عبدالله العولقي
في الشعر العربي، يطلق على البيت الواحد بـ(المفرد) أو (اليتيم) ويسمى البيتان (نتفة)، بينما تسمى الأبيات من الثلاثة إلى الستة (قطعة)، أما إذا كان عدد الأبيات من السبعة فما فوق فيطلق عليها (قصيدة)، وعندما نتأمل أعمال الشاعرة عائشة التيمورية نجد ديوانها يمتلئ بهذه الأشكال الشعرية من الأبيات اليتيمة أو النتفة أو القطعة، وهذا يأخذنا إلى دلالة نفسها الشعري القصير، فليس لها شيء من القصائد المطولات سوى واحدة يبلغ عدد أبياتها 67 بيتاً، أما متوسط عدد أبيات قصائدها فيتراوح تقريباً من 15 إلى 35 بيتاً.
حديثنا اليوم عن إحدى رائدات الشعر العربي بمصر خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، وهي عائشة بنت إسماعيل باشا بن محمد الكاشف تيمور ، شاعرة متمكنة وأديبة من نوابغ النساء في زمانها ، ولدت في القاهرة عام 1840م ، وبعد زواجها انتقلت مع زوجها إلى الأستانة بتركيا عام 1854م، وبعد وفاته عادت إلى القاهرة حيث بقيت بها حتى توفيت في عام 1902م ، وقد ورثت الأدب والشعر عن أبيها الذي كان مثقفاً وشغوفاً بالمطالعة الأدبية، وبعد أن رأى فيها ذلك التوجه ساعدها في تنمية مواهبها الأدبية في التأليف والنظم والكتابة ، ولها ديوان مطبوع وسمته بـ حلية الطراز ، وهي شقيقة الأديب الشهير أحمد تيمور باشا وعمة الأدباء الروائيين محمد ومحمود تيمور.
ما يميز شعر عائشة التيمورية عاطفتها الصادقة ومشاعرها الجياشة المتدفقة في رثائياتها، ولعل ألم الفقد الذي أوجعها في موت أبيها ثم زوجها ثم ابنتها الصغيرة كان له أعظم الأثر على تجربتها الشعرية ، وحديثنا اليوم تحديداً عن معانيها المتكررة في قصائد الرثاء والتي تعد في موازين النقد الأدبي عيوباً في أدب الشاعر لكن بلاغة الشاعرة وقدرتها البيانية على النظم والكتابة الشعرية حولت هذا التكرار إلى نغم جميل لا يمل قارئ النص من تكراره والعودة إليه، فمثلاً تكرار حادثة الطبيب الذي زار والدها وابنتها قبل رحيلهما ، والحوار الشيق والذي يضج بوجع المرض وألم الفقد والحسرة على عجز الطبيب عن تقديم العلاج الناجع.
ففي قصيدة عز اللقاء الشهيرة والتي رثت بها والدها:
رجع الطبيب بيأسه متسربلاً
وأراق جرعته على الحصباء
ناداه لا تيأسْ وعالج علّتي
فعسى يكون على يديك شفائي
واكشفْ على قلبي، فإنْ بشّرتني
بالبرءِ خذ ملْكي وذاك فدائي
وإذا انقضى نحْبي وما أجد الدوا
نفعاً ، فوارِ الجسم عن أعدائي
وارجعْ لقومي الغافلين وقل لهم : ذبح القضا إسماعيل في البيداء
وفي قصيدتها الأخرى (إن سال من غرب العيون بحور) ، تتفاقم الأزمة النفسية بصورة أكبر مع فقدان ابنتها الصغيرة ( توحيدة ) والتي وافاها الأجل في سحر إحدى ليالي شهر رمضان المبارك حيث تقول في حوارية رائعة :
جاء الطبيب ضحىً وبشّر بالشفا
إنّ الطبيب بطبه مغرور
وصف التجرّع وهو يزعم أنه
بالبرءِ من كل السقام بشير
فتنفست للحزن قائلةً له:
عجِّل ببرئي حيث أنت خبير
وارحم شبابي إن والدتي غدت
ثكلى يثير لها الجوى وتشير
وارأفْ بعينٍ حرُمت طِيب الكرى
تشكو السهادَ وفي الجفون فتور
فلما رأت يأس الطبيب وعجزه
قالت ودمع المقلتين غزير
أماه قدْ كلّ الطبيب وفاتني
مما أؤمِّل في الحياة نصير
وكذلك في قصيدة (يا من أتى للقبر يقرأ طرسه):
جاء الطبيب يجس نبض ذراعها
فرأى التأثر ليس كالمعتادِ
