د.نادية هناوي
للفكر الإسلامي الصوفي والفلسفي دور في توظيف سردية الحيوان، جامعا فيها بين البعدين العلمي والأدبي. ولعل رسائل إخوان الصفا في مقدمة المصنفات الفلسفية التي فيها يحتل الحيوان موقعا مركزيا بوصفه ظاهرة علمية ومسألة فلسفية وقضية أخلاقية. فقدموا – بعد أن انتهوا من الحديث عن النباتات- رؤى مهمة لا تدع جانبا من الحيوان إلا وتتناوله كعناصر وطبائع وميزات، تثير الفكر وتحضُّ على التأمل والتدبر وأحيانا يجعلون الحيوان ناطقا. وعبروا عن غايتهم التثقيفية بالقول:( جعلنا بيان ذلك على ألسنة الحيوانات ليكون أبلغ في المواعظ وأبين في الخطاب وأعجب في الحكايات وأظرف في المسامع وأطرف في المنافع وأغوص في الأفكار وأحسن في الاعتبار)
وساروا في سرد حكايات الحيوان على ما تعارف عليه الأدباء من نظام سردي سواء من ناحية لا واقعية القاعدة أو من ناحية تقاليد الحكي التي فيها الحيوان هو الفاعل السردي متكلما عن نفسه أو متكلما عنه. والغالب على إخوان الصفا توظيفهم أسلوب المحاورة في سرد الحيوان وكل محاورة هي عبارة عن سجال فلسفي يدور بين زعيمين متخيلين هما زعيم البهائم وزعيم الإنس. وكل واحد منهما يدافع عن بني جنسه، ويستدل بآيات القرآن ليؤكد قوة حجته.
وتتخلل كل حوارية استطرادات باستعمال تقليد القطع والوصل. وعادة ما تبدأ بحكّاء يتحدث بضمير المخاطب ( فاعلم يا أخي بأن الحيوانات أنواع كثيرة ..) أو بضمير الغائب( يقال إنه لما ..) ثم يسلم قياد الحكي إلى سارد عليم يسترجع الأحداث الماضية قائلا: «اشتكى زعيم البهائم عند الملك بيراست الحكيم وكان عادلا». ولا يخفى ما للاستطراد من دور في أن تكون الشكوى مفصلة وطويلة ثم يأتي دور زعيم الإنس ليرد على الشكوى مدافعا عن البشر: إن البهائم عبيد لنا ونحن أربابها، فيرد زعيم البهائم مدعيا على البشر ومنتصرا لجنس الحيوان، قائلا: « إنهم أي الحيوانات قبل خلق آدم كانوا قاطنين في أرجاء الأرض آمنين معافين في أبدانهم يسبِّحون الله ويقدسون له». فيدعو بيراست الحكيم جنوده وأعوانه لفصل القضاء بين زعيمي البهائم والإنس. وهنا يتحول السارد العليم إلى سارد ذاتي هو عبارة عن حيوان ناطق يدلي بشهادته أمام مجلس القضاء. وأول شاهد هو الحمار الذي يؤدي دور المدافع عن الحيوانات ويقدم مرافعة حقوقية حول ما يتلقاه الحيوان من أذى على يد الإنسان( أيها الملك لو رأيتنا ونحن أسارى في أيدي بني آدم موقرة ظهورنا بأثقالهم من الحجارة والآجر والتراب والخشب والحديد وغيرها ونحن نمشي تحتها ونجهد بكد وعناء شديد وبأيديهم العصا والمقارع يضربون وجوهنا وأدبارنا بحنق وغضب وضجر وصخب لرحمتنا ورثيت لنا وبكيت علينا أيها الملك فأين الرحمة وأين الشفقة والرأفة منهم علينا).
