إن التواصل الحضاري عبارة عن تفاعل أفكار الشعوب بعضها ببعض، وتكمن قوة الحضارة بمدى تأثيرها وتأثرها بالحضارات الأخرى. ويدل على ذلك الأساليب الفعالة التي اتخذتها في إيصال حضارتها إلى الحضارات الأخرى وهيأت المناخ المناسب في المجتمعات الإنسانية لتقبلها.
يقول السيد محمد الشاهد: إن التأثُّر دليل حيوية المتأثر واستعداده، والتأثير دليل قوة المؤثِّر وقبوله؛ فكل فكر حي يتأثر بما سبقه وبما يعاصره، ويمكنه أن يؤثر فيما يعاصره كذلك أو يلحقه، إذا توفرت في هذا الحي عناصر القوة، ووجد في المتأثر شروط التأثُّر، مثل الانفتاح والتمكن من لغة المؤثِّر وثقافته وفكره، بالإضافة إلى القوة الذاتية الكامنة في المُثُل والمبادئ والنظرة المنصِفة للحضارات الأخرى المستدعية للتأثُّر القابلة للتأثير، دون اللجوء إلى الكيل بمكيالين في تصدير هذه المُثُل والمبادئ، بحيث يراد لها أن تقتصر على اتجاه واحد يؤثر ولا يتأثر، يعطي ولا يأخذ، بل ربما قيل: يُمْلي ولا يستملي، كما هو مسار العولمة اليوم، ودون التنازل عن الثوابت التي هي العامل الحاسم في رحلة التأثير، كما هي العامل الحاسم في الدعوة إلى التأثُّر.
إن الحضارة الإسلامية في قرونها الأولى لم تُغفِل هذا البُعد، فاستأنست بمفهوم التعارف بين الشعوب، بحكم أن التعارف بين الأمم هدفٌ من أهداف هذا الوجود، واستعانت بالحضارات المجاورة المعاصرة والسابقة، لا سيما في علوم الدنيا، وكانت الاستعانة مباشرة أو عن طريق السريان الذين كوَّنوا من أنفسهم ومِن مدارسهم ومكتباتهم جسرًا عبرت منه ثقافة الروم والفرس إلى المسلمين إلا أن تأثر المسلمين بالحضارات المجاورة كان مرتكزًا على الإفادة من العلوم الطبيعية والتطبيقية والبحتة (علوم الدنيا) وبعض من الآداب التي تمت ترجمتها إلى اللغة العربية، ونسبت إلى الآداب العربية (ألف ليلة وليلة، وكليلة ودمنة، والسند هند نامه نماذج).
ولا عبرة بتجاهل بعض مؤرخي العلوم الغربيين لهذا العامل المهم في التأثُّر والتأثير، ومن ثم تجاهل بعض مناهج التعليم العام في المدارس الأوروبية، وبعض الإسهامات الاستشراقية في تاريخ العلوم والآداب، التي تعمدت تجاوز الحضارة الإسلامية في التأثير، وسعت إلى حصر الحضارة في أوروبا من اليونان إلى أقصى الغرب، وتؤكد دراسة تراث الإنسانية الباقي أن التفاعل بين الشعوب والثقافات والحضارات لم تخفِتْ أنواره، وأن الإسلام وثقافته العربية أثَّرَا أيما تأثير في العمران البشري، فتبنَّى مفكرون ومبدعون منصفون إسهام العرب والإسلام الحي في حضارة الإنسان.
ويمكن أن تعود فكرة الاتصال الحضاري والمدني والثقافي مع الغرب إلى ما قبل الإسلام بكثير؛ إذ إن العرب كانوا على اتصال بالبيزنطيين واليونان والفرس والهند قبل الإسلام، واتخذ الروم الغساسنة من العرب حليفًا لهم؛ لوقايتهم من بقية العرب في جزيرة العرب، كما اتخذ الفرس من المناذرة العرب حليفًا لهم؛ لوقايتهم من العرب كذلك،وبغض النظر عن الغرض من هذا الاحتكاك الثقافي الذي قيل عنه: إنه إنما قام للدفاع عن الإسلام بالتعرف أولًا على الثقافات الأخرى المعاصرة، فإنه كانت هناك في القرون الأولى للإسلام صلات ثقافية مزدهرة بائنة الازدهار في القرنين الثاني والثالث الهجريين.
