ليُخرجوا لنا هذه الفرائد التي أقبلت عليها الذائقة العربية الأصيلة، وتكفَّلت الذاكرة العربية بحفظها ليُكتَب لها البقاء والخلود والتمدد عبر الزمن، ومن ذلك:
يَا بَاكِيًا فُرْقَةَ الأَحْبَابِ عَنْ شَحَطٍ
هلَّا بَكيْتَ فِراقَ الرُّوحِ للْبدَنِ؟
نُورٌ تَرَدَّدَ فِي طِينٍ إِلَى أَجَلٍ
فَانحَازَ عُلْوًا وخَلَّى الطِّينَ للْكفَنِ
يَا شَدَّ مَا افْترَقَا مِن بَعْد ما اعْتلقَا
أَظُنُّها هُدْنةً كانَتْ على دَخَنِ
إِنْ لَم يَكُنْ فِي رِضَا اللهِ اجْتِماعُهُمَا
فَيَا لَها صَفْقةً تَمَّتْ على غَبَنِ
والأمثلة -بامتداد تاريخ الشعر العربي- نهرُها متدفق هادر ولا يمكن حصرها، وقد وفَتْ بأغراض الشعر كافة وأمتعتْ وأطربتْ فحُفظتْ فخلدتْ. لذلك لا أدري ما هي وظيفة الشعر إن لم يكن كاشفًا -فنيًّا- عن جماليات اللغة، واصفًا المشهد بكل أبعاده، موثٍّقًا للأحداث، مدونًا للتاريخ مصَدِّرًا للحكمة الخالدة، معبرًا عن مكنونات النفس وخلجاتها بمصداقية عالية في قَالب نغمي طربي آسر؟ إذا ظل الشعر منكفئًا على نفسه يُخاطب قائلَه بلغة باردة ولم يكن مرآة عاكسة لتفاصيل الحياة وأحداثها، فما جدواه إذن؟ الذائقة العربية الأصيلة ذائقة طربية راقية لا يحقق طموحها إلا الشعر الموزون المقفى، أما القصيدة الحديثة فهي قصيدة بعيدة عن الطربية ساكنة لا تجد سبيلها في الوزن والقافية؛ وربما يعود هذا لكونها قامت أول ما قامت نتيجة ذائقة أعجمية تميل للهدوء ولا تَرى خارج دائرتها الضيقة وتنطلق من لغات لا تتوافر فيها الإمكانات الفنية العالية التي لدى اللغة العربية، ومع هذا فقد سرى هدوْؤُها ومحدوديةُ رُؤْيتها عليها حتى وهي تُكتب بالعربية، لا لقصور في العربية؛ وإنما لكون القصيدة الحديثة هكذا تركيبتها وجينتها التي تخلَّقت منها، فمهما كان فضاء اللغة التي تُكتب بها واسعًا إلا أنها لا تبرح سكونها ودائرتها الضيقة.
لا أدري لمن يُوَجَّه الشعر حينما يعمد لتكثيف المجاز والإغراق فيه ومناجاة الأساطير في قَالب يجعل القصيدة لا تُطرِب حال سماعها أو قراءتها ولا تخلد في الذاكرة ولا تُستحضَر في موطن الشاهد ولا تُؤخذ حجة ودليلًا، ولا تَنضح بالحكمة؟ القصيدة الحديثة تجاهلت -ربما عجزًا- أغراضَ الشعر، وانكفأت على نفسها لذلك لا تجدها تؤخذ شاهدًا نحويًّا ولا شاهدًا على الكثير من القضايا الحياتية، ولا تُستحضر في موقف الحكمة أو الوصف أو المدح أو الهجاء، وقبل ذلك هي لم تحتل جزءًا في الذاكرة ولم تستطع القرار فيها، مع التأكيد على أن القصيدة العمودية لا تستحق مسمى قصيدة متى خلت من الصور الجمالية والمحسنات والخيال وغيرها من جماليات القصيدة حتى وإن (صح وزنها وسلمت قافيتها)؛ لأنها بهذه الكيفية مجرد نظم بارد، وإن صح وزنها وسلمت قافيتها ولكنها غدت محتشدة بالمجازات إلى درجة (الطغيان) ولم يكن لها هدف ولا غاية فهي مجرد (طلاسم وألغاز).
ومن باب تقريب المعنى.. يمكن القول إن القصيدة الحديثة أشبه ما تكون بجهاز الجوال القديم الذي لا يكاد الغرض منه يتعدى مجرد المكالمة الصوتية والرسائل البسيطة، ولذلك لم يكن الشغف به كبيرًا؛ كونه لم يُرضِ ذائقة الناس ولم يحقق مبتغاهم ولم يحمل عنهم الكثير من همومهم وآمالهم ولم يحقق الكثير من غاياتهم وأغراضهم، في المقابل فإن القصيدة العمودية أشبه ما تكون بجهاز الجوال الحديث الذكي الذي تعددت أغراضه وحمل معه المتعة ووثِّق للحدث وغدا ذاكرة جيدة تستوعب كل مُدخَل إليها، فكان حاملًا جيدًا لآمال الناس، محققًا لغاياتهم.