الثقافية - علي القحطاني:
في عصر تتسارع فيه الابتكارات التقنية وتتغير فيه أساليب التعلم، تقدم منصة «لسان مبين» رؤية متجددة لتعليم اللغة العربية وعلومها، بأسلوب يمزج بين الإبداع والحداثة. تعتمد المنصة على وسائل تعليمية مبتكرة، تشمل المقاطع المرئية القصيرة، الخرائط الذهنية، والتصاميم الفنية، لتقريب اللغة العربية من الأجيال الجديدة، مع الحفاظ على عمقها الثقافي وجمالها الأدبي.
تأسست هذه المنصة على يد د. محمد بن علي العمري، أستاذ اللغة العربية بجامعة الملك خالد، الذي يمتلك خبرة تتجاوز سبعة وعشرين عامًا في التدريس الجامعي. يسعى العمري من خلال هذه المبادرة إلى تجاوز العوائق النفسية التي تحول بين الطلاب وعلوم اللغة العربية، وإعادة إشعال الشغف بتذوق «حلاوة العلم». عبر أدوات تعليمية مبتكرة، يطمح إلى أن تصبح «لسان مبين» جسرًا يربط بين أصالة اللغة ومتطلبات العصر، مما يسهم في تحقيق أثر مستدام لنشر العربية وترسيخ هويتها.
في هذا اللقاء، يتحدث د. محمد بن علي العمري لـ»الثقافية» عن تفاصيل تجربته في إنشاء منصة «لسان مبين» وأهمية الأيام العالمية، مثل اليوم العالمي للغة العربية، في تعزيز مكانة اللغة على الساحة الدولية. كما يتناول تأثير التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي على مستقبل اللغة، وسبل تبسيط علوم العربية وتوسيع نطاق انتشارها.
قصة المنصة
* منصتكم الإلكترونية «لسان مبين» تقدم تجربة تعليمية مبتكرة تجمع بين مقاطع قصيرة، وتصاميم فنية، وخرائط ذهنية لتعليم علوم اللغة العربية وآدابها. بناءً على هذه التجربة، كيف يمكن للمنصة أن تُحدث تحولًا نوعيًا في طرق تعلم اللغة العربية وتجعلها أكثر جاذبية وفعالية للأجيال الجديدة؟
- هدفي، أنا وفريقي، من هذه المنصة هو كسر الحاجز النفسي بين علوم العربية وطلابها، من خلال توظيف الخبرات التي بنيتها على مدى سبعة وعشرين عامًا في التدريس، في جامعتي أم القرى والملك خالد وبعض الكليات الأهلية، في تقريب هذه العلوم، والإبداع في طرائق إيصالها، ورواية أرقى ما في تراث العربية من النصوص والمختارات والأمثال والذخائر، والتلطف في النفوذ إلى قلب الدارس لذوق حلاوة العربية علومًا وآدابًا؛ لأن لكلِّ فضيلةٍ (حلاوة)، والفرق بين من تعلم العلم أو قرأ الأدب وبين من ذاق (حلاوتهما) شاسع؛ ولذلك نجد الرسول الأعظم- صلى الله عليه وسلم- يحدثنا عن (الإيمان) وعن (حلاوة الإيمان)، ولا شك أن من ذاق (حلاوة الإيمان) أو (حلاوة العلم) أو (حلاوة الأدب) أو (حلاوة التطوع) أو (حلاوة الصحافة) ... ... وغيرها، سيكتشف آفاقًا من ملاذ (المشقة) الموصلة إلى (المعالي)، تتضاءل معها شهوات الإخلاد إلى الراحة والدعة واللهو.
هذا هو هدف المنصة، ومع أنِّي لا أستطيع أن أحكم عليها بأنها (ستُحدث تحولًا نوعيًا في طرق تعلم اللغة العربية وتجعلها أكثر جاذبية وفعالية للأجيال الجديدة)، أجد الأرقام التي حققتها المنصة، بفضل الله تعالى، عبر الموقع الإلكتروني، والحسابات المرتبطة به في جميع وسائل التواصل الاجتماعي، وانطباعات الدارسين، ترفع كلَّ يوم نسبة تفاؤلي بأنَّ المنصة ستنال هذا الشرف، إن شاء الله تعالى!
