أ.د. محمد خير محمود البقاعي
ارسلت إلى الحاج اللمسي -رحمه الله- الترجمة مع الغلاف المقترح فلم يبد أي اعتراض ولما صدر الكتاب كان نمطا فريدا بين مطبوعات الدار في غلافه ومضمونه.
ومن المعلومات العجيبة التي أوردها رودونسون في بحثه عن القمر عند العرب وفي الإسلام، حديث صحيح
أخرجه الترمذي (3366)، وأحمد (25844)، والنسائي في (السنن الكبرى) (10137) ونصه:
«استعيذي بالله من هذا يعني القمر فإنه الغاسق إذا وقب»
الراوي: عائشة أم المؤمنين. المحدث: الألباني. المصدر: السلسلة الصحيحة، الصفحة أو الرقم: 372.
وفسر رودونسون في الفصل المشار إليه السبب في أن العرب تحب القمر الذي انتشرت عبادته لارتباطه بالبرودة، وفضح اللصوص في الليل، وربما رأى النبي صلى الله عليه وسلم بعض الإعجاب في نظرة السيدة عائشة رضي الله عنها فأراد أن ينبهها والمسلمين عموما من فتنة القمر.
حطت بنا طائرة الخطوط السورية في مطار دمشق وكان بانتظاري اثنان من إخوتي وقريب يعمل في الجامعة، وكان اللقاء مؤثرا وضعت بعده أمتعتي في سيارة أخوي وركبت في سيارة قريبي وقد كان أمامنا في ليلة الوصول ساعتان لقطع المسافة بين مطار دمشق وحي باباعمرو في غرب مدينة حمص. كان الوالد والوالدة وبقية إخوتي وأخواتي بانتظاري في البيت الذي ولدت فيه، وكان اللقاء حافلا بمشاعر الحب الصادقة، وبكاء أمي التي ولدتني وأمي التي ربتني ولم ينم أحد في تلك الليلة إلا بعد صلاة الصبح. استيقظت في اليوم التالي متأخرا؛ إذا الطقس يميل إلى البرودة التي عرفت بها مدينة حمص، خرجت من باب الدار فبدت لي ساقية الري التي تتفرع عن نهر العاصي، وكان يفصل بيتنا عنها طريق ضيق. وقفت على حافة الساقية وتداعت ذكريات الطفولة والشباب في أنحاء تلك القرية الوادعة التي تجاورها الأراضي الزراعية التي تسقيها الساقية المذكورة، وهبت علي رياح الصباح المنعشة ولم يوقظني من تداعيات الماضي إلا صوت والدتي تدعوني إلى الفطور الذي اجتهدت مع خالتي وأختي في إعداده وقالت إنها أيقظت الوالد والإخوة ليجتمع الجميع بعد فراق امتد تسعة أعوام. وكان علي في اليوم التالي البدء بمجموعة من المراجعات الروتينية في الجامعة وفي دوائر حكومية أخرى. كانت معاملات روتينية ظننت أن بإمكاني بعد انتهائها العودة لاستكمال السنة الدراسية في جامعة ستاندال، ولكن الريح جرت بما لا تشتهي سفني وحاولت بشتى الوسائل أن يسمح لي بإنهاء العام الدراسي مع طلابي في فرنسا على أن أعود نهائيا في نهاية العام الدراسي، ولكن طلبي قوبل بالرفض القاطع، وطلبوا مني إنهاء أي ارتباط عن طريق المراسلة والاعتذار. لقد أدخلني ما لم أكن أتوقعه في نوبة من الحزن امتدت لأيام حاولت خلالها إنهاء تصحيح أوراق اختبارات الطلاب التي حملتها معي، تم ذلك، وحملت الأوراق إلى المعهد الفرنسي للدراسات الشرقية في دمشق؛ وهو معهد يهتم بالدراسات العربية يستقبل الباحثين الفرنسيين على وجه الخصوص والغربيين على وجه العموم من المهتمين بالدراسات العربية الإسلامية يقصدونه لإنجاز أبحاثهم ورسائلهم في المجال. قصدتهم ورجوتهم أن يرسلوا الأوراق المصححة مع جدول بأسماء الطلاب ودرجاتهم ورسالة اعتذار للسيد ديلاند وإدارة الجامعة بينت فيها العقبات التي منعتني من العودة شاكرا لهم حسن تعاملهم وراجيا لهم وللطلبة النجاح في كل ما يبتدرون.
عدت إلى حمص وانتابتني نوبة حزن بقيت معها أياما تنتابني نوبات الحزن والقلق من ظروف لم أحسن تقديرها وألقتني العواطف والرغبة في أن تكون الأمور بلا أي تبعات قانونية علي وعلى أسرتي وكنت أقدر أن العودة دليل التزام، ولكن الصدمة كانت مؤثرة وأدخلتني في كآبة امتدت أياما. كانت إجراءات الالتحاق بالجامعة إدارية طويلة لا علاقة لها بالمستوى العلمي إلا في مستوى الكلية والجامعة.
