عبدالله العولقي
من الصعب أن نستوفي العنوان في مساحة مقال بيد أنني سأتناوله من خلال قصيدة قولي أحبك لنزار قباني وقصيدة ما وراء الخمسين لجاسم الصحيح، في هاتين القصيدتين نلمح نفس الشعراء الكبار من بوابة السهل الممتنع، فالقصيدتان من قصار القصائد للشاعرين الكبيرين، ألفاظ سهلة في متناول الكل لكن الإبداع العظيم يكمن في سبك تلك الألفاظ ضمن موسيقى الشعر وما تتضمنه من معانٍ عميقة تلقي أثرها الخطير في نفوس المتلقين، وهكذا هو الشعر الخالد دائما، فظاهر النص تبدو الكلمات والجمل التي نتناولها في حياتنا اليومية لكن الإبداع يكمن في قدرة الشاعر المبدع على رص تلك الألفاظ بأساليب شعرية بحيث تخضع للأوزان الشعرية أو الموسيقى الداخلية للنص بكل انسيابية، والأخطر من ذلك هو تلك المعاني الرائعة التي تأتي من وراء الألفاظ وتلقي أثرها العميق والخطير على ذات المتلقي.
في قصيدة قولي أحبك نجد تنازل الفحل الذكوري للأنوثة من أجل عبارة (قولي أحبك) يريد الشاعر أن يسمعها حتى يطمئن لحب معشوقته له، فإذا سمعت أذناه هذه الجملة فستتغير حياته نحو المستحيل، هذا المستحيل هو معيار الشاعرية الإبداعية التي تفرق بين الشاعر والإنسان العادي، خصوصا إذا وظفها الشاعر بطريقة فنية مبدعة مبتكرة، وأيضا هي تفرق في سلم الشاعرية حتى بين الشعراء أنفسهم، ولهذا نجد امرئ القيس عظيما في هذه الاستحالية أو الخارقية عندما يصف خيله بالمكر المفر المقبل المدبر في اللحظة الواحدة، وكذلك نجد المتنبي عظيما أيضا عندما يوظف الاستحالية الخارقة وهو يصف الأعمى عندما ينظر إلى أدبه ويسمع كلماته الخارقة من به صمم، أو عندما يعرفه الليل والخليل والبيداء وهكذا، بينما نجد نزار يوظفها في هذه القصيدة الغزلية بصورة شرطية خالصة (إذا) المضمرة المتعلقة بسماعه عبارة (أحبك)، أما الجواب الشرطي فيتضمن وقوع تلك الاستحالية عندما تتحول صورة وجهه العادي إلى صورة الشاب الوسيم وتصبح جبهته قنديلا مضاء وسينتهي العصر القديم على يديه وسيمحو فصولا في التقويم (الزمني) وسيضيف فصولا جديدة، وسيغزو الشموس مراكبا وخيولا وسيكون بين العاشقين رسولا وهكذا!.
وفي قصيدة ما وراء الخمسين نجد تنازلا مهذبا لا يهبط بقيمة الذكورة كثيرا كما فعل نزار، والاستحالة الخارقية هنا في القصيدة تخص عامل (الزمن)، عندما يصل العاشق إلى سن الخمسين، فيخترق جوهر الزمن ليعود من كهولته إلى شبابه حيث يتلاقى مع حبيبته وهما في ريعان شبابهما، حيث يتلاقى بهم الفتى والفتاة، والشاعر يؤكد هذه الخارقية بأن (زمن) الحب كله معجزات، فهو إذا استثنائي لا يخضع لنظام المعجزات لأن ذلك (زمن المعجزات) قد ولى وذهب، وعندما يعود إلى حبيبته يطلب منها أن تفتح له الباب نتيجة لطول انتظاره الزمني (أعواما مديدة) قد أعشبت عتبات البيت، كل هذه الخارقية وظفها الشاعر بصورة إبداعية رائعة.
