إن الباحث في تاريخ الإبل في الثقافة العربية الإسلامية يلاحظ أن لها مكانة مرموقة، فهي ليست مجرّد حيوان كان له دور في تنقل سكان الجزيرة العربية في الصحراء وعيشهم فيها، بل اكتسبت الإبل أبعادا رمزية عبّرت عنها الثقافة العربية الإسلامية بوسائل شتّى، فللإبل حضور لافت في النصوص الدينية وفي الشعر والأمثال والأساطير.
ويمكن للدارس من منظور النقد البيئي أن ينظر إلى الإبل بوصفها علامة من العلامات الثقافية المعبّرة عن التاريخ الاجتماعي والثقافي للمملكة العربية السعودية، فالصحراء والإبل والنخل تمثّل العناصر الأساسية التي ميّزت بيئة الجزيرة العربية على امتداد تاريخها الطويل، فكانت بذلك مخبرة عن الماضي ومعبّرة عن الخصوصية الثقافية وعن الهوية.
وسيحاول هذا البحث أن يستقرئ بعض الملامح من التاريخ البيئي والثقافي للجزيرة العربية، وذلك بتتبّع النصوص المختلفة التي ورد فيها كلام عن الإبل في الجاهلية والإسلام واستقرائها قصد الوقوف على المعاني الرمزية التي ارتبطت بالإبل، فحوّلتها من مجرّد حيوان إلى رمز ثقافي وحضاري متعدّد الأبعاد ومتنوّع الدلالات.
1- رمزية الإبل في الجاهلية:
كثيرة هي الأخبار والخرافات التي تكشف علاقة العرب بالإبل في الجاهلية، وتدلّ على أنّها لم تكن علاقة عادية، بل كانت ممزوجة بجانب أسطوري عجيب، فقد كان للعرب معتقدات خرافية حول الإبل، إذ كانوا يحتمون بها عند الشدائد، من ذلك ما رواه الألوسي في «نهاية الأرب» من أن العرب إذا اعتقدوا أن أحدا به مسّ من الجن عملوا جملا من طين ووضعوا عليه جواليق من حنطة وشعير وتمر، ثم جعلوها إلى باب جحر، وانتظروا إلى الصباح فإن رأوها على حالها قالوا لم تقبل الهدية وزادوا فيها، وإن وجدوها قد تساقطت وتبدّد ما عليها استبشروا بذلك واعتبروه دليلا على أن الهدية قبلت والمريض سيشفى.
وكانوا كذلك يتداوون من (الهدبد) وهو إصابة العين بالعشى بأكل سنام الإبل وكبدها، وكان العرب إذا ضاع الواحد منهم في الصحراء قلب ثيابه وحبس ناقته وصاح في أذنها كأنه يومئ إلى إنسان، وصفّق بيديه: الوحا الوحا، النجا النجا، هيكل، الساعة الساعة، إليّ إليّ، عجّل، ثم يحرّك الناقة فيهتدي.
ومن معتقدات العرب وطقوسهم أنّهم على ما روى القلقشندي كانوا يشدون ناقة الميت إلى قبره ويقلبون رأسها إلى ورائها، فإذا أفلتت لم ترد عن ماء ولا مرعى، ويزعمون أنهم إذ يفعلون ذلك حشرت معه في المعاد ليركبها.
وترتبط الإبل في الميثيولوجيا الجاهلية بالكواكب والنجوم، فقد كان العرب يجسدون الكواكب في شكل الإبل وأعضائها، فالناقة «العنتريس» لها مثال في السماء، إذ يرمز عنقها إلى كواكب صغار متناسقة، وأحد الكواكب يسمى سنام الناقة، وبعضها يدعى جفرة الناقة، ومن الكواكب ما يسمى القلاص، وهي صغار النوق، ومن أسماء الناقة «علياء» وهو من أسماء السماء، وسموا السماء «جرباء» لكثرة النجوم فيها تشبيها بجرب البعير، والناظر في «لسان العرب» لابن منظور يجد الكثير من أسماء الإبل وصفاتها قد استمدّت من أسماء كواكب ونجوم، فالناقة «العطردة» مثلا تشير إلى كوكب عطارد، والجمل «العود»، وهو الجمل المسنّ، مأخوذ من اسم من أسماء الشمس هو اسم العود، والجمل «العذافر» يشير إلى كوكب الذنب واسمه عذافر، والناقة «البرجيس» تشير إلى كوكب المشتري ومن أسمائه برجيس.
