أ.د. محمد خير محمود البقاعي
عندما غادرت مسار الدراسة والتحصيل بعد تزاحم الأفكار عن شؤون التاريخ وشجونه كنت في صدد الحديث عن الاستعداد لمناقشة رسالة الدكتوراه في جامعة لويس لوميير- ليون الثانية، وكنت إبان هذا الاستعداد قد انتقلت للعمل في مدينة غرونوبل في جامعة ستاندال في شعبة اللغة العربية التي كان يشرف عليها البروفسور بنوا ذيلاند Benoit Deslandes الذي أحسن إليّ في استقباله الراقي وتسهيل كل أموري، والحرص على انخراطي في بيئة العمل الجديدة مما جعلها أكثر أنسا، وسهل كل الأمور الإدارية التي سرعان ما انتظمت بعد الاستقرار في المنزل الذي أتيت على ذكر خبر استقراري فيه. كانت المنطقة مكانا للتزلج على الجليد عندما يتقدم فصل الشتاء والمواصلات بينها وبين غرونوبل ميسرة على الدوام وفي كل الظروف، ولم تعترضني في الذهاب والإياب أي مشكلة أو تأخير، كانت مشكلة التدفئة تشغلني لأن (الشوفاج) في البيت كهربائي ويستهلك كثيرا من الكهرباء لتدفئة مقبولة في جو بارد، ولو اخترت منزلا آخر في المدينة لأصبحت مضطرا لدفع الأجرة والتدفئة فرضيت بما اختاره لي الله.
كنت أخرج في الصباح وأقضي سحابة يومي في الجامعة، وقد عرفت عددا من الأساتذة والموظفين والموظفات من أقسام وإدارات مختلفة.
صدر في هذه الأثناء قرار تشكيل لجنة مناقشتي وكانت مكونة فضلا عن أستاذي البروفسور أندريه رومان، البروفسور أنور لوقا، والبروفسور كلود أوديبير من جامعة إكس-أن- بروفانس. وكنت قد أودعت النسخ بعد طباعتها في غرونوبل لدى صديقي فيليب ليوصلها إلى أماكن إيداع النسخ في مكتبة قسم علوم اللغة، وكلية العلوم الإنسانية، والمكتبة المركزية ففعل وبقي أن يتفق الأساتذة على موعد لأحضر إلى ليون. كنت أمر في المدة من الشهر التاسع عام 1991م وأوائل عام 1992م بأوقات حرجة فكريا وحياتيا؛ فقد كانت مناقشة الرسالة خلال سريان عقدي مع جامعة ستاندال يؤهلني لتجديد العقد بأربعة أعوام متتالية، وكان الراتب مجزيا لمن يحصل على ذلك، وكنت على وشك تحقيق المدة المطلوبة للحصول على وضع يؤهلني للحصول على الجنسية الفرنسية بعد مرور عشر سنوات على إقامة نظامية. كان كل شيء ممهدا ولم يكن أحد من المحيطين بي يتوقع مغادرة ما أنا فيه. مر عام 1991 في عمل كان يحظى بتقدير المشرف على البرنامج وإقبال الطلاب من كل المستويات على اختيار دراسة العربية.
تلقيت قبل نهاية العام اتصالاً من أستاذي يخبرني بتحديد موعد المناقشة بعد إجازة رأس العام في الشهر الأول من عام 1992م. بعد موافقة الأساتذة. تابعت وأنا أعيد النظر في رسالتي وأدون ملاحظاتي لإعداد ورقة الدفاع. وما زلت أذكر عبارات بقيت ترن في أذني اعتذرت فيها عن التقصير إن كان ثمة تقصير وقدمت للجنة والحاضرين مختصرا وصفه أستاذي بأنه جاء بالجوهري، وهو ما نحتاجه في مثل هذا المقام. كانت المناقشة كما وصفها الحاضرون من أساتذة وطلاب نموذجا للملاحظات المفيدة والردود السديدة واستمرت ثلاث ساعات من الحوار المثري كما صرح بذلك كثير من الحضور.
كان الموضوع يجمع بين جانب تراثي يتمثل في قضية السرقات في التراث النقدي العربي القديم ونظرية التناصية في النقد الحديث متخذا من كتاب «الموازنة بين الطائيين» لأبي القاسم الحسن بن بشر الآمدي، ت. 371 ه منطلقا، مستخدما في الدراسة المنجز النقدي لجوليا كريستيفا ورولان بارت وجيرار جينيت في حديثهم عن النص وعلم النص والتناصية كما قرأت كتاب «سارقو الكلمات» لميشيل شنايدر، غاليمار، 1985م. Voleurs de mots de Michel Schneider. GALLIMARD 1985.
