د. فهد بن عبدالله الخلف
ترد الأداة (مَنْ) في لغة العرب بأربعة استعمالات بحسب تصنيف النحويّين العرب، وهي: من الموصولة، ومن الشرطيّة الجازمة، ومن الاستفهاميّة، ومن النكرة الموصوفة (ينظر شرّاب، 1990م، ص588-ص590)، والذي يهمّنا هنا الموصولة، والشرطيّة.
فقد خلط بينهما محمّد الطاهر ابن عاشور(ت1393هـ) في مصنّفه المهمّ (موجز البلاغة) إذ قال عند حديثه عن عوارض أحوال المسند إليه، وبخاصّةٍ تعريفُ المسند إليه بالاسم الموصول ما نصّه: «وكاختيار الموصول على المعرّف بــ(أل) في قول زهير:
ومن لم (1) يَذُدْ عن حوضه بسلاحه .. يُهدَّمْ ومن لا يظلمِ الناسَ يُظْلَمِ
فإنّه لم يقل: المستسلم مهضوم مثلًا، بل أتى بالموصول؛ ليشيرَ بالصلة إلى علّة الحكم» (ابن عاشور، ت 1393هـ، ص14)
الملحوظ هنا أنّ استشهاد ابن عاشور ببيت زهير في غير موضعه، فهو يتحدّث عن تعريف المسند إليه بالاسم الموصول (مَنْ)، وليس في بيت زهير اسم موصول، بل هنا (من) اسم شرط جازم، فالمسند إليه هنا اسم مبهم، وليس معرفة؛ لذا يسقط الاستدلال بهذا البيت، ولا يصلح شاهدًا على تعريف المسند إليه بالاسم الموصول.
وقد شرح هذه العبارة البلاغيّة الشيخ عبد الله الفوزان بقوله: «هذا مثال لما أمكن تعريفه بطريقتين. فالاسم الموصول (مَنْ) هو المسند إليه؛ لأنّه مبتدأ، والخبر قوله: يُهدَّمْ» (الفوزان، 2024م، ص175)، ولم ينتبه الشيخ -حفظه الله- إلى عدم صلاحيّة الشاهد الذي ساقه ابن عاشور رغم كثرة استدراكاته على ابن عاشور في شرحه (2) للمتن البلاغيّ الموسوم بـ (موجز البلاغة).
والقول إنّ (مَنْ) في هذا البيت اسم موصول يلزم عليه لوازم نحويّة لعلّ من أهمّها:
اللازم الأوّل: لو كانت من موصولة لوجوب رفع الأفعال المضارعة (يهدّم، ويَظلم، ويُظلَم)، وهي في البيت مجزومة؛ لأنّ (يهدّم) جواب شرط، و(يَظلِم) فعل شرط، و(يُظلَم) جواب شرط.
اللازم الثاني: لو كانت من اسمًا موصولًا لأصبحت الجملتان الفعليتان (لم يذد، ولا يظلم) لا محلَّ لهما من الإعراب؛ لأنّهما حينئذٍ صلتان للموصولين الاسميّين (مَنْ).
اللازم الثالث: جعل المسند إليه (المبتدأ) معرفة مع أنّه اسم شرط مبهم.
اللازم الرابع: من الموصولة تقتضي جملة (صلة الموصول) بعدها سواءٌ أكانت اسميّة أم فعليّة أو شبه جملة، ومن الشرطيّة تقتضي جملتين: جملة الشرط، وجملة الجواب أو الجزاء.
ولمزيد من التأكّد، والاحتياط عدت إلى إعراب البيت فوجدت ما يأتي: «من: اسم شرط جازم مبنيّ على السكون في محلّ رفع مبتدأ» (الدرّة، 1989م، جـ2، ص345)، فمن في البيت اسم شرط جازم، وليست من اسمًا موصولًا مشتركًا.