اليوم العالمي للغة العربية
* ما أهمية تخصيص يوم عالمي للغة العربية؟ وكيف يمكن أن يُسهم هذا اليوم في تعزيز مكانة اللغة العربية على المستوى العالمي؟
- الأيام العالمية عُرف عالمي، ليس الهدف منه حصر الاهتمام بالمستهدف في يوم واحد، بل هدفه التعبير بطريقة عالمية مختلفة عن تكريم ذلك المستهدف، من خلال حشد القلوب والعقول والأرواح للاحتفاء والاحتفال في وقتٍ واحدٍ، لتتضافر الأفكار والعواطف الجمعية في استشعار أهميته على المستوى العالمي؛ ومن هنا أجد تخصيص يوم عالمي للغة العربية حدثًا مهمًّا في ذاته، أما أهميته من حيثُ أثرُه فهذا يحكمه مدى نجاح العرب، نسبًا ولغةً، في استثماره، لتعزيز مكانة العربية والتعريف بها.
تبسيط اللغة العربية
من خلال سلسلة «مهارات التحليل النحوي» ودورة «المدخل إلى اللغة العربية» التي أطلقتموها عبر منصة يوتيوب، ما الذي دفعكم إلى تبني هذه المبادرات التعليمية؟ وكيف ترون دورها في تبسيط اللغة العربية ونشرها بأسلوب يتناسب مع مختلف الفئات والمستويات التعليمية؟
- إطلاق منصة إلكترونية تهدف إلى: تبسيط علوم العربية، ورواية آدابها، ونشر تاريخها، وإشهار ذخائرها، بجهدٍ فرديٍّ وفريقٍ تطوعيٍّ، ليس قرارًا سهلًا، ومع ذلك لم يشغلني لا التمويل، ولا تكوين الفريق، ولا ضرورة الانقطاع لهذا المشروع، بل شغلني أمرٌ واحدٌ لا غير، وهو مدى تقبل الجمهور له وانتفاعه به؛ ولذلك قررت في وقتٍ مبكِّرٍ أن أقدم (العربية) في (المسجد) لـ(عامة الناس)، في دورات قصيرة، أجعلها مقياسًا أمينًا، أستطيع بناء على نتائجه أن ألغي فكرة المنصة أو أن أصمِّم على تنفيذها؛ وبناء على ذلك طلبت ترخيصًا من وزارة الشؤون الإسلامية، لعقد مجموعة من الدورات اللغوية المسجدية، من خلال عدد من جمعيات الدعوة والإرشاد، فعقدت في أبها دورة (مهارات التحليل النحوي) ودورة (المدخل إلى اللغة العربية) وفي الأحساء دورة (مهارات الإملاء)، وبناء على نتائج هذه الدورات عقدت العزم على إطلاق مشروع (لسان مبين)، ثم أطلق سمو سيدي ولي العهد، -وفقه الله-، رؤية السعودية 2030، فوجدت (اللغة العربية) مكمنًا من مكامن القوة التي تهدف الرؤية المباركة بكلِّ قوةٍ ووعيٍ إلى العناية بها، بصفتها من أهم معزِّزات (الهوية الوطنية)، التي هي محور (المجتمع الحيوي).
تقنيات الذكاء الاصطناعي
* كيف ترى تقنيات الذكاء الاصطناعي في تعزيز جودة النصوص العربية؟ وما مدى تأثيرها على مستقبل الكتابة والتحرير باللغة العربية في ظل التحديات التي تواجهها اللغة اليوم؟
- المملكة العربية السعودية أثبتت بالبراهين التجريبية تفوقها المذهل في توظيف (التقنية) في تسهيل الإجراءات، وتجويد الحياة، وتوفير الوقت والجهد، في شتَّى المجالات، فقد تحوَّلت السعودية بجميع مؤسساتها في لحظة واحدة إلى دولة إلكترونية، حين فاجأت جائحة كورونا العالم بأسره؛ لذلك ليس غريبًا أن يكون في (سعودية الرؤية) هيئة مستقلة للبيانات والذكاء الاصطناعي، وأن تسهم مبكرًا في رفع مستوى الوعي المجتمعي بمفاهيم الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته، وأن تطلق عددًا من النماذج والمؤشرات النوعية لتوظيف ذكاء الآلة في خدمة اللغة العربية، كمؤشر (بلسم) ونظام (صوتك) ونموذج (علَّام)، وهذه الجهود العظيمة ستسهم في توليد النصوص العربية، وتجويدها، وتحليلها، وتقويمها، ونقلها بين الأنظمة الصوتية والكتابية، ودعم المحتوى العربي عمومًا على الصعيد العالمي.
وأملي كبير في أن ننجح في جعل (ذكاء الآلة) سببًا في (تطوير كفاءة الإنسان وكفايته) لا سببًا في (غبائه وتضاؤل مهاراته)، فالذكاء الاصطناعي قد يحرر النص نيابة عنك، ولكنه قطعًا لن يذوق حلاوته نيابة عنك.