وهو دراسة جامعة عن السرقات في الآداب الغربية، أما الأساس النظري فقد بنيته على النظرية اللغوية لأستاذي الدكتور أندريه رومان الذي انفرد بمقولة أن اللسانيات الغربية أقامت أسسها على دراسات في اللغات الأوربية وجذورها السنسكريتية واللاتينية واليونانية وإن أي دراسة عربية ينبغي أن تأخذ في الحسبان التراث اللغوي والأدبي العربي في صياغة تتوافق مع بنيتها الفكرية وتفردها اللغوي. وقد بنى رؤيته على نظامين سمى الأول نظام التسمية Système de nominination وهو البناء اللغوي الصوتي والصرفي والتركيبي للغة، وهذا مستوى تتوقف عنده الدراسات اللسانية. أما النظام الثاني فسماه نظام الاتصال Système de communication وهو الجانب الأصعب في العربية لأنه يخضع لعلوم متنوعة؛ البلاغة ببيانها وبديعها وعلم المعاني والأسلوب وما يخرج عن ذلك كله مما أسّس له نزول القرآن الكريم ونظمه، وهذا ما رفع من القيمة البلاغية لشعر ما قبل الإسلام وولدت ظاهرة عجيبة لم تول حقها حتى اليوم وهي أن نزول القرآن الكريم بمعجزته النظمية وقدرتها على أداء التعاليم الإلهية بأسلوب عهد بعضه فصحاء العرب، ولكنه بدا لإعجازه منفردا بلا مثيل سابق في معناه ومبناه.
كانت فكرتي أن قضية السرقات التي أفضت في الغرب إلى التناصية بمفاهيمها لدى كريستيفا وبارت وجينيت، وبقيت منذ ولادة المصطلح وتفرعاتها عصية على التصنيف.
كان الأمر في العربية أكثر وضوحا، فالسرقات تدخل في نظام الاتصال بفروعه وتشعباته التي تأخذ في الحسبان البناء اللغوي في نظام التسمية ويدخل أي خروج عن هذا في المجال الرحب بنظام التواصل.
ولعل اعتمادي على كتاب الموازنة فوت علي ما اكتشفته لاحقا بإشارة من الأستاذة أوديبر أن التطور الكبير مضمونا ومصطلحا لقضية السرقات وهو يقترب من تفصيل جيرار جينيت Gérard Genette وتفريعاته في كتابه
«Palimpsestes La Littérature au second degré», Editions du Seuil 1982».
طروس، الأدب في الدرجة الثانية، مطبوعات دار سوي 1982م.
وكانت تشير إلى تقسيمات أبي محمد الحسن بن علي بن وكيع التنيسي (ت. 393هـ/1003م) في كتابه: «المُنْصِف للسارق والمسروق منه: في إظهار سرقات أبي الطيب المتنبي» كانت المناقشة حامية الوطيس وفيها كثير من الأخذ والرد، وكان أستاذي على قناعته الكاملة بما أقول وبدا ذلك في مداخلته الأولى ثم في دفاعه عما بنيت عليه من آرائه وحسن تمثلي لها وكانت مناقشة البروفسور أنور لوقا متوازنة أبدى فيها براعته في تحليل الخطاب العربي وأبدى ملاحظات مهمة لقيت قبول أستاذي وطلب إجراءها. استمرّت المناقشة ثلاث ساعات كان النصيب الأوفر منها لحواري مع الأستاذة الدكتورة كلود أودبير
انتهت المناقشة وحصلت على الشهادة بدرجة الشرف، وكنت في غاية السعادة في ظل الظروف الصحية وضرورات العمل والتنقل من مكان إلى آخر.
حمدت الله على ما آلت إليه الأمور، وكان علي العودة إلى غرونوبل للالتحاق ولكني أردت أن أرد بعض الجميل لأستاذي للمساعدات التي حظيت بها طوال سنوات فقلت إنني أدعوه في اليوم التالي مع البروفسور لوقا لتناول طعام الغذاء في اليوم الذي تلا المناقشة وأسفت لمغادرة الدكتورة في مساء يوم المناقشة إلى مدينتها إكس لارتباطها بعمل ضروري في اليوم التالي. استجاب الأستاذان لدعوتي ورافقني صديقي فيليب وتناولنا طعام الغداء في مطعم سوري كان في غاية النظافة والأناقة ولذة الطعام. لقد كنت في غاية السعادة لإنجاز المهمة العلمية والاجتماعية وأوصاني أستاذي بمتابعة العمل العلمي والمهني بما رآه مني خلال سنوات التحصيل. ودعتهما وأوصلني فيليب إلى محطة القطار وعدت إلى غرونوبل، وكان بانتظاري في اليوم الثاني في مقر العمل جماعة من الأساتذة والموظفين ممن علموا بالأمر مباركين الخطوة المظفرة في طريق الحصول على عمل دائم وإقامة مريحة، شكرت لهم مبادرتهم وعدت إلى عملي بانتظار ما تحمله الأيام القادمة من أحداث. كان علي في خضم ذلك كله أن أجدد جواز سفري الذي قارب على الانتهاء لتجديد إقامتي التي ينبغي أن تجدد قبل انتهاء الجواز للحصول على إذن العمل الذي يحتاج تجديده إلى وقت في ظل المعطيات الجديدة بدأ لي كل ذلك مرهقا في المتابعة والانتظار.
