علي حسين (السعلي)
طرح الدكتور صالح بن عويد الحربي، أستاذ النقد المقارن في كتابه (أوجه مختلفة أسئلة الهوية وتحولاتها في الشعر السعودي مسألة مهمة رأيا جديداً في قضية الهوية
[ وهو النظر إليها باعتبار تقسيمها إلى هويات كبرى وصغرى، فالشاعر في هذا الزمن يعي انتماءاته المختلفة، ويعبر عنها بطرائق مختلفة كذلك. فالوطن يمكن النظر إليه باعتباره هوية كبرى ينتمي إليها الشاعر ويحبها ويدافع عنها، ولكنه أيضاً يحتفي بانتماءاته وهوياته الصغرى التي تندرج تحت مظلة الوطن الهوية الكبرى.
على أن نظرية الهويات الصغرى قابلة للتطبيق في دراسات مشابهة وضمن هويات مختلفة، فكثير من مناطق وطننا الكبير تبدو فيها الهويات الصغرى واضحةً ومثرية ،فالنخلة تظهر كهوية أحسائية عظيمة، كما أن القصائد التي تقال في نجد، أو الحجاز، أو الرياض أو جدة أو أي منطقة من وطننا يمكن أن توضح هوية صغرى مميزة قابلة للدراسة وبيان نظرة الشاعر لها، وكيف ربطها في إطار الهوية الكبرى الوطن.
وأخيراً، تأتي الهوية المتخيلة، وهي البداوة كما جسدها الشعراء الشباب، الذين لم يدركوا البداوة الحقيقية، ولم يعيشوا تفاصيلها، ولم يكن لهم منها إلا ما يرويه الآباء والأجداد، وما تقع عليه العين من زيارات عابرة للصحراء. ولكنهم يحملون الصحراء في أرواحهم والبداوة في هوياتهم، فهم يقابلون بها العالم ويعرفون بها أنفسهم في أي مواجهة مع الآخر المختلف.
ولكن أية بداوة تلك التي يعبرون عنها؟ إنهم يتحدثون عن بداوة تختزنها خيالاتهم، إذ لم يسعفهم واقعهم المزدحم الحديث في معايشتها ومعرفتها، ولذا، كانت البداوة في حضورها في أشعارهم ممزوجة بكثير من الخيال، بل إن صورة البداوة والنظر إليها كهوية تتطور لدى هؤلاء الشعراء، فكلما ابتعد العهد بالبداوة الحقيقية؛ امتلأت الذاكرة بالثقوب ، ونسيت التفاصيل، وذهب من الساحة الذين عاشوا البداوة وعرفوها عن قرب، فلا يجد الشاعر الشاب من البداوة إلا العشق الغامض في داخله لهذه الصحراء ولكل ما يتصل بالبادية بنسب، فيضطر أن يتجه لثقوب الذاكرة بكثير من الخيال.
ولذا جاءت البادية في أشعارهم هوية متخيلة. وكلما طال العهد بالبادية لجأ الناس إلى خيالهم في الحديث عنها. وستظل البادية هويةً مثيرة لكثير من شعراء هذا الوطن، وستظل ميداناً خصباً لدراسات أخرى]
انتهى كلام د.صالح الحربي
من هنا انطلقت من تعريف الدكتور صالح في الهويّة المتخيلة في عرض (من.. خوليا ) لسامي الزهراني مطبقا ذات المنهج الذي اتخذه د. صالح في دراسته التحليلية ولكن من منظور مسرحي.
- اهمية الدراسة.. ولماذا يستحق النظر.. ولماذا اخترته ؟
الدراسة تكمن في الهويّة بين مكانين مختلفين تماما، والأغرب أن تلك المجموعة لم تعش بمكان ولادة ونشأة مستشفى العيادة النفسية، بل دخله مريضا بينما هو في الحقيقة يتخيل مكانا آخر ليس فردا بل مجموعة من المرضى اتفقوا أن يختاروا لهم هوية صغرى داخل الهوية الكبرى، مرتكزا على ما يرويه ويسمعه من مجموعته ويتخيلون دولة داخل مستشفاهم، ومن هنا جاء عرض منخوليا للتعبير صراحة عن هذه الهوية المتخيلة لدى الكاتب عباس الحايك، فهو بنى نصه المسرحي على شيء متخيَل تماما؛ لذا جاءت كلمة من خوليا وكأنه تعبير ضمني عن احتياج المرضى النفسيين لمكان وفي نفس اللحظة لشيء يتخيلونه اسما.. وذاتا .. وجسدا.
