حمد سعد المالك
خلال إحدى رحلاتي إلى إحدى الدول الأوروبية، وجدت العديد من أفراد الشعب ممسكاً بكتاب بين يديه يقرأ فيه، سواءً في انتظار الباص أو القطار أو أثناء جلوسهم في المقاهي. ما لفت انتباهي هو أن القراءة أصبحت جزءاً لا يتجزأ من حياتهم اليومية، بغض النظر عن المكان أو الوقت. والذي لفت انتباهي كثيراً أيضاً اهتمامهم بالقراءة من الكتب الورقية في فترة انتشار الكتاب الرقمي والمكتبات الرقمية واستحواذها على جزء كبير من سوق القراءة. ففي حين أن التكنولوجيا قد سهلت الوصول إلى الكتب عبر الإنترنت وأتاحت للقراء تحميل الآلاف من الكتب في لحظات، إلا أن معظم هؤلاء الأفراد في تلك الدول لا يزالون يفضّلون الكتاب الورقي.
حقيقةً أن الكتاب الورقي والكتاب الرقمي كلاهما لهما مكانتهما في عالم القراءة. في البداية، يجب أن نفهم أن التقدم التكنولوجي قد قدم العديد من الفوائد التي جعلت من الكتاب الرقمي أداة شائعة وسهلة في متناول الجميع. فيمكن للقراء الآن أن يحملوا مكتبات ضخمة في أجهزتهم الذكية، ويصلوا إلى آلاف الكتب بنقرات قليلة. إذاً يأتي هنا تساؤلات مهمة تساورنا في كل مؤتمر أو ورشة أو حديث عابر نتحدث فيه عن مستقبل المكتبات أو القراءة: هل ستظل الكتب الورقية تحتفظ بمكانتها في المستقبل، أم أن التكنولوجيا ستؤدي إلى استبدالها أو انقراضها بسبب انتشار الكتب والمكتبات الرقمية؟ ولماذا لا يزال عدد من القراء مهتمين بالكتاب الورقي ولم يواكبوا التوجهات الحديثة في استخدام التقنيات الرقمية؟
أحاول أن أبتعد عن السلبية في هذا الموضوع، لكن الحقيقة القاسية هي أن المكتبات التجارية، التي كانت المصدر الأساسي للعديد من الكتب التي بين أيدينا، في طريقها نحو الزوال أو أن جزءاً كبيراً منها قد انتهى بالفعل. ففي تحقيق صحفي نشر في الجزيرة الثقافية في تاريخ 27 يناير 2023م بعنوان: «إغلاق مكتبة الصميعي في عنيزة.. هل هي بداية لانقراض المكتبات التجارية؟» بقلم علي بن سعد القحطاني، تطرق فيه إلى إغلاق مكتبة تجارية حيوية كانت تعتبر النبض لقراء الكتب الورقية في منطقة القصيم. وقد أشار التحقيق إلى تراجع الإقبال على المكتبات التقليدية بسبب تحول الناس نحو الكتب الرقمية، وهو ما يهدِّد بوجود هذه المكتبات في المستقبل القريب. كما ذكر التقرير أن عدداً من عشاق الكتب الورقية أعربوا عن حزنهم الشديد على إغلاق مثل هذا النوع من المكتبات والتي ستؤدي إلى اختفاء الكتب الورقية.
ولا ننسى التأثير الكبير الذي أحدثه إغلاق مكتبة الساقي في لندن على عدد كبير من قراء الكتب الورقية. ففي عام 2022م نشر خبر عن إسدال الستار عن هذه المكتبة العريقة التي لها 45 عاماً في نشر الثقافة العربية. سبب الإغلاق كان نتيجة للتحديات الصعبة التي واجهها مؤسسا المكتبة، الزوجان كاسبار، من أزمة كورونا وقلة الإقبال على الكتب الورقية. فقد كانت المكتبة تُعتبر منارة للثقافة العربية في قلب العاصمة البريطانية. وقد لعبت دوراً مهماً في تقديم الأدب العربي المعاصر والتراث الثقافي العربي لجمهور واسع من العرب وغير العرب في لندن. فلا بد أن نعترف أن هناك فئة من القراء لا يزالون مهتمين بالكتاب الورقي على الرغم من إغلاق العديد من المكتبات التجارية وحزنهم الشديد على هذا الإغلاق.
هذا الاهتمام يعود إلى عدة عوامل نفسية وحسية. أولاً، يشعر العديد من القراء أن الكتاب الورقي يوفر تجربة حسية لا يمكن للأجهزة الرقمية أن تحاكيها. من لمس الورق إلى رائحة الكتاب، يشعر البعض أن هناك نوعاً من الإحساس الشخصي الذي يفتقده في الكتاب الرقمي. كما أن الكتاب الورقي يعد بمثابة «ملاذ» للتركيز العميق؛ فهو لا يتعرض لمقاطعات التنبيهات والإشعارات التي تملأ شاشات الأجهزة الذكية، ليساهم في تجربة قراءة أكثر هدوءاً. ثانياً، يرى بعض القراء أن الكتاب الورقي يحمل طابعاً ثقافياً وتاريخياً لا يمكن للكتب الرقمية أن تحل محله. هناك نوع من الانتماء للكتاب الورقي، الذي يظل موجوداً كشيء ملموس يمكن الاحتفاظ به على الرفوف، وهو ما يضيف قيمة معنوية للقراءة. لهذا السبب، يشعر الكثيرون بأن الكتاب الورقي له قيمة تتجاوز محتواه المعرفي، ليصبح جزءاً من التراث الثقافي والذاكرة الشخصية.
ختاماً، يتضح من هذا الحديث أن الكتب، سواءً كانت ورقية أو رقمية، تحمل أهمية كبيرة للقارئ العادي أو الباحث. كل نوع منها يقدم مزايا وخصائص تتناسب مع احتياجات القارئ المختلفة. فالكتاب ليس مجرد مجموعة من الكلمات، بل يحمل بين طياته ذكريات وأحاسيس تربطنا بتاريخنا وتراثنا الثقافي. قد تتغير طرقنا في القراءة مع مرور الوقت، لكن شغفنا بالمعرفة سيبقى حياً، سواءً كان عبر الكتاب الذي يحمل رائحة الماضي أو الشاشات التي تفتح أمامنا آفاق المستقبل.