وقارب الشهر الأول من عام 1992م على الانتهاء، وبدأت بإجراء الاختبارات الفصلية للطلاب عندما وردتني رسالة من الوالد -رحمه الله- يقول فيها: إنهم طلبوا منه دفع مبلغ الكفالة التي تعهد بدفعها إن لم ألتحق بعملي بعد انتهاء مدة الإيفاد، وقد انتهت منذ سنتين بعد كل تمديد ولم أعد، وقال: إنه لا يملك المبلغ المطلوب لذلك قد يلجؤون إلى مصادرة الأرض التي تعيش الأسرة الكبيرة من مواردها وتعمل فيها. شغل الأمر بالي وأقلقني فحدثت البروفسور ديلانذ بالأمر فنصح لي العودة وترتيب الأمور في إجازة نهاية الفصل الدراسي التي تبدأ في أواخر الشهر الأول وقال: إنه مستعد لتغطية بعض التأخير في العودة إن لزم الأمر. شكرت له مبادرته الخيرة وبدأت أستعد في بداية الشهر الثاني بعد انتهاء الاختبارات واقترح أن أحمل أوراق الاختبار معي وأعود بها مصححة. مر الوقت سريعا وحلت الإجازة وكانت الشهادة قد صدرت فحصلت عليها وصدقتها من عمدة ليون واشتريت بعض الهدايا للأهل وشددت الرحال إلى باريس لتصديق الأوراق من السفارة السورية، ولما تم الأمر بحثت عن تذكرة على الخطوط السورية وكان برفقتي زميل تخرج معي في جامعة ليون هو الأستاذ الدكتور محمد إسماعيل بصل من اللاذقية وقد قضينا بعض الأيام في باريس في منزل أسرة صديق فرنسي مسلم كان يقيم في ليون وذلك بانتظار إنهاء المعاملات الإدارية وموعد الطائرة.
كنا نتجول في باريس ومررنا بجانب باعة الكتب القديمة على نهر السن واسترعى انتباهي كتاب عنوانه بالفرنسية
La lune, mythes et rites, 1962, éditeur : Le Seuil, collection «Sources Orientales» N 5,, in-8 de, 373 pages,
وترجمته: القمر، أساطير وطقوس، كوكبة من المؤلفين، 1962م منشورات دار لو سوي، سلسلة مصادر شرقية، رقم 5، 373ص. اشتريت الكتاب وبدأت بقراءته في الليلة نفسها فشدني أسلوبه واستقصاؤه موضوع بحثه ولا عجب إن علمنا أن المؤلفين من أصحاب الاختصاص بالآداب الشرقية وتاريخها، فالفصل المعنون: «القمر عند العرب وفي الإسلام» كتبه المستشرق الفرنسي الكبير مكسيم رودونسون Maxime Rodinson (1915-2004) م.
وحشد فيه من المعلومات ما تعجب منه أن يجتمع لمؤلف في الستينيات الميلادية من القرن الماضي ناهيك عن براعة التحليل والاستنتاج والخلوص إلى نتائج تظهر منها القدرة المنهجية في الفهم والإفهام، ولما انتهيت من قراءة الفصل الذي كتبه رودنسون عزمت على ترجمة الكتاب على الرغم من أنه كان قد مضى على ظهور نشرته الأولى ثلاثون سنة.
ولم تتح لي فرصة التفرغ لترجمته إلا عندما التحقت بجامعة الملك سعود وقد استغرقت ترجمته والتعليق عليه حتى صدر في عام 1427هـ/2007م.
أي أنه بقي بين يدي 15 سنة هي مدة القراءة والترجمة التي لم أبدأ بها إلا بعد قراءة متأنية أعدت كثيرا من فصوله إلى مصادرها الأصلية واستعنت بمن حوالي وعلى وجه الخصوص بعد قدومي إلى المملكة في عام 1996م. أي أن صدوره كان بعد 11 سنة من وصولي إلى المملكة؛ لم تكن كلها مخصصة له وإنما انصرفت بعض الأحايين عنه لموجبات الحياة والعمل.
ولما أنهيت الترجمة والتعليق والتقديم على وجه أرضاني كان البحث عن ناشر أرتضيه عناية وحفظا للحقوق فكان أن حدثت الشيخ الحبيب اللمسي- رحمه الله- صاحب دار الغرب الإسلامي، وقد عهدت فيه الموضوعية وحفظ الحقوق فلما سمع قصة ترجمة الكتاب وما استغرقه ذلك من جهد ووقت واستشارات بادرني بالقول لن ينشر في غير دار الغرب الإسلامي، ولك أن تختار الغلاف وترسل لي ما تريد في الجانب المادي والنسخ المخصصة للمترجم. ولنا لقاء.