إن ما يجسده الحمار من معاناة في شهادته هذه، يعكس مقدار إحساس المفكر الصوفي بما يتعرض له الحيوان من ظلم وهوان. وهو أمر ليس خاصا بعصر ولا هو محدد ببيئة، فالحيوان على طول التاريخ البشري مسخر لخدمة الإنسان لكن هذا التسخير قد يتجاوز الحد فيتعرض الحيوان للأذى والظلم. أما لماذا كان الحمار أول الشاهدين، فلأنه الحيوان الأكثر تسخيرا لخدمة الإنسان. ويتلوه الثور الذي تكلم مدافعا عن بني جنسه على شاكلة ما فعله الحمار باستعمال ضمير جمع المتكلمين مكررا جملة ( لو رأيتنا أيها الملك ونحن أسارى.. لرحمتنا ورثيت لنا وبكيت علينا فأين الرحمة وأين الشفقة والرأفة منهم علينا) وعرض الثور صوراً مشهدية قاسية للطريقة التي بها يُعذب في حرث الأرض( مقرنين في فدانهم مشدودة أعيننا وهم يضربوننا) ثم يأتي دور الكبش والجمل والفيل والفرس والبغل والحيتان والثعبان والصرصر والأرنب. وكل واحد من هذه الحيوانات يدلي بدلوه في شكل مرافعة حقوقية. حتى إذا انتهى البغل من عرض مرافعته التفت الجمل إلى الخنزير وقال له: « قم وتكلم واذكر ما تلقون معشر الخنازير من جور بني ادم واشكُ إلى الملك الرحيم» فراح الخنزير يدلي بشهادته، محتكما إلى ما جاء فيه من نصوص سماوية مقدما رؤية فلسفية لطبيعة الاختلاف الديني حوله.
وقد يذهب الظن إلى أن هذه الطريقة في المجادلة على لسان الحيوان هي من باب التأثر بحكايات كليلة ودمنة، وهذا صحيح بيد أن ما يوظف في المرافعات والشهادات من حجج وما يقدم في دعاوى الحيوان على بني البشر من استشهاد بالآيات القرآنية، يؤكد بشكل قاطع أن للقصة القرآنية تأثيرا تثقيفيا سابقا على حكايات كليلة ودمنة كما يدلل على أن للفلسفة دورها في إنصاف الحيوان بدليل:
1 - أن الكلام على لسان الحيوان لم يكن على طريقة ثنائية، يتناوب على التحاور فيها ابنا آوى ثم الأبطال مثل الأسد والثور/ البوم والغراب/ القرد والغيلم/ الجرذ والسنور.. الخ. بل هو تحاور فلسفي ويتخذ طريقة أحادية حيث كل حيوان يدافع عن نوعه. ولا ينفي حواره مع غيره محورية دوره بوصفه ساردا ذاتيا وبطلا مركزيا.
2- أن المسحة البوذية والأساطير الهندية تبدو جلية على حكايات كليلة ودمنة في حين أن النزعة الإسلامية طاغية على كل مرافعة حقوقية فكل حيوان لا يستشهد سوى بآيات القرآن التي بها يكفل حقه في الرحمة كما أن العبارات الواردة على لسانه تؤكد نزعة التوحيد كما في قول زعيم الطيور: « وكان قاعدا على غصن شجرة يترنم فقال: الحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد القديم الأبد الدائم السرمد بلا شريك ولا ولد، بل هو مبدع المبدعات وخالق المخلوقات وعلة الموجودات ومسبب الكائنات من الموجودات والنباتات»