وفي الختام رغبتُ في التنبيه على أنّ هذا الشاهد لم يكن في موضعه الصحيح من الاستشهاد، فمن مسند إليه في محلّ رفع مبتدأ في بيت زهير، لكنّه ليس معرفةً، وليس اسمًا موصولًا، بل هو اسمُ شرطٍ مبهمٌ. ولعلّ الذي أوقع ابن عاشور في هذا الوهم هو أنّه استشهد ببعض الأمثلة التي لم يستشهد بها البلاغيّون، فهي خاصّة به لم يمحّصها غيره من دارسي البلاغة كما أشار إلى ذلك الشيخ عبد الله الفوزان في قوله: «لم يقتصر [أي: ابن عاشور] على أمثلة البلاغيّين من الشعر بل ساق أمثلة أخرى لا وجود لها في كتب البلاغة -حسب اطّلاعي-» (الفوزان، 2024م، ص21)، وبالعودة إلى بعض كتب البلاغة المتداولة لم أجد أنّ هذا الشاهد يستشهد به بعض البلاغيّين فليس موجودًا في كتاب التلخيص في علوم البلاغة (القزوينيّ، ت739هـ، 2009م، ص16، ص17)، وليس موجودًا في كتاب علوم البلاغة (المراغي، 1993م، ص116-ص118)، وليس موجودًا في كتاب البلاغة فنونها وأفنانها (عبّاس، 1997م، ص307-ص310)، وليس موجودًا أيضًا في البلاغة العربيّة في ثوبها الجديد (أمين، 1999م، ص130، ص131).
الحواشي:
(1) وافق ابن عاشور ما جاء في ديوان زهير بن أبي سلمى من رواية (ومن لم يذد..) ص111، ووافق الزوزنيَّ في اختيار رواية (ومن لم يذد..) ص151، ووافق أبا زيد القرشيّ أيضًا في رواية (ومن لم يذد..) ص174، وفي شرح القصائد السبع الطوال الجاهليّات للأنباري (ومن لا يذد...) ص285، وفي فتح الكبير المتعال للدرّة (ومن لا يذد...) جـ2، ص344، وفي شرح القصائد العشر للتبريزي (ومن لا يذد...) ص127، وفي شرح القصائد التسع المشهورات للنحّاس (ومن لا يذد...) جـ1، ص350. ويظهر أثر اختلاف الرواية في جازم الفعل المضارع، ففي رواية (ومن لم يذد) جازم المضارع يذدْ هو لم التي تجزم فعلًا مضارعًا واحدًا، أمّا روايةُ (ومن لا يذدْ) فالجازم هو من الشرطيّة.
(2) شرح الشيخ عبد الله الفوزان اسمه (الوسيلة والبلاغة في شرح موجز البلاغة).
المراجع:
• أمين، بكري الشيخ (1999م) البلاغة العربيّة في ثوبها الجديد علم المعاني (ط6) دار العلم للملايين، لبنان.
• الدرّة، محمّد (1989م) فتح الكبير المتعال إعراب المعلّقات العشر الطوال (ط2) مكتبة السوادي، المملكة العربيّة السعوديّة.
• شرّاب، محمّد محمّد حسن، (1990م) معجم الشوارد النحويّة والفوائد اللغويّة، (ط1) دار المأمون للتراث، سوريا.
• ابن عاشور، محمّد الطاهر، (1932م) موجز البلاغة، (ط1) المطبعة التونسيّة، تونس.
• عبّاس، فضل حسن (1997م) البلاغة فنونها وأفنانها علم المعاني (ط4) دار الفرقان، الأردن.
• الفوزان، عبد الله (2024م) الوسيلة والبلاغة في شرح موجز البلاغة (ط2) دار ابن الجوزيّ، المملكة العربيّة السعوديّة.
• القزوينيّ، محمّد بن عبد الرحمن (ت739، 2009م) التلخيص في علوم البلاغة (ط2) (عبد الحميد هنداوي، تحقيق) دار الكتب العلميّة، لبنان.
• المراغي، أحمد (1993م) علوم البلاغة البيان والمعاني والبديع (ط3) دار الكتب العلميّة، لبنان.
** **
- جامعة الملك سعود