أ.د.صالح معيض الغامدي
من المعلوم أن الإسلام قد لعب دوراً رئيساً في ظهور عدة أنواع من الكتابة الإبداعية والعلمية، وسنتناول هنا دور الإسلام في نشأة كتابة السيرة الذاتية وازدهارها. وسأشير في هذا المقال فقط إلى أهم المبادئ الإسلامية التي كانت سبباً في تطور السيرة الذاتيةً في الأدب العربي القديم.
فلقد كان لعلم الجرح والتعديل دور كبير في جعل البحث في سير الأشخاص أمراً مألوفا، بل مقبولاً، فكثرت كتب التراجم الغيرية التي تترجم لرجال الحديث في بداية الأمر ثم توسعت هذه الكتب بعد ذلك لتشمل التأليف في معاجم الرجال بشكل عام، وليس في رجال الحديث فقط، فقد تُرجم لكل فئات المجتمع وطبقاته تقريبا، فرأينا معاجم أو طبقات للأدباء والشعراء والنحاة والقضاة والأطباء …إلى آخره.
وقد كان لازدهار معاجم الرجال والطبقات دور في الاهتمام بالسيرة الذاتية من جانبين: الجانب الأول أن هذه الكتب تضمنت بعض السير الذاتية القصيرة أو الطويلة لكثير من العلماء والفلاسفة والأطباء وغيرهم التي وردت لهم تراجم غيرية في كتب التراجم هذه، كما نجد ذلك على سبيل المثال في معجم الأدباء لياقوت الحموي، ومعجم الأطباء لابن أبي أصيبعة.
أما الجانب الثاني فهو أن بعض مؤلفي كتب التراجم أنفسهم أوردوا في كتبهم سيراً ذاتية لهم للتعريف بأنفسهم وأحوالهم، كما هو الحال في ترجمة ابن حجر لنفسه في كتاب «الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة»، والسخاوي في كتابه « الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع» وغيرهما.
كما أن من المبادئ الإسلامية التي اتخذت دافعا أو مبررا قويا لكتابة السيرة الذاتية، مبدأ «التحدث بنعمة الله»، الذي ورد في الآية القرآنية الكريمة» وأما بنعمة ربك فحدث».
والحديث عن « النعمة» أو « النجاح» هنا لا يأتي -كما سبق لي أن بينت في مكان آخر- مركزا فقط على الجوانب المشرقة في حياة الفرد، بل يستلزم مواجهة الصعوبات والتجارب الحياتية القاسية بما فيها الإخفاق أحيانا، ولا يأتي النجاح إلا ثمرة لهذه التجارب الحياتية المتنوعة إيجابا وسلبا. فالنعمة غالبا ما تكون في مآلات الأحداث أكثر منها في الأحداث ذاتها. ويمكن الاستئناس هنا بما ذكره السيوطي في مقدمة سيرته الذاتية التي عنونها بهذا المبدأ ذاته «التحدث بنعمة الله»، يقول: «ما زالت العلماء قديما وحديثا يكتبون لأنفسهم تراجم، ولهم في ذلك مقاصد حميدة منها التحدث بنعمة الله …. وقد اقتديت بهم في ذلك». ومن الكتَّاب القدامى الذين استحضروا مبدأ التحدث بنعمة الله في سيرهم الذاتية على سبيل المثال: عبدالله بن بلقين وعمارة اليمني، وأبو شامة، وعبد الوهاب الشعراني وغيرهم، بل إن هذا المبدأ ما زال مستلهما حتى في العصر الحديث، فقد كتب الدكتور حسين نصار سيرة ذاتية عنوانها « التحدث بنعمة الله».
ومن المبادئ الإسلامية المهة الأخرى التي اتخذت مرتكزا لتبرير الحديث عن الذات وبالتالي كتابة السيرة الذاتبة مبدأ «محاسبة النفس» ومبدأ «معرفة النفس» اللذين احتفى بهما الزهاد والمتصوفة استنادا إلى الحديثين التاليين أو ما عدا كذلك؛ « حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا» و «من عرف نفسه عرف ربه». وتعد مقدمة المحاسبي السيرة ذاتية لكتابه « الوصايا» أساسا لبعض السير الذاتبة ذات الطابع الروحي في الأدب العربي القديم مثل سيرة أبي حامد الغزالي الذاتية «المنقذ من الضلال».
ولعلنا نكتفي بهذه الأمثلة لتبيان الأثر الإسلامي في ظهور السيرة الذاتية، وإلا فإن الموضوع أوسع مما طرحنا هنا في هذا المقال بكثير.