سهام القحطاني
ستظل موهبة الإبداع «الاستثناء» الذي حيَّر العلماء في كشف أسرارها، فلماذا يُمنح أفراد مخصوصون «موهبة إبداع» دون غيرهم من البشر، وهذا التفرّد هو الذي حول الشعراء قديماً إلى أساطير والفلاسفة إلى أنبياء معرفة، وربط بين الإبداع وبخاصة الشعر بالجن تارة والسحر تارة أخرى.
ففكرة الخلق هي مصدر «الاستثناء والتفرّد» الذي كان ينظر المجموع بهما إلى «المبدع؛ باعتبارها -فكرة الخلق- تتجاوز حدود إطار الواقع أو المألوف، وبها اختلاق لعالم افتراضي يُضاف إلى الواقعي.
ولذا أوجد العرب منطقاً يُسهل عليهم «فهم نشوء هذه الموهبة التي في رأيهم تُخرح المبدع من إنسانيته إلى طبيعة أخرى خالصة مثل الجن أو عادية مساندة بوجود غير مألوف ولكن في النهاية تحقق له وجوداً غير طبيعي.
وهو ما جعل الشاعر عند الأمم القديمة «مكانة مختلفة» عن غيره، فعند العرب قبل الإسلام كان ظهور شاعر في القبيلة أشبه بظهور «نبي» تُقام في ظله الاحتفالات.
وبرز في هذا الاعتقاد «وادي عبقر» الذي كان بمثابة مصدر خلق الموهبة فكل من ذهب فيه وأقام ليلة أو ليلتين عاد موهوباً، وهو واد كما يُقال «خاص بالجن».
كما برز الاعتقاد بأن لكل «شاعر «قرين من الجن سواء ذكراً أو أنثى يُملي عليه الشعر، أو كما يوصفه «نفث الشيطان أو رُقَى الشيطان».
فقرين امرئ القيس «لافظ بن لاحظ» وقرين وعبيد بن الأبرص «هبيد بن الصلام» وقرين النابغة الذبياني «هاذر بن ماهر» وقرين عنترة بن شداد «جالد بن ظل» وقرين الأعشى «مسحل السكران بن جندل».
وقد اعترف الشعراء بالشراكة الثقافية بينهم وبين الجن فقال امرؤ القيس:
تخيرني الجن أشعارها
فما شئت من شعرهن اصطفيت
وإني وكل شاعر من البشر
شيطانه أنثى وشيطاني ذكر
فما رأني شاعر إلا استتر
فعل النجوم عاين القمر
«أبو النجم العجلي»
ويقول جرير:
رأيت رُقَى الشيطان لا تستفزه
وقد كان شيطاني من الجن راقيا
وهذا الارتباط بين ما هو واقعي المتمثل في الشاعر وفعل الإبداع المتمثل في «الوحي لكونه نفثاً من الجن أو إملاءات من رقيه» أحاط الشاعر «بهالة من القدسية» ُترجمت من خلال رؤيته لنفسه، تلك الرؤية التي تؤطرها مبالغة النرجسية ليرفع الشاعر ذاته فوق مقاييس البشريّة ولذلك ظل متمسكا «بأسطورة شراكته الثقافية بالجن» لتظل هالة التفرّد والخصوصية عرشه الذي لا يسقط.
وهذا التفرّد حاول الشاعر تأكيده من خلال قيمته المستدامة عبر العصور وقدرته التي تفوق الخصائص البشرية، وممثّلات هذا التفرّد برزت من خلال مسارين «المسار الجمعي وهنا الشاعر ممثّل للمجموع في القيمة، والمسار الفردي خصوصية قيمة الذات منفصلة عن المجموع»، والمسار الأول كان غالباً في العصر الجاهلي وصدر الإسلام، والمسار الثاني في العصر الأموي وحتى اليوم.
إن فكرة الإنابة عن المجموع الذي رسخها الشعر الجاهلي خلقت داخل الشاعر قيمة القيادة فكان الفخر بقوة قبيلته هي بدل كل من كل لقوته الذاتية.
هذا الحس الذي ظل مترسخاً في قلب وفكر الشاعر الجاهلي حتى بعد إسلامه وقصة النابغة الجعدي مع الرسول الكريم خير مثال بأن الإسلام في صدره لم يُظهر الذهنية الشعرية من:
بلغنا السماء مجدنا وجدودنا
وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
وبعد انفصال الشاعر عن «المجموع» لم تتغير رؤيته لذاته كقائد لكن هذه المرة توسعت مساحة تلك القيادة وتغيّرت صفتها فمن القبيلة إلى «المعرفة تارة، والتاريخ تارة، والاستدامة تارة وغيرها من الصفات».
فالشاعر أصبح في مفهومه معادلاً للمعرفة وقدرته على اكتشاف معرفة لم يسبقه إليه أحد.
وإني وإن كنت الأخبر زمانه
لآت بما لم تسطعه الأوائل
«المعري»
أما المتنبي فقد سيطرت عليه قيادة استدامة العظمة الأدبية؛ فقدرته عابرة للعصور تتحدى صلاحيات الزمن، بل وتتحدى طبيعة البشر.
وما الدهر إلا من رواة قصائدي
إذا قلت شعرا أصبح الدهر منشدا
فسار به من لا يسير مشمرا
وغنى به من لا يغني مغردا
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وأسمعت كلماتي من به صمم
أما أبو فراس الحمداني وهو يختلف عن المعري والمتنبي لكونه كان قائداً، فرؤيته لعظمته تنطلق من قيادته ثم شعره، فهو «القائد المُخلِص» وهو «المرشد»
وقد سار ذكرى في البلاد فمن لهم
بإخفاء شمس ضوؤها متكامل
سيذكرني قومي إذا جدّ جدهم
وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
وتقدير الشاعر العربي المبالغ فيه لذاته الذي خلق داخله «وهم الاستثناء» لم يقتصر على معنى قوته القيادية، بل قوته الفحوليّة ولعل عمر بن أبي ربيعة أول من أضاف هذا المعنى بصراحة إلى نرجسية الشاعر وأول من كرر اسمه في غزلياته.
قالت الكبرى أتعرفن الفتى
قالت الوسطى نعم هذا عمر
قالت الصغرى وقد تيّمتُها
قد عرفناه وهل يخفى القمر