سراب الصبيح
سبحان الذي أودع في الشعر العربي ما ليس في غيره من فنون البشرية جمعاء!
الشعر العربي آسر وزنا وقافية ومعنى، وفي هذا المقال أقف وقفة جمال على قصيدة الشاعر حبيب المعاتيق، المليئة بالتساؤلات التي تحلق إجاباتها إلى حيث لا يستطيع إنسان اللحاق بها. أما وقد خُلق الإنسان بلا أجنحة فإن الشعر أجنحته! أقول وقفة جمال؛ لأنها جميلة وزنا وقافية وسؤالا.
يكاد كل مقطع في هذه القصيدة يتشكل من سؤال شاعري، ففي مستهلها يقول: «أخاف
من فرط ما تمتد أن أدعكْ
من أين أصلح هذا القلب
كي يسعكْ»
إن الجمال في هذه القصيدة لا يقف على عتبة السؤال فحسب، بل في المقدمة التي استدعت هذا السؤال، فنحن مع قصيدة المعاتيق هذه إزاء مشهد سؤالي لا نستوفي فهم السؤال إلا باستحضار صورة المشهد كاملة؛ فسؤاله عن إصلاح سعة القلب إنما كان نتيجة لمقدمة وهي تمدد هذا المُخَاطب الذي تجاوز حدود القلب، فاضطر الشاعر إلى هذا السؤال المجازي عن حيثية إصلاح توسعة في قلبه؛ ولأن الشاعر يدرك أن القلب مادة محسوسة لا يمكن إصلاحها بحال، وإنما السؤال عن إصلاح معنوي بما يحمله القلب من شعور، فقد بنى سؤاله بأداة الاستفهام «من أين» وليس «كيف» لأن «كيف» تحيل إلى المادي و «من أين» تحيل إلى المعنوي.
يستأنف الشاعر أسئلة المشهد قائلا:
«ما ضر
لو كنتَ قصدتَ الجمال هنا
حتى أرتب في تركيبتي قطعكْ
حتى تؤثثني الأشواق
من عدم؛
أخلي مساحة هذا العمر كي أضعكْ»
إن ما يميز هذه القصيدة في نظري اتجاهان: سؤال المشهد في كل مقطوعة على حدى، وسؤال المشهد في القصيدة كاملة. فلو ابتغى أحد أن يفصل مقطعا من القصيدة لصح له ذلك واكتمل السؤال باكتمال مشهد ذلك المقطع، ولو أراد الآخر أن يأخذ القصيدة كاملة وينطلق من سؤال مشهدها مجموعة بعضها على بعض لصح له ذلك أيضا.
فمثلا يمكن استجواب سؤال المقطع الأول وحده في كيفية إصلاح سعة القلب، ويمكن استجواب سؤال المقطع الثاني وحده في إمكانية إخلاء مساحة العمر للسعة، ويمكن جمع المشهدين معا في السؤال المشهدي كاملا عن إمكانية السعة قلبا وعمرا.
ويستأنف الشاعر فيقول في بقية القصيدة:
«ساءلت خدك
-فيما ارتاب من ولهي-
هل بدل الطين بالتفاح من صنعكْ؟
من أين جئت؟
ومن أي الطيوب معا -يا ابن الشذا-
ذلك العطار قد جمعكْ؟
هل كنت جئت -جزافا- كوكبا خطأ؟
من غير أن يقصد
الرحم الذي وضعكْ»
وهنا لا أقول إن المشهد انفصل من المقطعين الأولين في دوافع سؤالات السعة ليجد الشاعر مساحة للحب المعنوي، ثم انتقل إلى سؤلات جمال المحبوبة -وهو كما معلوم حسي لا معنوي-؛ بل المشهد لمّا يزل متصلا فهذا الجمال الذي وصفه الشاعر وساءله فيما ساءله إنما هو من أحد دوافع الحب الذي استهل به قصيدته في المقطعين السابقين، ويبين ذلك المقطع اللاحق الذي يجمع المشاهد، فيقول في آخره:
«هل ثم من قال إني محض معصية؛
حتى تمارس عني في الهوى ورعكْ»
هكذا تكون هذه القصيدة أسئلة مشاهد وسؤال مشهد في آن، يجمع بها الشاعر السؤلات ويفرقها، على وزن وُفِق في اختياره؛ لما يحمله المعنى الوزني ومعنى القصيدة، فالتسكين نهاية كل سؤال إنما هو في معنى الوزن سكوت عن الجواب أيضا!