الثقافية - كمال الداية/ تصوير - أحمد الغانم:
استضاف مقهى دفعة 89، يوم الأربعاء 11 ديسمبر 2024م، الدكتور: محمد بن عبدالعزيز الفيصل، أستاذ الأدب والنقد المشارك في كلية اللغة العربية، والمتخصص في المقالة، في أمسية أدبية حضرها جمع من الأكاديميين، والمثقفين والمهتمين، وهذه المحاضرة ضمن مبادرة الشريك الأدبي التي تدعمها هيئة الأدب والنشر والترجمة بوزارة الثقافة، وفي هذه الأمسية تحدث د.الفيصل، عن المقالة ومستقبلها، وعن فنياتها الكتابية، وهو مؤلف أول دراسة فنية للمقالة في الأدب السعودي المعاصر، وصدر هذا الكتاب عام 1443هـ، بتقديم العلامة الشيخ أبوعبدالرحمن بن عقيل الظاهري.
وقد افتتح الأمسية الأستاذ: محمد العبدالوهاب، بالترحيب بالضيف وبالحضور، وقدم نبذةً عن الضيف وسيرته العلمية والعملية، وبعدها انتقل اللاقط للضيف الذي افتتح حديثه بالتطرق إلى الاختلاف الذي يحيط بمفهوم الأجناس الأدبية، وما تبعه من آراء تطالب بإلغاء الحدود بينها، يقول: إن هذا الاختلاف حول هذا المفهوم يوقفنا أمام مسألة مهمة، وهي عدم دقة الحدود بين هذه الأجناس، خصوصًا السردية منها، وهذا ما يفسر وجهة نظر تودوروف حيال هذه القضية، حين تساءل عن أصل الأجناس الأدبية؟ ومن أين جاءت؟ لتأتي إجابته عن هذا التساؤل مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بموضوع تداخلها واتصالها ببعضها، يقول: «بكل بساطة تأتي من أجناس أدبية أخرى، والجنس الجديد هو دائمًا تحويل لجنس أو لعدة أجناس أدبية قديمة: عن طريق القلب أوالزخرفة أوالتوليف»، وهذه النظرة إلى الأجناس الأدبية وطريقة تشكلها وارتباطها ببعضها تكشف جانبًا مهمًا حول طبيعة هذه الأجناس وطريقة ارتباطها ببعضها، وأن السمات متداخلة فيما بينها، حيث يؤكد تودوروف أجناسية النص في كل حالاته إذ يقول:»والنص اليوم هو أيضًا يكون جنسًا في أحد معانيه، يدين للشعر بالقدر نفسه الذي يدين به للرواية»، وهذا الارتباط الذي أشار إليه في حديثه يفتح بابًا أمام الدارسين لتبيان هذا التداخل لمختلف الأجناس ومقداره وطريقته، وخصوصًا إذا عرفنا أن «الأجناس هي طبقات من النصوص»، ولعل هذا التبرير الجريء يكشف لنا طبيعة التداخل بين هذه الأجناس، وأن تكوّنها قائم على ارتباطها ببعضها، وهذا الاتصال هو أبرز أسباب التماس فيما بينها.
بعد ذلك تطرق إلى المقالة فقال: المقالة إحدى الأجناس النثرية، التي أصبحت تُمثّل جنسًا مستقلاً عن بقية الأجناس السردية الأخرى التي تشترك معها في بعض السمات الفنية، ولعل من أبرز العوامل التي جعلت المقالة من أكثر الأجناس النثرية حضورًا في القرن الخامس عشر الهجري هو كثرة استعمالها حيث إن ظهور الصحف والمجلات بمختلف أنواعها أكسبها رونقًا خاصًا، فأصبحت المقالة محورًا مُهمًا في نطاق الأجناس النثرية، فكثر من يكتب المقالة من المختصين وغيرهم، وبناءً على ذلك زاد اهتمام النقاد بها، وتضاعفت الدراسات التي تطرقت إليها، فأصبح للمقالة موطئ قدم في خضم الأجناس النثرية التي تملأ أوعية النشر على اختلافها وتنوعها.
إن الظهور الكثيف للمقالة واكبته دراسات وصفيّة، ولكن لم تواكبه دراسات فنية عميقة تكشف تفاصيل هذا الفن سوى دراسات محدودة، وخصوصًا إذا ما قارنا ذلك بالدراسات التي واكبت فنّي القصة والرواية، وفي نظري أن الطريق ما زال طويلاً لإشباع هذا الجنس النثري بالدراسات التي تتناول السمات الفنية التي ميزته عن غيره من الأجناس الأخرى، ولعل الجدلية التي تحيط بالمقال تنطلق من الجدلية التي تحيط بهذا الجنس، وهذا ما أشار إليه بارت أن «سمة الفوضى قارّة في المقال»، وهذه الفوضى التي تطرق إليها تتجلى لكونه «يستعمل طريقةً هي منهجيًا غير ممنهجة»، كما يشير تودوروف.