استغرق كل ذلك وقتا وحوارات ومراجعات كانت تقتضي قطع مئتي كيلو متر في الذهاب ومثلها في الإياب من أجل نزوة تعقيد لدى موظف يقف على سبيل المثال عند مصطلحات وأفكار يستوحيها مما اعتاد عليه من حديث مصدره الروتين وثقافة التوظيف الضيقة متناسيا أنه أمام إنسان سلخ من حياته أعوام للدراسة في بلاد لا تعرف المحاباة في العلم كائنا من كان المرشح لشهادة من الجامعة التي لا تقيم وزنا إلا لما يقدمه المرشح لشهادة يوضع عليها اسم الجامعة وعليها توقيعات رموز علمية وإدارية. استغرق هذا الأمر أكثر من الوقت المفترض، وانتهى بالموافقة على التعيين. كنت إبان هذه المدة في حالة انكفاء علمي انتقل من مكتب إلى آخر لإنهاء كل ما يوفر إمكانية بناء المستقبل الحياتي. أما الجانب العلمي فقد مر بمرحلة كمون على كثرة ما خططت له من أعمال للتأليف والترجمة كنت أرسلت بعضها، وحملت معي بعضها الآخر؛ كتبا أو بحوثا مما يحتاج دراسة أو ترجمة. مضت سنتي الأولى، ولم يتغير في وضعي المادي والمعنوي ما يدعو إلى التفاؤل بحلو ل لتحسين الأوضاع الحياتية والمادية؛ ومدة الأعمال الإدارية معيد عائد من الإيفاد، وبعد التي واللتيا مدرس يحمل الشهادات المطلوبة، وإن أرادوا الرأفة بك نفسيا سموك أستاذا جامعيا بمرتبة مدرس. مضت السنة وأصبح علي الالتحاق بالخدمة العسكرية لمدة عامين، ستة أشهر منها يسمونها دورة ضباط، يحاولون فيها إفهامك أن شهاداتك تتركها خارج الثكنة العسكرية. كان من رضا الله والوالدين أن يسر لي صديق من أوائل السوريين الذين درسوا اللسانيات في أمريكا، جامعة جورج تاون، والتقى المفكر اللغوي والسياسي المشهور نعوم تشومسكي الذي ينطبق على كثير ممن يلوذون به قول الشاعر:
وكل يدعي وصلا بليلى
وليلى لا تقر لهم بذاك
إنه الدكتور مازن الوعر (1952-2008) لقيته -رحمه الله- وقد ترك ما ذكرته على ملامحي مسحة حزن واضحة، وبعد حوار امتد في مكتبتي التي أسكنتها في غرفة كبيرة في منزل يسكنه أحد إخوتي مع أسرته في دور وأخ آخر في دور علوي، كانت المكتبة صفوفا من الخشب المقوى على جدران ثلاثة، اتسعت لكتبي مرحليا.
كان الدكتور مازن -رحمه الله- بارعا في التعامل مع الفرص التي أتيحت له، ولما تكررت لقاءاتنا وعلم بعزمي على خوض مأساة الخدمة العسكرية قال لي: ما رأيك أن تقضي مدة الدورة المأساة في مكتبتك، وعند انتهائها تلتحق بعملك في الجامعة لما بقي من مدة، فأحسست أن أبواب الفرج انفتحت على مصراعيها! ولم أجب، ولكنه قرأ على وجهي علامات اللهفة فتابع؛ غدا تذهب إلى مقر حدده لي، وحدد الساعة، وسأكون هناك في دمشق ونرتب الأمور. شددت الرحل في صباح اليوم التالي مبكرا إلى دمشق إلى المكان الذي حدده ووصلت في الثامنة والنصف صباحا، كان المكتب فيما يسمى طريق بيروت انطلاقا من ساحة الأمويين نحو الغرب لا يبعد كثيرا عن نادي الضباط وقلت للقائمين على حراسة المكان لي موعد مع الدكتور مازن الوعر فسألوني عن اسمي ونظروا في سجلاتهم طلبوا من بعدها الانتظار في غرفة مقابلة.
وبعد حين وصل الدكتور ورافقني إلى مكتب يحتوي مكتبة وكثيرا من الأوراق المجموعة وأخرى متفرقة. جلس وراء مكتبه الذي تتراكم عليه الملفات وأخرج أحدها وكان ضخما وقال بعد أن أوصى بالقهوة: هذا كتاب عنوانه المقترح: الذئب في الآداب العالمية، وهو نسخة أولية مقسمة إلى فصول في كل فصل حديث عن الذئب في أدب معين، وبقي فصل عن الذئب في الأدب البلغاري؛ وتحتاج الفصول المنجزة إلى مراجعة لغوية وأسلوبية وتحقق من المعلومات في الفصول الأخرى، والمطلوب مراجعة كل ذلك وكتابة الفصل الناقص. استهواني ذلك: وأردت الاستفهام عن الوقت المتاح وعمن هو المؤلف، وأضفت أنني لا أعرف البلغارية فضحك وقال: لا تعجل علي لأننا ينبغي أولا أن نخلصك من أمور الدورة العسكرية التي ستنجر خلال مدتها المطلوبة وتبقى خلالها في مكتبتك ويمكنك التردد على دمشق لمراجعة ما تريد في المكتبة الوطنية القريبة والنوم في نادي الضباط القريب. بعد الحصول على الهوية العسكرية، وتسليم الهوية المدنية، وهذا يتطلب يوما أو يومين نعطيك بعدها هوية عسكرية لأنك الآن ستعطيني الهوية المدنية ليستخرج لك الشباب اليوم هوية مؤقتة وبعد يومين سيكون كل شيء جاهزا ونظاميا.
