حامد أحمد الشريف
لابد لي بداية من شكر الأستاذة صباح فارسي؛ الكاتبة الروائية السعودية الملهمة، على مبادرتها بإنشاء مجموعة «واتس أب» تعتني بالرواية السعودية - قراءةً ومراجعةً وإظهارًا -، وكان الأجمل في هذا المشروع اختيار أول رواية سعودية للأديب الأريب السعودي «عبدالقدوس الأنصاري» كنقطة انطلاق، فنحن في سعينا للفهم والتطوير نحتاج لمثل هذه البدايات، كي نتدارسها بشكل متعمق ونرى أين وصلنا، وهو ما تحقق بالفعل من خلال هذا العمل الكاشف؛ عن أصل الرواية السعودية مقارنة بالتجارب العربية، إذ لا يفصله غير بضع سنوات عن رواية «زينب مناظر وأخلاق ريفية» للأديب المصري محمد حسين هيكل؛ التي أُرِّخَ لها في عام 1913م، وكذلك رواية «الوارث» للأديب الفلسطيني «خليل بيدس» التي نشرت نسختها الأولى في عام 1920م، بينما صدرت رواية (التوأمان) في عام 1930م عن مطبعة الترقي بالقميرية بدمشق.
ومع أن رواية «التوأمان» السعودية يعد إصدارها حديثًا نسبيًا، مقارنة بالتجارب السابقة، فإن بدايتها كانت خجولة جدًا، ولم تحقق الاكتمال الروائي وإن بحده الأدنى - الذي وقفنا عليه في رواية «زينب» ورواية «الوارث» أيضًا الأقل جودة منها، بل إن «التوأمان» لا تُقارن أيضًا برواية «غابة الحق» لـ «فرنسيس فتح الله»، التي يعدها النقاد البداية الحقيقية للرواية العربية قاطبة رغم تحفظهم عليها، وهي بالمناسبة ليست بهذا السوء بالنظر لصدورها في عام 1865م، وهو تاريخ قديم إلى حد ما مقارنة ببقية التجارب، ما يدفعنا لتجاوز كل التحفظات كإسراف المؤلف في استظهار فلسفته الحياتية، التي أفرد لها عددًا من الصفحات المتوالية وألصقها بمستشار الملك الفيلسوف في حواره مع زوجة الملك الفاتنة، وهي مثالب حقيقية، لكنها في ظني تجاوزٌ إبداعي، خاصة أن فتح الله اشتهر بهذه التجاوزات للقوانين الكتابية، وكانت روايته تتضمن هذه المغازي الخفية، أيضًا أجد أن «التوأمان» لا تقارن بتجربة «حديث عيسى بن هشام» للكاتب المصري «محمد المويلحي» التي نشرت كسلسلة ما بين عامي 1898 و 1903م في صحيفة مصباح الشرق المصرية وكانت تحمل معالم الرواية رغم تصنيفها كمقامة، بحكايتها الهيكلية المتسلسلة وقدرتها على صناعة الشخوص، وكذلك استحضار الزمان والمكان وخلق عدد من الصراعات الأساسية والفرعية، واعتمادها على إيصال الرسائل الظاهرية والمضمرة، وكل ذلك يعني أننا نعيش مع المويلحي تجربة سردية تستحق الدراسة، لعلي أفرد لها مساحة للتأكد من سبب عدم اعتمادها كبداية للرواية العربية والتعامل معها كمقامة.
إن هذه التجارب كانت تحمل كثيرًا من ملامح الرواية العصرية، على الأقل في بداياتها بغض النظر عن تبويبها وحديث النقاد عنها، وعامة أرى أن كل هذه التجارب تفوقت بمراحل على رواية الأنصاري التي لم تستطع تحقيق أدنى متطلبات الكتابة الروائية، ولا يمكن بحال مقارنتها مع كل التجارب السابقة، وإن كنا نقدِّر لها جرأتها وقدرتها على تحطيم الحاجز الذي وقف حائلًا دون مثل هذا النوع من الكتابات خضوعًا لسطوة الشعر أو انسجامًا مع القيود الدينية والاجتماعية الرافضة لهذا النوع من الكتابات، وهي بهذا الوصف قد أسهمت في تشكيل بداية الرواية السعودية، بغض النظر عن قيمتها السردية والضعف الشديد الذي يعتريها، فالانطلاق في أي مشروع جديد لا ينظر له من زاوية الإتقان، بقدر ما يحفظ له تحريكه للمياه الراكدة، ودفعها للجريان، وهو ما تحقق بالفعل مع كل الأعمال الروائية الخجولة التي ظهرت في الأدب العربي وأوصلتنا لما نحن عليه الآن وإن تفاوتت جودتها.