مشكلة الدراسة
تكمن في تحديد هذه الهوية المتخيلة ضمن العرض وليس النص باعتبار العرض إبداعا آخر مختلفا عن النص فحكمنا على العرض وفي فصولها ابتداء وانتهاء..
أسئلة البحث
من هم منخوليا، وما صفاتهم ولماذا تخيلوا دولة لهم؟ وهل هناك صوت داخلي بالعرض وخارجي ؟
ماذا يخبرنا به العرض المسرحي ؟
والأن نفصّل في قراءتنا النقدية اللغوية والمفردات والدلالات ومعانيه من خلال العرض المتخيل لهؤلاء المجانين:
الشخصيات وعلاقتهم مع بعض
- الأماكن وارتباطها بمكانين مختلفتين بدولتين..
- العنوان وعلاقته بمنخوليا
الثيمة التي أثقلت العرض بحمولات التخيّل
الهويّة المتخيلة بالعرض من قلق وصراخ صامت مشوبا بالفرح والحزن وعلاقتها بالعنوان من خلال استحداث دولة جديدة واستباق الأحداث..
وأخيراً القيمة والهدف
الثيمة التي يحملها العرض ولغتها:
البحث عن الهوية المتخيلة فهم مجموعة من اختلاط الجنسيات اجتمعوا في مكان واحد فرضا لا اختيارا، وانطلقوا في تخيلهم النفسي والخارجي من ملامهم في تخيل مكان آخر باستحداث وطن آخر واقعا وجيشا وجنودا ورئيسا ووزيرا.. وهكذا.
وهنا كانت اللعبة الحقيقية عند المخرج في إيهام الجمهور بأن كل ما يرونه حقيقي، وليس القائمون عليه مجانين.. هل نجح؟.. هذا ما سنعرفه لاحقا.
« من .. خوليا»
تجربة إخراجية مختلفة مع طاقم عمل جديد وفي مدينة أخرى غير مدينة الطائف، أول تجربة إخراجية مع طاقم عمل مختلط نساء ورجال، أول عمل من إخراج الفنان سامي الزهراني مع مؤلف جديد لمسرح الكبار، وضمن طاقم العمل ممثل من ذوي الاحتياجات الخاصة.
- إنتاج 2024
- تأليف: عباس الحايك
- اخراج سامي الزهراني
- طاقم العمل التمثيلي :
سمير اليامي، مؤمن زيدان، محمد الشايب، إيمان بشناق، جواد سامي، نواف عزب، دينا محمد، محمد لادن.
طاقم العمل الفني:
مساعد مخرج / عصام حوباني
إضاءة / شاكر بك
ديكور / عبدالله العوفي - نجاة - ريان
أزياء / عبدالله الفرهود - نجاة
مؤثرات صوتية / محمد عقيل
إنتاج / عبدالله التركي
إدارة إنتاج/ عبدالله الفرهود
مساعد إنتاج / جومانا - دان
المفردات والدلالات ومعانيها من خلال اللغة
العرض : لغته شاعرية.. رومانسية علاقة حب مع عشيقة تقابلا في عقاب، ومن هنا وجود الشخصية « صفية « كان محور تغيير هذه الدولة المتخيلة إلى واقع المجانين .
الشيء الثاني :
كثرة المؤثرات الموسيقية المصاحبة للعر ض من خلال الشخصيات، وتحديدا بين الرئيس وصفية نشأت علاقة حب قوية استغلتها فيما بعد صفية لهدم هذه الدولة واقعا وخيالا.. خيالا وواقعا.. هذا التناقض صنع عرضا لم يفقد الجمهور متعته بل جعله يتفاعل تصفيقا.. حماسا.. وضحكا لدرجة القهقهة.. كل هذا صنعه مخرج مبدع بإتقان.. ولم يجعل الجمهور يفكر ولو للحظة أن هؤلاء هم مجانين أصلا ومكانا !:
سأنهي هذه الفقرة بنص من رواية سمراويت لحجي جابر، ولعلها تختصر حال هؤلاء المنخوليا..
