أحمد بن عبدالرحمن السبيهين
عندما صدر العدد الأوّل من مجلّة «العربي» الثقافية في «الكويت»، في شهر ديسمبر من عام 1958، كتب رئيس التحرير الدكتور «أحمد زكي» ما يلي:
«باسم الله نفتتح هذا العدد الأول، ونخُطّ أول سطر يقع عليه البصر من هذه المجلة الوليدة.
وأسميناها «العربي»، وما كان اسمٌ يوافي بتحقيق ما يجول في رؤوس رجال الوطن العربي كلّه ورؤوس نسائه من معانٍ، وما تخفق به قلوبهم من آمالٍ وأماني، كاسم «العربي» في حسمهِ وإيجازه.
لقد كان جاز «للعربي» أن تتّخذ لها منزلاً في أيّ قُطرٍ من أقطار العروبة. فبغداد جازت، وجازت القاهرة ودمشق، وجازت الخرطوم والرباط وتونس. جاز كلّ بلدٍ له اللّسان العربي لساناً، والبيان العربي الناضج بعروبته بياناً.
ثم تشاء الأقدار الإلهية أن يكون منزل «العربي» بلداً من أصغر بلاد العرب حجماً، وليس بأصغرها خطراً، فكان الكويت «للعربي» منزلاً، وخير ما شاءت الأقدار».
وفي عيد الميلاد الأول للمجلّة، في عددها الصادر في شهر ديسمبر من عام 1959، كتب رئيس التحرير:
«نحن نكتب صراحةً للعربي الذي يعيش في القرن العشرين، ويرجو أن يتقدّم به الزمان، فيعيش في القرن الحادي والعشرين.
ونحن نُحاول أن نُلقي في روعه، خطورة العيش وجمال ممارسته في هذه القرون، ونُصفّف له على مائدة «العربي» ألواناً من الثقافة، إذا هو أضافها إلى ألوانٍ كثيرة من الثقافات الأخرى، أنزلتهُ من زمانه المكان المكين، فالدّنيا تتغيّر وتتطوّر مع الزمان، ولا بُدّ معها أن يتطوّر الإنسان.
إن العيش الذي يصفه لنا الآباء والأجداد، كان طريقهُ سهلاً، وريحهُ كنت رخاءً، وعُدّة الكفاح فيه كانت بسيطة قليلة.
وغير ذلك عيش اليوم، فالناس فيه أكثر ازدحاماً، وطريقه طالت وتشعّبت، وآلة الرزق قد تعقّدت، فليس يُديرها غير يد الصُنّاع.
فالمدرسة تُعطي التربية، والجامعة تُعطي المهنة، والصحافة تُعطي جوّ الزمان، وهي تتقدّم على زمانها دائماً.
إن الصحافة الحديثة رائدة الأُمم في كلّ مجالٍ من مجالات الحياة، ومجلّة «العربي» تُحاول أن تقوم بنصيبها المتواضع في شَغل العقول بما ينفع، وفي شحذ الأفهام..».
وكما تبيّن من كلمات رئيس التحرير، فقد آثرتْ المجلّة الوفاء للّغة العربية وجمالُها وعبقريّتها في الفنون الإبداعية، منذ صدور عددها الأول، ولا تزال منبراً لاحتضان الأدباء والمُفكّرين من الكُتّاب والشُعراء والنُقّاد العرب.
وعلى سبيل المثال، فقد كتب في الأعداد الأولى من المجلّة عددٌ كبير من مشاهير الأدب وفطاحلة الفِكر والثقافة، من أمثال الأدباء: عبّاس محمود العقّاد، وميخائيل نُعيمة، وساطع الحُصَري، ود. شوقي ضيف، وبنت الشاطئ، وأحمد عبدالغفور عطّار، وعبدالسلام العُجيلي، ود. سُهير القلَماوي.
وفي مجال القصّة والرواية: نجيب محفوظ، ومحمود تيمور.
والشُعراء: عُمر أبو ريشة، وأحمد الصافي النّجفي، ونازك الملائكة، وفدوى طوقان، وأخيراً نزار قبّاني الذي خصّ المجلّة بنشر قصيدته الشهيرة «كلماتٌ».
إن «العربي» مشروع ثقافي للإنسان العربي، كما أنها مُنتدى فِكري لكلّ المُثقّفين العرب في شتّى الميادين، وهي نافذة يُطِلّ منها القاريء العربي على ثقافات وحضارات الشعوب الأخرى، من خلال الاستطلاعات المنوّعة، لمُختلف البُلدان عبر صفحاتها.
