إن المنهج اللغوي جاء لضرورة ملحة اقتضتها ظروف البلاد العربية، التي تغيرت باتساع الرقعة الجغرافية، وسرعة انتشار الإسلام، واختلاط العرب بغيرهم من الأمم نتيجة الفتوحات الإسلامية، وامتداد سيل العجمي، ففشا اللحن بدءاً بالناشئة والعامة، وانتهاء بالفصحاء، بل إلى القرآن الكريم، فضعفت اللغة العربية.
ولعل أول من اهتم بالنهج اللغوي عبدالله بن إسحاق الحضرمي، الذي يعد من أوائل نحاة البصرة والواضعين الحقيقيين لعلم النحو، وتبعه من علماء اللغة أمثال: يونس بن حبيب، وخلف الأحمر، وأبو الخطاب الأخفش، وعنبسة بن معدان الفيل، والأصمعي وغيرهم، فشكَّلوا صرحاً علمياً في بنيان التراث اللغوي.
وهكذا بدأت مسيرة ونشأة المنهج اللغوي، وكانت بذوره الأولى اشترك فيها النحويون واللغويون، ثم تعهدوها بالرعاية والمتابعة لتنتج لنا كما هائلا، وتراكما علميا ومعرفيا منحصرة في اتجاهين: الأول هو اتجاه النقل والاتجاه الثاني هو اتجاه النقد.
وبالتالي شكَّلا – النقل والنقد – حركة متصلة في البحث اللغوي، وأصبحا منهجا معتمدا عليه في التفكير اللغوي قائماً على بلورة مفهوم الفصيح والصحيح وفق المستويات اللغوية والنحوية والدلالية والمعجمية والصوتية، ملتزما في نقده بالأصول والقواعد التي وضعوها، فلا يسمحون لغيرهم بتجاوزها، وإذا تعداها الكاتب أو الشاعر خطَّأوه وثاروا عليه مهما كان قدره من الفصاحة.
فألف كثير من العلماء القدامى في علوم اللغة، واتسمت مؤلفاتهم بالدقة والاستيعاب لخصائص اللغة العربية، وقد كانت هذه المؤلفات المعين الذي نهل منه المحدثون في مؤلفاتهم المختلفة في ضوء التطور الذي حدث في عصرنا هذا. ثم خرج بعد ذلك تياران مختلفان: التيار المحافظ الذي يرى في القديم الكمالَ والمتانة، ويعتبر أنَّ ما استجدَّ واستُحدث هو انسلاخٌ من الثقافة الإسلاميَّة، وسعي مع دعاة الحداثة المغرضة، وتأثُّر بمناهجَ غربيَّة قائمة على الشكِّ في الأصول، أمَّا التيار المجدِّد، فيرى في نفسه السبيل الوحيد والأوحد لنهضةٍ فكريَّة، معتبِرًا أنَّ القديم تشوبه شوائبُ، وتحوم حوله عديدٌ من الشُّبَه التي يلزم تقويم اعوجاجها، وأنَّ السياق الثقافيَّ الحاليَّ تجاوز الصرامة الأدبيَّة والفكريَّة.
والأمر الذي جعلني أكشف النقاب عن هذه القضية، هو سؤال أستاذي الأستاذ الدكتور عبدالعزيز بن عبدالرحمن الخثلان - أمد الله في عمره - اذكر علوم اللغة العربية في العصر الحديث من وجهة نظرك مع الحديث الموجز عن كل علم، ودليل تصنيفك له كعلم.
لأقول: إنَّ لكلِّ مرحلة خصوصياتِها وثوابتَها؛ فالقديم يشكِّل جزءًا منا، لا يمكن لأحد الانسلاخ منه، أما الحديث فقد انبثق لضروراتٍ أَمْلَتْها ظروف وسياقات محدَّدة، ترتبط بالتطوُّر الذي وسم عالمنا مع بروز الانفجار المعرفيِّ والثقافيِّ، وتغير معالم الحضارة العربيَّة، وعليه فالموازنة بينهما لا تنفع في شيء، بقدر ما تؤدِّي إلى خَلْق الصراعات، والدخول في مشاحنات كلاميَّة، نحن في غنى عنها.
فهل الانتصار لفريقٍ ما والطعن في الآخَر، سيؤدِّي إلى حصول نهضةٍ فكريَّة يشرئبُّ لها المثقف العربيُّ؟
الجواب سيكون حتمًا بلا؛ لأنَّ الأصلَ هو استيعاب القديم جيدًا، بغية تمثُّل الجديد، وأَخْذ ما يوافق ويخدم الفكر الإسلاميَّ والثقافة العربيَّة، ورفض ما يحط منهما ويسعى للنيل منهما، ما دمنا في وضعيَّة تحتاج إلى مَن يُعيد لهذه الأُمَّة قيمتَها وشموخها الذي غاب عنها منذ أزمنة غابرة.
** **
- محمد الخنين
aooa14301@