الثقافية - كتب:
صدر كتاب: «ردية التراث الحي»، للأستاذ: عثمان بن محمود الصيني، الذي صدر هذا العام 2024م، وهو كتاب توثيقي من القطع المتوسط، يقع في (362) صفحة، صدر عن دار أدب، يقول الدكتور عثمان الصيني في سياق حديثه عن هذا الكتاب: «الحياة نهر جار، والإنسان يشكل قطرات هذا النهر، والقطرات تشكل النهر، وجريان النهر هو الحياة، فلو توقف جريانه لتحول إلى مستنقع آسن لا يلبث أن يجف، ولو اقتطعنا جزءا من مائه وقطعناه عن مساره لغار في أرض أو غاب في وعاء وأحشاء أو تبخّر في سماء، وفي النهر الجاري تتداخل الأزمان الماضي والحاضر والمستقبل، فإذا وقفت أمام نقطة معينة من النهر فما حاذاك منه هو الحاضر، وهو قصير وسريع، والماضي هو ما غادرك منه ولكنه حاضر أو مستقبل لغيرك، والمستقبل هو ما سيمر بك قريبا أو بعد وقت، ولذلك فإن الحاضر هو نقطة فقط والبقية ماض ومستقبل، وأهميتنا هي في أننا النقطة الواصلة بين الحاضر والمستقبل، كما كنا النقطة الواصلة بين الماضي والحاضر.
والتراث بمفهومه الشامل هو التراكم الثقافي والمعرفي في التاريخ المكتشف والواصل إلينا من إنسان هذه الأرض منذ آلاف السنين، وما لم يصل إلينا على شكل آثار ونقوش ولقى أثرية وأخبار وروايات تاريخية وإن يسيرة يُعدّ في حكم العدم، والعدم لا يعني عدم الوجود، فهو موجود بالضرورة، فكثير من أسلافنا دخلوا دائرة العدم في الدنيا، مع أنهم موجودون بالضرورة لأننا نحن أسلافهم، ولكنهم معدومون بالنسبة إلينا لأننا لا نعرف شيئا عنهم يحقق وجودهم فينا، فكثير من الأسلاف منذ مئات السنين عاشوا في هذه الأرض وأدّوا أدوارا في زمانهم، ثم ماتوا ولم يبق لهم ذكر أو ذكرى فدخلوا في دائرة العدم، وما وصل إلينا هو في التراث الذي يحيينا ويؤصل وجودنا، وما سنفعله لمن بعدنا سيضمن استمراريتنا حتى لا ندخل في دائرة العدم كما دخله كثير ممن قبلنا، وتراث إنسان هذه الأرض منذ أكثر من 7 آلاف سنة وثَّقته الكشوف الأثرية في مختلف مناطق المملكة بالإضافة إلى الروايات التاريخية العربية والأجنبية والشعر العربي ثم نثره.
والتراث غير المادي هو ممارسة لجماعة أو عدة جماعات منطلقة من ثقافتها وحياتها وتفاعلها مع بيئاتها المحيطة ورؤيتها للإنسان والحياة والكون، وعلاقتها بالعوالم المرئية وغير المرئية، وأصبح جزءا من معارفها وتراثها الثقافي الذي ينتقل إلى الأجيال اللاحقة لهم، كما ظل عبر التاريخ ممارسا وموضوع رصد ودراسة عبر الأجيال، تحت مسميات مختلفة ومناهج متعددة وأهداف متباينة ، لكنها انتظمت بعد ذلك في العالم كله بعد اتفاقية اليونسكو عام 2003م بمسمى التراث الثقافي غير المادي، متضمنة المجالات الخمس وهي : التقاليد وأشكال التعبير الشفهي، بما في ذلك اللغة كواسطة للتعبير عن التراث الثقافي غير المادي، وفنون وتقاليد أداء العروض، والممارسات الاجتماعية والطقوس والاحتفالات، والمعارف والممارسات المتعلقة بالطبيعة والكون والمهارات المرتبطة بالفنون الحرفية التقليدية.
هناك تراث ثقافي غير مادي وتراث صلب أو مادي، فالتراث غير المادي يتغلغل في جميع أنواع التراث الثقافي، أو هو الجامع لكل أنواعها والنسخ الذي يسري في شرايينها، فالأدب شعرا وسردا بجميع أنواعه وموضوعاته وأشكاله وطرائق تعبيره إذا مورس لأكثر من جيلين هو تراث غير مادي، وصناعة الأزياء وطريقة لبسها وتجهيز ألوانها وحياكتها
وطقوسها ودلالاتها، والأفلام التي أنتجت بكل محتواها وطريقة صناعتها وعرضها، وتصميم العمارة وطريقة بنائها وتجهيز موادها، والتصوير والرسم والنحت، وطريقة عرض المواد في المنازل والمتاحف والساحات، وفنون الأداء والعروض الفنية والرقصات، ومحتويات الكتب وطريقة نشرها وتجليدها وحفظها المطبوع منها والمخطوط، وكل طروق الموسيقى وألحانها وطرق عزفها وصناعة آلاتها، وطريقة إعداد الأطعمة وأساليب الطهي والنكهات والمذاقات وما تشتهر به كل منطقة أو جماعة، وما تتضمنه الآثار من نقوش وصور ومعارف ورموز ودلالات، وأساليب الحرفيين وطرق صناعتهم وأدائهم لحرفهم، كلها تدخل في باب التراث غير المادي.
وهذا ما يحيل إلى شيء من اللبس في التفرقة بين المادي وغير المادي ولذلك يستخدم بعضهم التراث الصلب في التفرقة بينهما، فالقطعة المادية الملموسة الجامدة هي تراث مادي، لكن كل ما يحيط بها من معارف وممارسات وثقافات تعد تراثا غير مادي، فالجنبية مثلا: إذا كانت موضوعة على الرف أو معلقة في محزم الشخص تعد تراثا ماديا، لكن بمجرد ما يضع الشخص يده عليها يشع حولها التراث غير المادي، فطريقة إمساك الجنبية وسلّها من جرابها أو غمدها وطريقة مناولتها للآخر أو التلويح بها فخرا أو تهديدا أو عرضا محكومة بقوانين وأعراف معروفة ومرعية، وطريقة صناعة كل جزء منها والفوارق بينها، والمعارف التي تتعلق بمقبض الجنبية ودلالتها الاجتماعية ومكانة صاحبها، ما كان منها قرن زرافة أو عاج فيل أو خشب، وتطعيمها بالذهب أو الفضة، وطريقة الرقص بها في الحرب أو الاحتفال، وتقديمها رهناً ورمزيتها للشرف الشخصي أو القبلي، وطريقة صناعة النصلة وسنها وطرقها وصنفرتها»، وهذا الكتاب تبرز أهميته في كونه مادة أصيلة تؤسس للبعد الاجتماعي والثقافي والفكري للمجتمع الخليجي.