3- أن الحيوان في المجادلات الحوارية ليس رمزا يستعيره السارد مشفرا رسائله المحملة بالدلالات السياسية مثلما في حكايات كليلة ودمنة، بل الحيوان كينونة حية تريد استرداد الحق الذي كان القرآن قد كفله لها، ولذلك يلهج كل حيوان بحقه بحسب النصيب الذي فرضته له آيات القرآن. فالخنزير لم يكن له أن يقدم مرافعته إلا بعد أن قال حكيم من الجن: إن الخنزير ليس من الأنعام بل السباع، وقال آخر: إنه من الأنعام، فردَّ الخنزير بما قدر له من نصيب في الكتب السماوية فكان يعامل معاملات مختلفة فهو عند المسلمين غيره عند النصارى واليهود. وعبّر عن حيرته فقال: «والله ما أدري ما أقول .. من كثر اختلاف القائلين في أمرنا.. وذلك أن المسلمين يقولون إننا ممسوخون وملعونون ويستقبحون صورتنا. وأما أبناء الروم فيتنافسون في أكل لحومنا في قرابينهم ويتبركون بها إلى الله.. أما اليهود فيغضبوننا ويشتموننا .. لعداوة بينهم وبين النصارى»
4 - أن الإنسان في حكايات كليلة ودمنة ليس طرفا في الحوار بين الحيوانات، بل المجادلة مخصوصة بين اثنين من الحيوان، والجزء الأكبر يتحدد بين ابني آوى باستعمال جملتي( قال دمنة / قال كليلة) أو هي بين صنفين من الحيوان لا يتجاوزهما، كالقول مثلا( قال الغراب/ قال الغيلم) في حين أن الإنسان في رسائل إخوان الصفا يحضر بوصفه الطرف المدعى عليه في المرافعة الحقوقية للحيوان فمثلا حين ذكر الإنسي بأن البشر أرباب، والحيوانات لهم عبيد، وذكر فضل الخيل ورد عليه الأرنب بنواقص الخيل كالجهالة وقلة المعرفة، فإن المنادي نادى: لينصرف الجميع إلى مساكنهم وليعودوا غدا آمنين. وبسبب قوة حجج كل من الحيوان والإنسان احتكم الملك إلى وزيره بيراز الذي رأى أن الأمر مشكل فاحتكم ثانية إلى الجن من آل جرجيس وبني ناهيد فرأوا ( أن أمر ملك البهائم والأنعام الأسيرة في أيدي بني آدم تجمع أمرها وتهرب في ليلة واحدة وتبعد من ديار بني آدم .. فيكون هذا نجاة لها وخلاصا) ورفض آخرون هذا الحكم، ثم تكلم زعيم السباع ومن بعده الببغاء والعنكبوت ودودة القز وزعيم الجوارح. وعلى هذه الوتيرة الدرامية تستمر المرافعات وتحتدم الحجج وتدخل فيها أطراف غير حيوانية متخيلة من الجن ومن كائنات صنعتها أساطير الشعوب الأولى كالعنقاء والتنين. وينتهي الفصل المخصص للحيوان في رسائل إخوان الصفا وقد حكم الملك لصالح البشر بالاستناد إلى صفوة من خلق الله، وأصدر أمرا ملكيا، هو أن(تكون الحيوانات تحت أوامرهم ونواهيهم ويكونون مأمورين للإنس حتى يستأنف الدور ثم حكم بعد ذلك حكما آخر ثم بعد ذلك قام واحد من خدماء الملك ونادى مناد: ألا قد سمعتم معشر الحيوانات بيان هؤلاء الإنس وقبلتم مقالاتهم ورضيتم بذلك فانصرفوا في حفظ الله وأمانه)
5 - الغاية من جعل الحيوان متكلما في حكايات كليلة ودمنة هي ضرب الأمثال كي يتعظ الإنسان ويفهم وينتفع بالحكمة، زيادة في البصيرة ومعرفة بأمور الحياة عامة والسياسة والحكم خاصة حتى(إذا رمى الحجر في ظلمة الليل عرف أين يقع وماذا يصنع). في حين أن الغاية في رسالة إخوان الصفا لا تتجاوز الحيوان من الناحية الأخلاقية المتمثلة بانتزاع الحق له من البشر عبر عرض تفاصيل دعاوى الحيوانات على خصمها الإنسان بحضور الطرفين. ومن خلال عرض الحجج والبراهين، يقدم الحيوان صورة واقعية تكشف مدى اضطهاد الإنسان له. وهذا هو ما تنادي به اليوم أدبيات علم الأخلاق وجمعيات حماية الحيوان ومنظمات الدفاع عن البيئة والنظام الطبيعي.