[يا للأسى .. حتى الوطن بات مثلنا تماما.. شيئا طارئا.. ثلاثون عاما من الغربة لم تكن كافية لمعرفة كيف يعيش بين نصفين : نصف انتماء ونصف جذور] ..
الشخصيات.. الأماكن وارتباطها بمكانين مختلفين
هذا القلق يستمر في الشخصيات حتى في منطوقها للشخصيات
الصوت الداخي لهويته البديلة .. الخارجي لهويته المتخيلة في الرواية
من قلق وصراخ صامت مشوبا بالفرح حين وجد صفية، والحزن وعلاقته بالمكان والخارجي من خلال السنوغرافيا التي غطت العرض وأبهرته واستباق الأحداث، هنا ما بين السفر الكتابي من مكان لأمكنة، من زمان لأزمنة؛ فالمكان مستشفى والأمكنة تخيل دولة أخرة أي مكان آخر بديل..
إذا فأين الصوت في العرض.. أما الصوت الداخلي.. فيبدأ بالتالي:
صوت الفرح بأن عمر بطل الرواية يسافر إلى دولته بعد ثلاثين عاما قضاها في جدة والالتقاء بحبيبته؛ بمعنى أنه التقى بها مرتين؛ الأولى في المقهى وغرامه بها، والثانية في المقهى أيضا لكن باستقبال قرار رفض والديها من الارتباط به.. كذلك بيت جدة بمصوع البحر.. بعض الأماكن القديمة الأثرية الدبابات التي بقيت، السجون التي فوق وتحت الأرض..
كل هذا هو صوت داخلي/ خارجي بين ما هو واقع بجدة ومتخيل لمصوع قرية آبائه وأجداده عبرت عنه الرواية بذكاء، هناك صراخ داخلي أتى من لغة الرواية وطريقة الوصف لها.. كذلك الرقص الموسيقى بالطريقة التغرنية الأريتيرية التراث.. أيضا هناك به صوت الكاتب شخّص كل هذا باستنطاق -إن جاز لي التعبير- الجوامد في أغلب السرد الروائي .
أما الصوت الخارجي في العرض:
الانتظار ، القلق ، الشوق ، الحنين ، والصراخ، فما الذي يدل على ذلك ؟ إنه في حركة الشخصيات واسترجاعها للذكريات وانتقالها من الأعلى إلى استحداث نشيد وطني في آخره حركة راقصة، ومن الأدنى إلى الأعلى، وكأن المخرج العبقري أراد الهبوط إخراجا إلى الصعود وهكذا دواليك ، هدفه إيهام الجمهور بدولة جديدة وهم في الحقيقة مرضى نفسيون».
الخاتمة:
هذا بالضبط ما صنعه المخرج في تخيلات الحدود الجغرافية بين الواقع المرضى وبين المتخيل في دولتهم، ولعل الصدمة للجمهور بتحرير الدكتور والممرضات والعودة لطبيعتهم في مستشفى الصحة النفسية، وأن ذاك العرض من بدايته حتى قبل النهاية خدع المخرج الجمهور خداعا جميلا معبرا، وفي ختام العرض وقف الأغلب من الحضور تصفيقا لمبدعي الشخصيات بدءا من الوزير وتلك الشخصية من ذوي الاحتياجات الخاصة، ولم يدر بخلد أحد من الجمهور أنها عمياء، وهذا يدل على براعة المخرج في إيهام الحاضرين بذلك بإتقان..
إيمان بشناق في دور «صفية»
هذه الفنانة برعت في إحداث انقلاب في العرض المسرحي فنيا، خفة دمها، وحركتها على المسرح، لقد صنعت بصوتها وطبقاته تمازجا وظيفيا إن صح التعبير، بين الممثلين وبين الجمهور، لم تضع مسافات بين الاثنين بل مدت جسور « الصوت .. الحركة « المسرحية طبعا بين الممثلين وتنفيذ خطتها لاستعادة هؤلاء المرضى وبين الواقع في إحداث فتنة، وفرقة بين الوزراء ورئيسهم لقصد فك أسر الدكتور والممرضات، فقد جعلها المخرج حلقة الفصل والنهاية وأجاد في اختيارها ومن خلال الملابس كذلك لكل الممثلين من ديكور مبهر بسيط وسهل في استخداماته، فمرات كرسي الرئاسة ومرة غرفة نوم.. وهذا ذكاء من المخرج في خلق هذه الحالة القلقة في العرض.