وإذا ما نظرنا لرواية (التوأمان) من خلال القيمة الأدبية المعدومة في ظن أنصار الشعر، بل والعار الذي من الممكن أن يلحق بكاتبها، بالضبط كما حدث مع رواية (زينب) حسب ما كان سائدًا في المجتمعات الأدبية النخبوية الخاضعة كلية للشعر؛ نجد أن عبدالقدوس لم يكتفِ بالتخفي تحت اسم مستعار، كما فعل هيكل ويُخلص بعدها في كتابة العمل بالمنهجية الغربية التي عُرف بها، وكان هيكل قد أتقن عمله ولم يسمح لخوفه من وصمة العار التي ستلحق به بالتأثير على كتابته، واختار فقط نشره باسم «فلاح مصري» قبل إعادة نشره باسمه الصريح بعد خمسة عشر عامًا من نسخته الأولى، استجابة لنصائح الأصدقاء الذين شعروا بقيمة العمل، وأيضًا بعد تحويله إلى عمل سينمائي كبير تحت نفس العنوان «زينب» بطولة عبدالوارث عسر ويحيى شاهين وراقية إبراهيم، في وقت لم تلتفت رواية «الوارث» لكل هذه المعوقات وانطلقت مباشرة بصورتها النهائية وباسم كاتبها الصريح، ويظهر أن «خليل بيدس» كان مؤمنًا بقيمة الرواية كجنس أدبي مهم، وهو ما جعل بعضهم يعتبرها البداية على أساس أن (زينب) الحقيقية ولدت في عام 1929م بينما (الوارث) في 1920م.
الملفت في صراع البدايات هذا أن الأنصاري فيما يظهر لي لم يكن مؤمنًا بالرواية كجنس أدبي يستحق الكتابة رغم الفارق الزمني الذي يصب في مصلحته، لذلك ظهرت تجربته في منتهى الضعف، ويبدو أنه تأثر كثيرًا بفارق الثقافة وهيمنة الخطاب الديني الذي كان يجرم كل ما هو غربي، وقد ظهر تأثره الشديد بهذا الخطاب المتزمت وأصبح ممن يزدرون الرواية علانية، ولا يرى لها فضلًا بالمطلق، ما دفعه لاعتماد مسلكٍ مختلفٍ لهذا الهروب، معتمدًا بدايةً على الغلاف الذي سخره لإظهار قيمته الاجتماعية، وقيمة مرويته بتعريف نفسه أنه يعمل في الديوان الأميري بالمدينة المنورة، كما استخدمه أيضًا في وصف العمل بأنه أدبيٌ وعلميٌ واجتماعيٌ، وكأنه بذلك يستبق الانتقاد الذي قد يوجه إليه بإيضاحه أنه لا يهدف لأن يكون حكواتيًا، بالصورة القديمة؛ التي لا تليق بالأدب والأدباء، وتقلل من مكانته الشعرية والأدبية، ولا يريد اقتراف هذا الإثم، وإنما يريد كتابة قطعة أدبية؛ يتخللها العلم، وتصب في خدمة المجتمع، ويبتعد بها عن الشعر، تحقيقًا لأهداف سامية سيتحدث عنها لاحقًا في مقدمته الشهيرة، وليته اكتفى بذلك ليهرب من النظرة الدونية للرواية والتجريم الذي طالها من المؤسسة الدينية والمؤسسة الثقافية، بل أشار خلال صفحة الغلاف للقيمة الكلامية التي تحتملها هذه الرواية واضطراره لاستخدام الهوامش في توضيح بعض المفردات القاموسية النخبوية التي قد لا يفهمها القارئ، وباعتقادي أنه لم يجعل الغلاف مسرحًا لكل هذه التجاوزات إلا لإظهار قيمة العمل على المستوى الأدبي، وعدم التقليل منه بالنظر لجنسه الأدبي الممقوت، ولعله أراد أيضًا الاعتراف به من نخبة القراء والأدباء وحتى رجالات الدين مبكرًا، بوضع كل هذه التنويهات التي تبين قيمته اللغوية والأدبية والأخلاقية على الغلاف.