صعوبة علم العروض
* كيف يمكن تفسير عدم تمكن الأصمعي من فهم علم العروض على الرغم من عبقريته الأدبية؟ هل تكمن المشكلة في صعوبة علم العروض نفسه أم في انشغاله بجوانب أدبية أخرى؟ وكيف يمكن للتقنيات الحديثة أن تجعل هذا العلم أكثر سهولة وشيوعًا؟
- إن صحَّ هذا الخبر، وهو عندي موضع شكٍّ عميقٍ؛ لعددٍ من القرائن، فهو لا يعيب الإمام الكبير أبا سعيد الأصمعي، -رحمه الله-، فمحاولة تعلمه المذكورة كانت أمام أستاذه الخليل، -رحمه الله-، وهو المنشئ الأول لعلم العروض، والبدايات في غير المألوفات عسيرة دون شك، ولا يمكن لمنصفٍ أن يستنبط من هذه القصة ما يعيب الأصمعي، أو يدلُّ على صعوبة علم العروض.
الذي جعل (علم العروض) غريبًا هو أنَّه لا يدرَّس في تعليمنا العام، ولا يدرسه في الجامعة إلا طلاب قسم اللغة العربية، وهو يدرَّس لهم في كثير من الجامعات بطريقة ناقصة، تعتمد على مسلسلات الحركة والسكون ( / O) في تحديد البحر والزحاف والعلة، وتغفل مهارة (التغنِّي والتلحين) التي تغمر هذا العلم بالمتعة، وتغرس الألحان العربية الأصيلة في النفوس، وتستدرُّ الموسيقى اللغوية، لتغذو بها (نشوة الفارس) و(طربية الكريم) في داخل العربي، وإني لألتمس من المركز الوطني للمناهج أن يقرر (مهارة التنغيم) في المرحلة الابتدائية، فنحن في السعودية نمارس هذه المهارة العروضية الراقية في جميع فنون الأداء الحركي (العرضة السعودية، القلطة، الدمَّة، العرضة، الخطوة، الفجري، الصهبة ...) من خلال تكرار (لا) بأنغام مختلفة، وهذا هو روح علم العروض.
ألفية ابن مالك
* هل يمكن تحقيق التوازن بين أهمية حفظ ألفية ابن مالك كأساس لإتقان اللغة، وبين الحاجة إلى الفهم والتطبيق لضمان استيعاب القواعد النحوية بشكل عملي؟
- المنظومات العلمية هي أداة اخترعها العلماء لـ(تذكُّر العلوم) بها، وليست أداة لـ(تعلمها)، وربط (تعلم النحو) بـ(ألفية ابن مالك) سبب من أسباب نفور الطلاب من علمي النحو والصرف وانغلاقه عليهم، ولكن من يقنع الأقسام العلمية في الجامعات بأنَّ الطلاب يمكن أن يسلكوا طريقًا أيسر بكثير لتعلم النحو وفهمه وإتقانه من طريق ألفية ابن مالك، ثم من شاء بعد ذلك أن يحفظ أيَّ متن منثورٍ أو منظوم لتذكُّر ما فهم، فهو زيادة خير، وإن لم يفعل فلا ضير عليه، وأنَّ هذا الطرح لا يعني بأيِّ حالٍ من الأحوال القدح في ألفية ابن مالكٍ أو غيرها، وليس فيه مثقالُ ذرَّةٍ من إساءة إلى تراث الأمة، وأنَّ ابن مالك نفسه لو كان تمسَّك بتدريس كتب من قبله لما وضع الخلاصة الألفية لطلابه، ولكان درَّسهم النحو من (كتاب سيبويه) الذي يفوق في أهميته من العربية ألفية ابن مالك بآلاف المرات.
ضعف المهارات اللغوية
* كيف يمكن مقارنة واقع اللغة العربية اليوم بما كان عليه في الماضي؟ وما الأدوار التي يلعبها الإعلام والتعليم والتكنولوجيا في تحسين هذا الواقع.؟
- ضعف المهارات اللغوية في زمننا هذا كبيرٌ وخطيرٌ، ويحتاج إلى معالجة دقيقة عميقة، لأن مخاطره تتجاوز الأخطاء الكتابية والقرائية إلى ضعف مستويات الفهم والتحليل والابتكار والتفكير، والفرق بين جيل الأحفاد وجيل الآباء وجيل الأجداد في تلك المهارات كبير وجلي، لا تخطئه عين أو أذن، ومعالجة هذا الضعف ممكن وقريب، ولكنه يحتاج إلى قرار صارم، وخطة تتضافر فيها جهود التعليم والإعلام والمجتمع، وفريق عملٍ واسع الرؤية وعميق الانتماء ومؤصَّل التجربة في الميدان.
** **
@ali_s_alq