مرت المقالة في نشأتها بمراحل متعددة من حيث التكوّن والتحوّل والتطوّر، لتُمثل المقالة بحضورها الكثيف في الأدب السعودي، أنموذجًا لجنس أدبي حديث من الناحية الفنية إلا أن دلالتها اللغوية ليست جديدة، حيث ورد في معجم لسان العرب الإشارة إلى المقالة، ومما ورد «ما أحسن قيلك وقولك ومقالتك ومقالك»، وهنا تتجلى بعض الأطر المرتبطة بهذا الجنس بشكل مباشر في بعض جوانبه اللغوية على اعتبار أن المقالة فن قولي، ليرتبط هذا المفهوم الحديث للمقالة بالدلالة الفنية المرتبطة بها وبممارستها؛ حيث يشير الأستاذ الدكتور: عز الدين إسماعيل، إلى هذا الجانب حين يربط بينها وبين الصحافة، يقول: «والحق أن تاريخ المقالة عندنا يرتبط بتاريخ الصحافة، وهو تاريخ لا يرجع بنا إلى الوراء أكثر من قرن ونصف قرن بكثير، وبذلك يكون المقال قد دخل في حياتنا الأدبية بعد أن أخذ في الآداب الأوربية وضعه الحديث».
وعبر ممارستي لكتابة المقالة وإجازتي لها عبر عملي في الصحافة، ودراستي لها أنها: نسيج قَوْلِيّ، لُحْمَتُهُ الألفاظ المعجبة وسَداهُ العبارة الهادفة، تَستدرجُ القارئ من وَهْدَةٍ إلى رَبْوة، فيظل المتلقي يَسْتَشرف ما وراء الأكمة، عَلَّهُ يظفر بما كان يتطلع إليه من ثمرة يجنيها أو زهرة يقطفها.
وتستهل المقالة بمقدمة تفتح شهية القارئ للقراءة، مرتبطة بالعنوان المختار، فإذا أفرغ الكاتب لمح رؤيته في العتبة المفضية إلى قصده، وشعر أن الطريق مُهِّد، انطلقت عبارته إلى هدفه المنشود، فَفَتَّقَ فكرته في تَجْزِئةٍ تبسط مراد قوله، مُبْرِزًا كل جزء منها في ثوب قشيب من تشبيه بديع واستعارة نادرة وكناية هادفة، فإذا أعطى كل جزء حقه وشعر أن فكرته وصلت إلى القارئ بدون إلحاح ابتعد عن تكرار الفكرة، وتجانف عن أسلوب الوعظ إلى أسلوب التشويق، فإذا شعر أنه أصاب الهدف انسل في تُؤَدَة الرائد إلى خاتمة تضم لمحات ما أدى من القول، فتكون قُفْلاً لمقالته يُشعر بانتهاء الفكرة، وإن رغب في ترك الباب مواربًا عَلَّ مقالةً أخرى تكون صلة لهذه، تغافل عن إحكام القفل، فاستطرد في عبارته، مُتَلاعبًا بالألفاظ القابلة للتأويل، بحيث يختفي من القارئ على حين غرة.
وإذ أشرت إلى المقالة هنا فإنني أقصد المقالة التي تندرج ضمن الأدب السعودي، وتتوافر فيها الشِّعرية التي تجعل المقالة موطئ قدم في خضم الأجناس الأدبية، ولذا فإن أدبية المقال هي ما تتيح له الوصول إلى مرحلة الشِّعرية، ويظل المتلقي هو الفيصل في ذلك، يقول الأستاذ الدكتور: زكي نجيب محمود: «نريد للقارئ أن يشعر وهو يقرأ المقالة الأدبية أنه ضيف قد استقبله الكاتب في حديقته ليمتعه بحلو الحديث، لا أن يحس كأنما الكاتب قد دفعه دفعًا عنيفًا إلى مكتبته ليقرأ فصلاً من كتاب».
وقد حظيت المحاضرة بمداخلات لعدد من الأكاديميين والأدباء والمثقفين منهم: أ.د.صالح معيض الغامدي أستاذ الأدب والنقد وأستاذ كرسي الأدب السعودي بجامعة الملك سعود سابقًا، وأ.عبدالله الحسني، مدير تحرير صحيفة الرياض للشؤون الثقافية، وأ.د.حصة المفرح، أستاذ الأدب والنقد بجامعة الملك سعود، وأ.د.أمل التميمي، أستاذ الأدب والنقد بجامعة الملك سعود، أ.د.أحمد إسماعيل عليان، أستاذ الأدب والنقد بجامعة الإمام محمد بن سعود، وأ.فهد الأحمري، وأ.عوضة الزهراني، وأ.محمد العتيبي، وأ.سهم الدعجاني.