محسن علي السهيمي
أصدر الدكتور محمد آل ملحم - منذ أشهر معدودة - كتابًا من جزأين وسماه (حياة في الادارة.. تأريخ ما أهمله التاريخ)، وكان موضوعُ كتابِهِ كتابَ الدكتور غازي القصيبي رحمه الله (حياة في الإدارة)، وقد قُوبل كتاب آل ملحم بردود فعل عاصفة؛ كونه تعرض لشخصية ثقافية وإدارية بارزة.
لا يختلف اثنان على ريادة القصيبي في المجال الإداري والثقافي وعلى كفاءته وإنجازاته الماثلة المشهود لها حتى من قِبَل خصومه، لكن الأمر الذي أظنه يشكِّل حالة ثقافية غير صحيَّة هو عدمُ القبول بوجهات النظر المخالفة، والانتقاد المضاد لأي نقد يوجه لأي نتاج أدبي أو ثقافي أو فكري، خاصة إذا كان صاحب النتاج شخصية بارزة، وهو الأمر الذي لا يتوافق مع ما يدعيه المثقف من حرصه على قبول الرأي الآخر وتقبل النقد، وتشديده على ضرورة قراءة العمل قبل توجيه النقد له ولصاحبه. وفي نقطة (قراءة العمل) هذه بالذات أكاد أجزم أن الكثير من منتقدي كتاب آل ملحم - عبر المنصات المختلفة - لم يقرؤوا الكتاب، ولكنَّ أحكامهم أتت – كالعادة - مستعجلة لتُصدر بحقه الأحكام وربما بحق صاحبه أيضًا.
في البدء أقول: إن الموضوعية تتطلب قراءة كتاب القصيبي وكتاب آل ملحم ثم إصدار الأحكام عليهما - لم أقرأ كتاب آل ملحم حتى الآن - فإن كان ما في كتاب آل ملحم من نقدٍ موجهٌ (لشخص القصيبي) فهذا ليس بنقد ولا يصح منه ذلك ولا يُقبَل بل هو تقصُّدٌ وتشويه متعمد، وإن كان ما فيه من نقدٍ موجهٌ - بالأدلة والشواهد الصحيحة - لما دوَّنه القصيبي فما الضير في ذلك؟ ثم إن القصيبي كتب ما كتب وأجزم أنه لا يدَّعي لكتابه العصمة، ولو أنه اليوم حيٌّ لربما سره أن يَقرأ نقدًا لكتابه، وربما أن آل ملحم مصيب في بعض ما ذهب إليه؛ خصوصًا وقد ذكر في ملخص الغلاف الأخير لكتابه - كما في الصورة الموجودة في النت - أنه قال عن كتاب القصيبي - والقصيبي حيٌّ - بأنه «غير موثَّق» ورد القصيبي بالقول «ما قاله الملحم عن كتابي صحيح»، وهذا لا يُصادر كتاب القصيبي وقيمته وأهمية ما جاء فيه، ولكن ينبغي أن نؤمن بمقولة مَن ألَّفَ فقد استُهدف، ومع هذا فإن الأمر الذي أوافق فيه منتقدِي كتاب آل ملحم هو السؤال الوجيه الذي طرحه الكثير منهم ومفاده: لماذا لم يُظهر آل ملحم كتابَه للوجود والدكتور القصيبي ما يزال على قيد الحياة خصوصًا وهو من معاصريه زمانًا ومكانًا؟ فهل لدى آل ملحم من إجابة وجيهة؟ ثم إنني أرجو أن ينبري لكتاب آل ملحم مَن يقرأ مضامينه قراءة موضوعية ثم يتولى الرد عليه خصوصًا وآل ملحم ما يزال حيًّا يُرزق.
نحن حينما لا نتقبل النقد في المنتَج بفتح التاء - ولا أقول المنتِج بكسر التاء - فإننا ندَّعي لصاحب المنتَج العصمة من الخطأ والزلل، وهذا يذكرني بما أبداه - ذات يوم - الدكتور عبدالله بن سُليم الرشيد من رأي حول رواية الطيب صالح (موسم الهجرة إلى الشمال) فانبرت له أقلام بسيل من الاتهامات التي لم تتوقف على رأيه في الرواية بل تجاوزت ذلك، وما ذاك إلا لأنه أبدى رأيه في عمل إبداعي يراه الممانعون اكتسب صفة (الكمال) وبالتالي (هالة القداسة)، وقد كتبتُ - حينَها - عن تلك الزوبعة مقالاً في صحيفة (المدينة) بعنوان «أفكار المثقفين ملغومة!».
هنا أجدني أتمسك برأيي الذي قلته سابقًا عن بعض السِّيَر الذاتية ودونتُه في مقالي المنشور هنا في (المجلة الثقافية) المعنون بـ(السير الذاتية.. مزيدًا من الإحباط) من أن القارئ لهذه السّيَر لا يجد فيها لصاحب السيرة إلا إنجازات وبطولات وفتوحات لا يستطيعها إلا أولو العزم من البشر الذين يملكون قدرات خارقة، ولعل كتاب آل ملحم يفتح الطريق للآخرين لنرى المزيد من القراءات الناقدة (الموضوعية) للكم الوافر من السير الذاتية التي تكاثرت في الفترة الأخيرة وأصبح القارئ لها يقع في حيرة من أمره وتنقلب إليه قدراته حسيرةً أمام القدرات الخارقة لصاحب السيرة، وقد قرأتُ - قريبًا - إحدى هذه السير (المتورمة) فوجدت صاحبها لا يحط في مكان إلا وتُفتَح له المغاليق وتتسهل على يديه الصعوبات وتقوم الإنجازات.
اللافت للنظر في مسألة النقد أننا سمعنا وقرأنا الكثير من الدعوات لنقد التراث (الدِّيني واللُّغوي)؛ لبيان صحيحه من سقيمه، وقيل لنا إن هذا النقد يشكل حالة صحية حينما يتعرض لما دوَّنه الأقدمون؛ كونهم غير معصومين من الخطأ، وهذا لا شك أمر صحيح وجيد ومطلوب وفق الاشتراطات الموضوعية الصحيحة للنقد والتمحيص، فلماذا يضيق الداعون للنقد اليوم ذرعًا بالدعوات التي تسير في هذا السياق؟ وهل يمكن - وفق هذا المنزع - أن نصحو يومًا ما فنجد أن النقد أصبح من المحظورات؟
أخيرًا.. وحتى لا يأتي (مُدَرْعِمٌ) ويقول مَن أنت حتى تتكلم عن القصيبي؟ أقول له إنني لم أتكلم عن شخص القصيبي - رحمه الله - ولا عن (عمله وإنجازاته وكفاءته وشاعريته..) التي لا ينكرها إلا جاحد؛ وإنما أتكلم عن حق مشروع متمثل في مشروعية النقد - شرط أن يكون موضوعيًّا - لكل نتاج أدبي أو ثقافي أو فكري، ومن ذلك كتابا القصيبي آل ملحم.