فتنفس الصعداء مرّاتٍ وقد
أعيا ، وقال : اليوم ضلّ رشادي
فتنهّدت جزعاً وقالت : سيدي
أأموت قبل التربِ والأنداد
وأسير من دون الأنام وكم أرى
للدهر قبل الموت من رواد
وفي قصيدة (يا قبر فاهنأ بالتي أحرزتها) تكتفي بذكر بالطبيب، فتقول:
كم من طبيبٍ لم يكل وطالما
داوى ، ولكنّ داؤها يتفوّعُ
وهكذا نرى ذات المشهد الحواري تكرر في القصائد الثلاث الأولى ولكن ببلاغة حيوية ومتجددة لا تجعل القارئ يحس بملل التكرار ، أما الألفاظ فتأتي ضمن تراتبية منطقية ( الطبيب ثم اليأس من العلاج ثم الموت ثم اللحد والقبر ثم اللقاء في الجنة) ، الأمر الآخر أن القصائد الأربع من بحر واحد هو بحر الكامل ، وهذا البحر من الأوزان ذات التفعيلة الواحدة والتي تتكرر داخل البيت 6 مرات، ورغم ذلك فقد أجادت الشاعرة في التعامل مع هذه التكرارية بروعة سبك الألفاظ ضمن شاعرية بديعة، وتغيير كل حوار حسب سياق النص والقافية وإن كانت الفكرة واحدة ، وهذا يتكرر عموماً في معظم اعمال عائشة التيمورية ، فبحر الكامل هو الوزن الشعري المحبب للشاعرة ويمثل حوالي 70 % من قصائدها ، ويأتي البسيط والوافر في بقية القصائد ، وهناك قصيدة واحدة فقط على بحر الطويل.
الأمر الآخر الذي نلمحه في تجربة الشاعرة يتعلق بشكوى الدهر والخروج قليلاً عن سياق الرضا والتسليم، وهذا أمر طبيعي كردة فعل إنسانية تجاه ألم فقدان الأحبة والأقرباء، كما في بيتها الشهير:
إني ألفت الحزن حتى أنني
لو غاب عني ساءني التأخير
إن قيل عائشة أقول لقد فنى
عيشي وصبري والإله خبير
أو في قولها عن والدها المرحوم:
إن ضاق بي ذرعي إلى من اشتكي
من بعد فقدك كافلاً برضائي
أو في قولها عن ابنتها:
تباً لدهرٍ خانها واغتالها
من خدرها كفريَّة الآساد
وفريدةً لم تدرِ قيمتها الورى
قد باعها الغواص بيع كساد
وهذا الخروج عن سياق الرضا والتسليم نجد الشاعرة تعالجه فوراً بالعودة إلى نطاق التوحيد مباشرةً عندما تلتحم ذاتها المكلومة بالبعد الديني والإيماني بالقضاء والقدر حيث تزدحم تلك المعاني داخل قصائدها بتراتبية اللحد والقبر ثم موعد اللقاء في جنان الخلد:
حتى أتى أمْرُ الإله لها : ادخلي
لحْداً وأمرُ الله لا يسترجعُ
يارب فاجعل جنة المأوى لها
داراً يطيب نعيمُها تتمتعُ
واسكبْ على حصبائها سحبَ الرضا
فضلاً وإن تك قد سقتها الأدمعُ
أو قولها:
قولي لرب اللحد رفقاً بابنتي
جاءت عروساً ساقها التقدير
وتجلدي بإزاء لحدي برهةً
فتراك روح راعها المقدور
فأجبتها والدمع يحبس منطقي :هو راحمُ ربنا وغفور
أبكيك حتى نلتقي في جنة ٍ
برياض خلدٍ زيّنتها الحور
أو قولها في رثاء أبيها:
لما قضى المولى ببعدك وانقضى
أملي من الدنيا ، وقلّ عزائي
وجهت مبتهلاً لربي وجهتي
ليعمّ روحك منه بالنعماء
فلك الهنا بالخلد فزت بعذبه
إذْ أنت معدودٌ من الشهداء
وخاتمة القول.. تكرارية المعاني في أي تجربة شعرية واجترار أفكارها تعود في الغالب إلى فقر تجربة الشاعر تجاه خصوبة الفكر وثراء الخيال، وهذه تجربة تصيب قارئ النص بالملل من العودة إليه لكن تجربة الشاعرة عائشة التيمورية فيها شيء من التميز والإبداعية، فجمالية النص وبلاغة السياق الشعري تبعد عن ذهن المتلقي ملل التكرارية ، تماماً مثلما نستمع إلى البلبل الحبيس داخل القفص، يسمعنا كل يوم نفس النغمة واللحن ولكننا نطرب لها ولا نمل من سماعها.