وانطلاقا من هذه التسميات يتّضح أن الإبل ترمز عند العرب قديما إلى النجوم والكواكب، ولعلّ ذلك كان يتّصل بمعتقداتهم في تقديس الأجرام السماوية ممّا يجعلهم يسعون إلى تجسيدها والتمثيل عليها من خلال أقرب الكائنات إليهم أي الجمال والنوق. ويدلّ كل ذلك على أن نظرتهم إلى الإبل كانت تعبّر عن المنزلة الرفيعة التي تحظى بها في حياتهم فكأنّها بالنسبة إليهم تختزل صورة الكون وخواصه ومعانيه وأبعاده.
وتتأكّد أهميّة الإبل في الثقافة الجاهلية من خلال حضورها اللافت في القصائد الشعرية، وقلّما نعثر على قصيدة جاهلية لا تتضمّن أبياتا في وصف الإبل والإشادة بها، ووصف الإبل في الشعر غالبا ما يرد في قسم الرحلة الذي يعدّ قسما أساسيا من أقسام القصيدة يتوسط بين الوقفة الطللية وقسم المدح، وقد برّر ابن رشيق القيرواني قسم الرحلة بقوله: «والعادة أن يذكر الشاعر ما قطع من المفاوز وما أنصف من الركائب، وما تجشّم من هول الليل وسهره وطول النهار وهجيره وقلّة الماء وغؤوره، ثمّ يخرج إلى مدح المقصود ليوجب عليه حق القصد وذمام القاصد ويستحقّ منه المكافأة،» ويضيف ابن رشيق: «وكانت دوابهم الإبل، لكثرتها وعدم غيرها، ولصبرها على التعب وقلّة الماء والعلف».
ولعلّ أهمّ ما يلفت الانتباه في كلام ابن رشيق، صفة الصبر التي نسبها إلى الإبل، وهذه الصفة من مكارم الأخلاق التي يمدح بها البشر، وتعدّ الإبل رمزا من رموز هذه الخصلة الأخلاقية، فمن المعروف عنها أنّها مثال للصبر والتحمّل. ولعلّ أهمية قيمة الصبر إنّما تكمن في أنّها من أهمّ القيم التي تساعد على العيش في الصحراء وتحمّل ما فيها من القسوة والشدّة، وكأنّ العرب استلهموا هذه القيمة من أخلاق الإبل.