الآن : هل تتوقعون أن عبدالقدوس اكتفى بذلك لبيان قيمة مخطوطته والاعتذار عن تدوينه لها؟ بالطبع لا، بل إنه بالغ في الهروب مستخدمًا الإهداء كعتبة مهمة تحقق له هذا الهدف، بإهدائه العمل لمن وصفهم بالناشئة المتعلمة، ومعلوم أن هذا الاستثناء يهدف بالدرجة الأولى لتمرير هذه النوعية من الكتابة، فالناشئة يستساغ تقديم الأدب الذي يليق بهم؛ حتى وإن كان غير مقبول من الأدباء ونخب القراء، فهو أدب موجَّه؛ تقل جودته واشتراطاته لأهدافه السامية التي يستحيل تحققها إن كتب بالمنهجية النخبوية المعتادة، لكنه لم يكتف بذلك أيضًا، بل أقحم معهم القراء الغيورين وخاطبهم بقوله «تبصرة وذكرى» ما يعني أنه انشغل كثيرًا بتبرير وتمرير مدونته وإلباسها ثوب الوعظ والحكمة والأهداف القيمية أكثر من اهتمامه بجودتها، ولعل الملفت أنه لم يكتفِ بذلك بل اتخذ من المقدمة وسيلة للاعتذار عن هذا النوع من الكتابة وبيان أن الحمية الدينية والاجتماعية هي ما دفعته لتحرير هذه المخطوطة من خلال حديثه المباشر والصريح عن الإفساد الذي تمثله الرواية الغربية حسب وصفه في قوله: «(وبعد) فغير خافٍ ما جلبته المدنية الغربية الحديثة على الشرق عامة، وعلى العالم العربي الإسلامي خاصة من آفات فتاكة، ودواهٍ دهياء .. مما كاد يودي ببنياننا الاجتماعي من ساسه، ويقضي على كياننا الأخلاقي من رأسه» انتهى كلامه.
وكما نلاحظ فإن الكاتب لايزال منشغلًا وبشكل كبير بتمرير هذا العمل، بدليل هذه المفردات النخبوية التي يشكُل حتى على المثقفين والنخب فهمها بعد ذهابه باتجاه ما ندر استخدامه من اللغة، كإتيانه بمفردة «دهياء» بعد مفردة «دواه» قائلًا: «دواهٍ دهياء» مستخدمًا أسلوبًا توكيديًا جميلًا ينم عن فصاحة وقيمة كبيرة في اللغة واصفًا ما يأتي به الغرب بأنه من شدائد الدهر الأكثر خطورة التي ينبغي التصدي لها قبل استشراء خطرها وذيوعها وصعوبة اقتلاعها لاحقًا، فكان موجزًا مكثفًا جزلًا في قوله، وربما متكلفًا كما سيأتي لاحقًا، وكل ذلك لا معنى له في كتابة سردية يفترض أن تخاطب الناشئة حسب قوله، إلا أنه يهرب من استحقاقات هذا الجنس الأدبي المخل الذي لا يليق بقامة مثله، على نحو مرتبك أظهر كثيرًا من التناقض في كتابته، ويظهر هنا أن التقليل ليس استرضاءً للنخب في ما يبدو بل قناعة شخصية، دفعته لأن يكون صريحًا ومباشرًا في تهجمه على جنس الرواية، عندما وضعها ضمن الأدوات الاستعمارية للشعوب العربية الإسلامية في قوله: «لذلك نظم قواد حركة استعمار الشرق حملته تنظيمًا فائقًا إذ جهزوها بما لديهم من أنفذ الوسائل وأفعل الأساليب.
كان من أهم هذه وأمكنها وأدخلها إلى قرارات النفوس، تحبير تلك الروايات التي أُلبِست أكسية جذابة من الإغراء الشائن بالفضائح والانسلاخ من قويم الآداب وشريف الأخلاق» انتهى كلامه..
وكما يظهر من حديثه السابق أنه وبما لا يدعُ مجالًا للشك قد أتى لكتابة الرواية كارهًا لها ومستعظمًا خطرها، وطبق مقولة (فداوها بالتي كانت هي الدَّاءُ)، وليس كما يعتقد بعضُهم أنه أراد كتابتها بالفعل ولكن لم تسعفه أدواته السردية لتحبيرها بالشكل الذي يليق بها، فقرر التنكر لمحبته لها كما يحدث بين المحبين عندما يسرف أحدهم في التقليل من الآخر رغم محبته له انتقامًا لنفسه بعد الهجران الذي قوبل به، وكان قد صرح بداية بأنه لا يجيد كتابة هذا النوع من الأدب كما يكتبه الغربيون في قوله: «وهذه الرواية (التوأمان) إنما وضعتها عملًا بهذه الفكرة الشريفة!
وهي وإن تكن غير مسبوكة تمامًا على أصول (الفن الروائي العصري) فقد يجد القارئ فيها صورة صحيحة عن أضرار المعاهد الأجنبية المؤسسة في الشرق على مستقبل الشرق نفسه؛» انتهى كلامه.