وقد أصدرت مجلّة « العربي» في عام 1984، سلسلة «كتاب العربي» الفصلية، وهو عبارة عن كتاب مُستقلّ، يشمل إبداع كبار الكُتّاب ومُساهماتهم التي سبق نشرها على صفحات المجلّة.
وكذلك توجّهت «العربي» إلى تقديم المعلومة الهادفة، المُقترنة بالتشويق والترفيه، لشريحة الأطفال العرب والناشئين، عبر مجلّة «العربي الصغير»، والتي صدر العدد الأول منها في شهر فبراير من عام 1986.
وأصدرت «العربي» أيضاً مجلّة مُستقلّة لنشر الثقافة والوعي العلمي، وهي مجلّة «العربي العلمي»، وتتكوّن من عدّة أبواب تطرح مواد علمية للنقاش، وتُقدّم رؤية علمية مُستقبلية لوضع هذه المواد وظواهرها ومُشكلاتها.
إن مجلّة «العربي العلمي» تُقّدم الاكتشافات العلمية الحديثة، فيما يخصّ علوم التكنلوجيا والإنترنت، إضافةً لعلوم الفلَك والطِبّ، وأحدث ما توصّلت إليه دور الأبحاث العالمية في هذه المجالات.
وبالعودة للحديث عن مجلّة «العربي»، فإن قارئها يجد مُتعةً جمالية للأعين، التي ترتاح لجماليات الإخراج المُبهر، والورق الفخم الصقيل، والصور الملوّنة، واللوحات المرسومة، إلى جانب المتعة الذهنية له في القراءة، فجسّدت المجلّة حقيقة عهد الصورة، الذي يعتمد على البصر والبصيرة.
تقول الدكتورة «نورية صالح الرومي» في إحدى مقالاتها: «لقد سايرت مجلّة «العربي» التطوّرات المختلفة، فحافظت على رزانتها وتبويبها وخطّها المتوازن، عندما جمعت بين الأصالة والتجديد، والتُراث والمُعاصرة، للانطلاق إلى عالمٍ استشرافي، من خلال قضايا التنمية الثقافية، والعولمة، والهويّة العربية».
إن «العربي» مجلّة رائدة في بحر الثقافة، وقد كان ولا يزال لها إسهاماً كبيراً في بناء ثقافة أجيال عديدة، منذ سنّ الطفولة المتقدّمة والصِبا، وما بعدها من المراحل العُمرية للإنسان العربي؛ فوجود أعداد المجلّة في المكتبات المنزلية، تُشعر أفراد العائلة بالأٌلفة نحوها وتصفّحها، لميلهم إلى حُبّ الاستطلاع أولاً، والاهتمام بصور الاستطلاعات في البداية، ومن ثم توجيههم وتشجيعهم على القراءة؛ تلك العادة الحميدة التي تستمر مع الطفل إلى آخر العُمر.
وفي الختام، وكما بدأنا هذا المقال باقتباسات من أحاديث أول رئيس تحرير للمجلّة، عن بداياتها وخُطط نشأتها، منذ 66 عاماً، فإن رئيس التحرير الحالي، الأستاذ «إبراهيم المليفي» تحدّث عن مستقبل المجلّة وخُطط مواجهة التحديات المُستجدّة، في مُقابلة صحفية قال فيها:
«إن ظهور مجلّات ثقافية كثيرة، منها ما يُحاكي «العربي» في محتوياتها، لم يؤثّر في توزيع المجلّة، الذي تجاوز رُبع مليون نسخة، ولكن القراءة عموماً تأثّرت مع دخول التلفزيون وشبكة الإنترنت لاحقاً، الأمر الذي أوجد وسائل جديدة لاكتساب المعرفة.
إن مجلّة العربي ومطبوعاتها، استشعرت المستقبل باكراً، ومنذ عام 2002 أطلقت موقعها الإلكتروني، والذي أكسبها ميزة التواصل مع الأجيال الجديدة، وعدد هائل من قُرّائها الذين هاجروا إلى بُلدان بعيدة.
والمجلّة تشهد نقلة نوعية، تمثّلت في انتقال الإشراف عليها من «وزارة الإعلام»، إلى «المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب»، وأستطيع القول أن القادم من الأيام يحمل الكثير من التحوّلات الإيجابية، والتي ستُعزّز من استمرار وتميّز مجلّة «العربي» ومطبوعاتها».