وفضلا عن الصبر المعروف عن الإبل فإنّ من شمائلها الإلف ورعاية الودّ مع راعيها إذا أحسن رعايتها وإجارة من يستجير بها وفي ذلك يقول طرفة بن العبد: (الطويل)
وَلَمْ يَرْعَهَا رَاعٍ رَبِيب وَلَمْ تَزَلْ
هِيَ العُرْوَة الْوُثْقَى لِمَنْ يِسْتَجِيرُهَا
ومّما توصف به الإبل إضافة إلى صبرها وإلفها لراعيها أنّها مرهفة الحسّ شديدة الحنين إلى درجة السجر، وهو حالة قصوى من الحنين، ومن أمارات ذلك أنها تتأثّر بما حولها، وتعبّر عن تأثرها بالدموع، وهذا ما أشار إليه حسان بن ثابت في قوله: (الطويل)
تَقُولُ وَتَذْرِي الدَّمْعَ عَنْ حرِّ وجْهِهَا
لَعَلَّ نَفْسِي قَبْلَ نَفْسِكَ بَاكرُ
أو قول سبيع بن الخطيم (الكامل)
فَاسْتَعْجَمَتْ وَتَتَابَعَتْ عَبَرَاتُهَا
إِنَّ الْكَرِيمَ لِمَا أَلمَّ عَرُوفُ
وفضلا عما تضمّنه الشعر الجاهلي من وصف لأخلاق الإبل وما تتميّز به من شمائل ومكارم توسّع الشعراء كذلك في تصوير أجسامها وأعضائها وحركاتها وفصّلوا في ذلك وأتوا بالتشبيهات التي تكشف جمال خلقتها وحسن حركتها. فوصفوا قوائمها بالصلابة مما يمنحها القدرة على التحمل ويساعدها على الإسراع في السير، وصوروا طول أعناقها ومشافرها للتعبير عن جمالها وحسن منظرها، وشبهوا أضرعها بالدلاء المعلّقة وبدرج العاج الذي توضع فيه الحليّ، وأبرزوا ضخامة أجسامها فشبهوها بالقصور والقلاع الضخمة، ووصفوا أصواتها وألوانها، وقد بيّنت بسمة نهى الشاوش في كتابها «وصف الحيوان في الشعر الجاهلي» مدى كلف الشعراء الجاهليين بوصف الإبل، وعللت ذلك بمكانتها في حياتهم، وهي ترى أن الشاعر الجاهلي أغرق: «في تقصي أدقّ الجزئيات وأبعد التفاصيل في وصفه للإبل... وهو وصف يدلّ على اهتمام شديد بشتّى أحوالها قد يفسّر في تقديرنا بولعه بها وطول معاشرته لها في مختلف أحوال معيشته زمن الحرب أو زمن السلم وقيمتها الماديّة والمعنويّة وحتى الإيحائية بالنسبة إليه.»
وبصفة عامة يبدو من خلال النظر فيما تضمنته الأخبار والأشعار المرويّة عن العصر الجاهلي أنّ الإبل مثّلت علامة ثقافية تتجسّد فيها معتقدات الجاهليين وقيمهم الأخلاقية ومعاييرهم الجمالية. ومن ثمّ اكتسبت معاني رمزية وتحوّلت إلى أيقونة مكثّفة الدلالات، فهي تعبّر عن رؤيتهم في الحياة بما تحمله تلك الرؤية من معتقدات دينية تتعلق بالكواكب والنجوم، وقيم أخلاقية مثل الصبر والعزم والإلف وحسن المعاشرة، هذا فضلا عمّا وجدوه في الإبل من جمال في الصورة وكمال في الجسم.
2- رمزية الإبل في الإسلام:
ممّا يدلّ على أهمية الإبل في حياة العرب أنّها ذكرت في النصوص الدينية، وكان لها حضور في القرآن الكريم وفي الأحاديث النبوية الشريفة، فأمّا في القرآن الكريم فإن إحصاء تقريبيا لعدد المواضع التي ذكرت فيها الإبل كفيل بالدلالة على أهميتها، القرآن الكريم خصّ الإبل بذكر مطّرد، فعدد المواضع التي وردت فيها كلمة الإبل بلفظها أو بلفظ آخر مرادف لها يبلغ 42 مرّة، وفي ذلك ما يؤكّد أهمية هذا الحيوان، وإذا نظرنا إلى مضامين الآيات القرآنية حول الإبل تبيّن أن أهم الدلالات الرمزية المتّصلة بها تتمثل فيما يلي:
- الإبل آية من آيات الله في خلقه، ولذلك حث الله الإنسان على تأمّلها «أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ» (الغاشية، آية 17).
- الإبل نعمة من نعم الخالق على الإنسان، ففيها حياة للناس وخير كثير، قال تعالى: «وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ» (النحل، آية: 5 ـ 6).
وأمّا الأحاديث النبوية فقد جاءت مؤكّدة ومفصّلة لما جاء حول الإبل في القرآن الكريم، فمن أقوال الرسول- صلّى الله عليه وسلم- أنّ «الإبل عزّ لأهلها»(سنن ابن ماجه). وقد امتلك النبي الإبل وسماها بأسماء مختلفة مثل (القصواء والحسناء والسمراء والعريس والسعدية والبغوم واليسيرة والريا ومهرة والشقراء.). وكان صلى الله عليه وسلم يوصي بالرفق بالإبل وحسن معاملتها.