وقد كانت لدى العرب في جزيرة العرب رحلة الصيف التجارية «الإيلاف» إلى ديار الشام، التي كان يحكمها البيزنطيون، وصحب هذه الرحلات احتكاكات ثقافية وحضارية، ولا يقتصر الأمر في العلاقة على العرب، بل إن أمم الشرق كالفرس والهنود والصينيين كانوا على علاقة بالغرب الأدنى «الإغريق» الذي لم يكن يرى نفسه أنه غرب محضٌ، كما أنه لم يكن يرى نفسه أنه شرق كذلك، وإن صنَّفه الغربيون على أنه الشرق الأدنى، فلم «يكن الانقسام بين الشرق والغرب حادًّا حقيقةً مثلما بدا لاحقًا لكثير من المفكرين والباحثين الأوربيين».
واتصل المسلمون بالبيزنطيين مع انطلاقة الإسلام من خلال الوفود التي بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأمم المجاورة يدعوها إلى الإسلام، ثم قامت مناوشات بين المسلمين والروم في آخر أيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وخلال الخلافة الراشدة، مما هو معلوم في مصادر التاريخ الإسلامي.
فألقى هذا الأسلوب في الاتصال بظلاله على هذه العلاقات الحضارية إلى اليوم، بحيث لا تكاد تقف على منتج فكري، غربيًّا كان أم شرقيًّا، إلا ويعطي هذه المدة الطويلة اهتمامًا في تأثير الشرق على الغرب، ثم تأثير الغرب على الشرق، بما في ذلك إسهامات جورج فيلهم فريدريش هيجل (1770 - 1830م) وأزوالد شبنجلر (1880 - 1936م) وأرنولد توينبي (1889 - 1975م) واليكسيس كارلايل؛ إذ لم تقتصر العلاقة بين الشرق والغرب على الحروب والمناوشات، بل صحِب ذلك تبادل ثقافي وحضاري ومدني، برز فيه عامل التأثُّر والتأثير بوضوح،واستمرت التبادلات الح ضارية بين المسلمين وغير المسلمين من الشرق الهندي والفارسي والغرب البيزنطي، اللذين بدأت العلاقة بينهما قبل 490 قبل الميلاد، حين هزم الإغريق الفرس في معركة الماراثون.
ومما لا شك فيه أن ما نراه اليوم من هوة فاصلة تزداد فجوتها بين الغرب والعالم الإسلامي يوما بعد آخر، ما هو إلا نتاج معطيات التاريخ وتراكمات الواقع المتردي الذي تعيشه الأمة الإسلامية، وأن صيرورة هذا التدني في الفهم السقيم للإسلام مرده إلى العوائق التي ساهمت في انحطاط منظومة المجتمع العربي والإسلامي المعاصر من جراء المد الاستعماري الذي كبل سبل الانعتاق داخل الضمير الحي للمجتمع، كما أن حالة التردي هذه ليست قدراً مفروضاً علينا، لأننا نمتلك مؤهلات الريادة ومقومات النهوض، كما أن حضارتنا أحاطت بزمام المدنية الإنسانية في بعدها العقدي والحضاري، فما دامت رسالتنا عالمية لكل البشرية لماذا تعثر القائمون وتراخوا في تقديم نفائسها ومكنونها إلى العالم؟
————————
* اعتمدت هذه المقالة على عدد من المصادر والمراجع أهمها الصيد أبو ديب. من مظاهر التأثر والتأثير في الفكر العربي المعاصر: نظرات في تقسيمات المستشرقين ومؤرخي العرب لتاريخ الأدب العربي - مجلة كلية الدعوة الإسلامية.
** **
- محمد الخنين