أحسست بكثير من القلق الممزوج بأسئلة كنت أحاول ألا أطرحها إلا على نفسي بهمس داخل الهمس، وقفلت بعد حصولي على التصريح المؤقت عقب انتظار لم يطل ودعت بعدها الدكتور مازن، وقد انتصف النهار. أردت تناول وجبة الغداء قبل أن أقفل راجعا إلى حمص ولما تم لي ذلك وعدت إلى صومعتي كما يقال وأمر الذئب يرافقني، وأفكر في كيفية حل المشكلة، وفي غمرة قلقي خطر ببالي أن صديق دراسة قضينا معا في الجامعة أعواما أصبح خلالها مذيعا في إذاعة دمشق، وهو في الأصل من مدينة تدمر: إنه الصديق محمد العبدالله الذي مر بتجربة صعبة من القلق الفكري، والضغوط المادية إبان مرحلة عمله مذيعا وطالبا في الوقت نفسه، كان ما يتقاضاه يتيح له السكن المتواضع في منطقة أبنية قديمة في وسط دمشق غير بعيد عن المبنى المركزي لجامعة دمشق؛ واسمه حي الفحامة. عانى كما أخبرني عندما التقيت به في صوفيا عاصمة بلغاريا بعد عودتي كما سيأتي.
سألت عنه بعد عودتي فعلمت أنه استقال من عمله بعد تخرجه من الجامعة وغادر إلى بلغاريا، واتصل بي إلى فرنسا يخبرني بذلك ولم ينقطع الاتصال وإن كان في مدد متباعدة. ولما عدت وعرض لي ما ذكرته. اتصلت به من سورية، وكان غير راض عن عودتي من فرنسا! وبعد حديث أخبرته أنني أود فصلا عن الذئب في الأدب البلغاري، فأخبرني أنه سينظر في الأمر وبعد يوم وبعض يوم اتصل بي ليقول إنه وجد بلغارية تعمل في المكتبة الوطنية يمكن أن تكتب الفصل بالفرنسية التي تتقنها جيدا لقاء مبلغ معقول وأترجمه إلى العربية، فطلبت أن ينظرني يوما وبعض يوم لاستشارة الدكتور مازن وضربنا موعدا ولما أخبرت الدكتور بالأمر فرح وقال موافقون على أن تسرع في الأمر.
ونقلت الموافقة لصديقي الذي عرض علي أن أطلب زيارة بلغاريا للقاء السيدة التي ستتولى الكتابة وتسليمها أجرها وقضاء بعض الوقت في العاصمة صوفيا في ضيافته. راقت لي الفكرة ووعدته بالمحاولة. كانت قد وصلت إلى الجامعة دعوة لأساتذتها لحضور مؤتمر للسانيات في رومانيا، وكان لي ابن عم درس في رومانيا وتزوج من رومانية وقد درس الطب هناك شجعني على حضور هذا المؤتمر قائلا إنها فرصة لزيارة أهل زوجته غير بعيد عن العاصمة بوخارست، وأن زوجته ستكون هناك، ويمكنهم استقبالي بعد المؤتمر وكانت المدة بين لقائي في بلغاريا والمؤتمر في رومانيا مناسبة أذهب بعد المؤتمر إلى مكان سكن أسرة زوجته الريفي الجميل وستكون هي موجودة هناك واللغة الرومانية لغة لاتينية أستطيع فهم المعنى العام للحديث فيها. أخبرت الدكتور مازن بالأمر فلم يمانع، وبعد مدة وجيزة جاءني بجواز سفر لمدة عامين وعليه تأشيرة لبلغاريا ورومانيا وحددنا موعدا للسفر حمل إلي بعد أيام تذكرة على الطيران السوري إلى صوفيا على أن أقطع المسافة بين صوفيا وبوخارست بالقطار عندما انتهي من عملي في صوفيا ومبلغ مالي يكفي لمثل هذه الرحلة. وفي اليوم المحدد ركبت الطائرة من دمشق ولما وصلت إلى صوفيا وجدت صديقي محمد بانتظاري وركبنا الحافلة إلى المدينة مع أمتعتي ثم ركبنا حافلة أخرى إلى بيته. ولنا لقاء.