وبالإضافة إلى القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة كان للإبل حضور في مصنفات الأدب والنقد، فللأصمعي كتاب معروف سمّاه «كتاب الإبل» وقد كان أوّل كتاب في النقد الأدبي من تأليف الأصمعي يحمل عنوان «فحولة الشعراء»، وقد وجد الأصمعي في صفات الفحل ما شجّعه على نحت مصطلح نقدي مهمّ استخدمه في المفاضلة بين شاعر فحل وشاعر ليس بفحل، والشاعر الفحل كما عرّفه الأصمعي هو من «له مَزِيَّةٌ على غيره، كمزيّة الفحل على الحِقاق.» وقد استوحى ذلك من بيت لجرير يقول فيه: (البسيط)
وابنُ اللَّبُونِ إِذَا مَا لُزَّ في قَرَنٍ
لَمْ يَسْتَطِعْ صَوْلَةَ البُزلِ القَنَاعِيسِ
والمقارنة التي عقدها الأصمعي بين فحل الشعراء وفحل الإبل تدلّ على جانب مهمّ من رمزيّة الإبل عند العرب، فمفهوم الفحولة المستمدّ من عالم الإبل يدلّ على تصوّرهم لاكتمال صفة الذكر وبلوغها أعلى مراتبها التي تتمثّل في القدرة على الافتراع والإخصاب والإلقاح، ويعدّ الفحل من الجمال رمزا ونموذجا على تجليات هذه القدرة في أفضل صورها، ولعلّ ذلك ما يفسّر انزياح هذه التسمية من معجم الإبل إلى مصطلحات نقد الشعر. فالشاعر الفحل هو الذي يمتلك القدرة على افتراع المعاني البكر والإتيان بالصور الجديدة التي لم يسبق إليها مما يجعل متفوّقا على غيره من الشعراء الذين لا يضاهونه.
تعدّ الإبل أيقونة من أيقونات حياة أهل الجزيرة العربية، ألفوها في حلّهم وترحالهم، وعاشروها طويلا، وانتفعوا منها في حالات السلم والحرب، فشربوا ألبانها، وأكلوا لحومها، واستعانوا بها على وعثاء السفر، ولذلك كلّه اكتسبت في حياتهم رمزيّة خاصة ومكانة رفيعة، فالإبل عند العرب ترمز إلى القيم الأصيلة والخصال المحمودة، فهي الدليل على الكرم والصبر والتحمّل والقوة والشجاعة ورباطة الجأش والإلف وحسن المعاشرة وغيرها من القيم النبيلة التي قامت عليها حياة العرب في بيئتهم الصحراوية وتميّزوا بها عن غيرهم من الشعوب.
المصادر والمراجع
- القرآن الكريم
- ابن رشيق القيرواني، العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقد، القاهرة: مطبعة حجازي،
- ابن منظور، لسان العرب، القاهرة: دار المعارف، د-ت.
- الأصمعي، عبد الملك بن قريب، فحولة الشعراء، تح: ش. توري، قدم لها: صلاح الدين المنجد، دار الكتاب الجديد، لبنان، ط.1، 1980.
- الألوسي، محمود شكري، بلوغ الأرب في معرفة أجوال العرب، بيروت: دار الكتب العلمية، د-ت.
- الشاوش، بسمة نهى، وصف الحيوان في الشعر الجاهلي، تونس: كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، 2009.
- القلقشندي، أبو العباس أحمد صبح الأعشى في كتابة الإنشا، القاهرة: المطبعة الأميرية، 1915.
- النويري، شهاب الدين، نهاية الأرب في فنون الأدب، القاهرة: دار الكتب المصرية، 1923.
** **
مزنة العتيبيّ - باحثة في الرواية والسينما