نعود إلى قصيدة نزار، وكما قلنا إن خطاب الشاعر العاشق للأنثى يتضمن تنازلا لفحولة الذكر تجاه الأنثى، هذا التنازل يحتاج إلى أسلوب إقناعي للطرف الآخر، ولهذا استعمل نزار أسلوب الشرط المضمر، أما جواب الشرط فأتي على صورة أداة (كي) أو (لـ) التعليلية التي بمعنى كي، كي تزيد وسامتي، كي تصير أصابعي ذهبا، كي تصبح جبهتي قنديلا، لأكون بين العاشقين رسولا، وكذلك الصورة في قصيدة الأستاذ جاسم الصحيح، فهذا التنازل اللطيف في قصيدة ما وراء الخمسين (فتعالي لكي تجيئ الحياة)، احتاج أيضا إلى الأسلوب الإقناعي في خطابه مع الطرف الآخر، ولذا نجده استعمل أداة (لكي) التعليلية، حيث دمج بين اللام وكي لتعطي صورة إقناعية أكثر، فتعالي (لكي) تجيئ الحياة، فاشفعيني (لكي) تتم الصلاة، فاعشقيني (لكي) يقل الطغاة!!، كما استعمل أيضا (حتى) التعليلية بمعنى كي (حتى يتلاقى بنا الفتى والفتاة)!!
أما إذا نظرنا للقصيدتين من حيث الاستدعاءات، فنجد أن نزار يستدعي لقصيدته ثلاثة عوامل: القوة والثراء والزمن، وهذه العوامل تتكرر كثيرا في قصائد نزار قباني وهي من قاموسه اللفظي المعروف عنه، فنلمح استدعاء القوة في سياق الملك الحاكم (ملك أنا لو تصبحين حبيبتي)، كما تلوح مظاهر الحكم والقوة (أغزو الشموس مراكبا وخيولا)، (وأغير التاريخ)، (وأمحو الفصول) (وأقيم عاصمة النساء)، وغير ذلك، وأما عامل الثراء فهو من ضمن عناصر القوة أيضا، ولكنه أهمها وهو من أدوات الملك الحاكم فنلمحه في ألفاظ البريق اللامع (الذهب) و(القنديل)، أما الزمن فهو عامل مكمل لمظاهر القوة، وفي شعر نزار نجده مطلقا وليس مقيدا، وهذا طبيعي في الشعر الإبداعي بأن يأتي عامل الزمن بهذه الصورة غير المقيدة بالمكان حتى تعطي الصورة التخيلية البعيدة والجميلة عند المتلقي.
وفي قصيدة أخرى لنزار عنوانها مدرسة الحب نجد العوامل الثلاثة تتكرر أيضا، فعامل القوة والحكم في قوله (دخلت قصور ملوك الجان، وحلمت بأن تتزوجني بنت السلطان)، وقوله (وحلمت بأني أخطفها مثل الفرسان)، إلى غير ذلك، وعامل الثراء والمال نجده في (وحلمت بأني أهديها أطواق اللؤلؤ والمرجان)، وهنا نجد ارتباط العاشق عند نزار بالنخبوية المتسلطة حتى وإن أبدت مظاهر الضعف وإذلال الحب، أما عامل الزمن فيتكثف في هذه القصيدة بصور متعددة كما في قوله: كيف يمر العمر ولا تأتي بنت السلطان؟، وأنا محتاج منذ عصور، يا امرأة قلبت تاريخي، كيف الحب يغير خارطة الأزمان؟، وهكذا.
أما الاستدعاءات الجميلة في قصيدة ما وراء الخمسين، فنجدها تشكيلة رائعة من الاستدعاءات لتأكيد معاني الحب والعشق فتحاصر ذهن المتلقي بالإبداع، فهناك استدعاء ديني وهذا نجده كثيرا في قصائد الشاعر الكبير جاسم الصحيح، كقوله:
ها أنا مفرد كركعة وتر فاشفعيني لكي تتم الصلاة
وكقوله في قصيدة أخرى عنوانها (أميل نحوك):
كل النساء أحاديث بلا سند وأنت، أنت حديث لابن عباس
وفي قصيدة في كل عضو منك روح تقى تمتلئ هذه الاستدعاءات الدينية بصورة مكثفة جدا.
وهناك استدعاء قد نعتبره سياسيا في قوله:
كلما زاد عاشق قل طاغ فاعشقيني لكي يقل الطغاة
وهناك استدعاء للأمومة:
شهقة الحب طلقة في مخاض والمحبون كلهم أمهات
وهناك استدعاء لعامل الزمن بصورة مكثفة أيضا، وهذا قد ذكرناه من قبل، كقوله (زمن الحب كله معجزات) وقوله (ما وراء الخمسين إلا رفات) وقوله (فهوت من قميصه الأعوام) وقوله (عائد من كهولتي) وقوله (أعشبت به العتبات).