إذًا تمنع وهجران الرواية لكاتبها ربما وجد بالفعل، وأثار في نفسه حب الانتقام والفرار من الوله الذي شعر به بدايةً، أي أنه لربما وقع في غرامها رغم إيمانه بغوايتها وحُرمتها بالنظر لثقافته الدينية ونظرته المتوجسة للثقافة الغربية، وعاش اضطراب التناقض الشعوري بين مقتها وحبها فأراد إتيانها تلبية لكلا هذين الإحساسين، وبالتالي جمع بين ممارسة هذه التجربة الأخاذة وإغماس قلمه في هذا الفن المستحدث، والهروب في ذات التوقيت من مجابهة من يجرمون فعلته تلك، وربما أراد بالفعل ممارسة دور وعظي وإصلاحي، سواءً أكان ذلك بممارسة محببة للنفس يجتهد لإتقانها رغم الصعوبات، أم كان وعظًا متجردًا وقرر استخدام الوسيلة التي توصله إلى هدفه بغض النظر عن إيمانه بها، فأتت كتابته على هذا النحو القلق الذي لا يحمل من الرواية بصورتها المتعارف عليها غير تضمينها لحكاية سطحية ما، وإن كنت أرى أنه على الأرجح أراد بالفعل محاربتها بأدواتها ولم تكن ثمة علاقة عاطفية تربطه بها.
وكان قد استطال في هذا الأمر وتحدث كثيرًا عن وجوب الوقوف في وجه الرواية ببيان عظيم خطرها ووجوب صدها، وأن مقاومتها لا تكون إلا بكتابتها واستخدامها وعاءً للموروث الأخلاقي والديني الذي يراد له الشيوع والانتشار، وأشار في مقدمته تلك إلى مقال عنوانه «الهداية والإصلاح» نشره في مجلة المرشد العربي باللاذقية في جزئها الرابع من السنة الأولى يتضمن هذه المنهجية المقترحة لمجابهتها والقضاء على شرورها.
ومما لا شك فيه أن هذه الرواية بعيدًا عن قوانين السرد وضرورياته، تعد تحفة فنية في الكتابة العربية بجمالها الأخاذ وأساليبها الكتابية الرائعة ومفرداتها المغرقة في الجمال والإبداع، وهي بهذا الوصف تستحق المطالعة - بل والحفظ - لعظم تأثيرها على لسان من يقرأها، وقد حيكت على نسق المقامات العربية المعروفة؛ (كمقامات بديع الزمان، الهمداني ومقامات الحريري)، وشابهتهما أكثر من مشابهتها للرواية العصرية التي أراد عبدالقدوس كتابتها.
ومع أن (التوأمان) لا تخلو من الحكاية التي يُعتمد عليها في خلق الصراعات السردية، وتعد الأساس الذي يبنى عليه كامل العمل، إلا أن المؤلف وقع في كثير من المطبات السردية والعيوب الحكائية التي ما كان له إتيانها، كوضعه للفواصل التي تحدد أزمنة السرد؛ بما يشبه تقسيم الرواية إلى فصول وإن كانت بدائية وفي مساحة سردية صغيرة جدًا، وسكبها سكبًا تاركًا لها أن تتوالد قسرًا وتتتابع في الصفحات دون اهتمام بفصلها ورقيًا، وأظنه لم يكن معنيًا بكل هذه التفصيلات بقدر عنايته بسرد الحكاية وتحقيق مراده الوعظي منها، ورغم كل ذلك الارتباك السردي الذي نتحدث عنه، والذي لا نجده مطلقًا في رواية «زينب» و «الوارث» أو حتى رواية «غابة الحق» و «حديث عيسى بن هشام»، فإنه لم يُفقد النصَّ إثارتَه وتشويقَه، ودفع القارئ للمتابعة، وهي المزية التي نجح فيها رغم كل هذه الإخفاقات، ولو قدر له تغليف الحكاية بتقنيات السرد المتعارف عليها واهتم ببقية العناصر كبناء الشخوص وعمق الصراع ومراميه الدفينة والمكان والزمان وكتابتهما على النحو الصحيح، لربما شقت طريقها باللغة الساحرة التي أجاد في نظمها وإسالتها على أوراقه، وجعل القارئ يتلمظها جمالًا وسحرًا إذا ما غضضنا الطرف عن تكلفها ونخبويتها المبالغ فيها، التي لا تتناسب بالتأكيد مع الأعمال السردية، وهو ما لا نجده مع هيكل الذي كتب روايته على نسق غربي، -اطلع عليه وتشربه قبل شروعه في تدوين روايته-، وقد صرح بذلك في مقدمة طبعته الثالثة من الرواية عندما غرق في تمجيد الثقافة الفرنسية والإيمان بقيمتها، على العكس تمامًا من عبدالقدوس الذي قلل من قيمة ثقافتهم، وكتب ما يشبه المقامة وألصق بها وصف الرواية، وهو لا يخفي كرهه الشديد لها وفشل في ذلك أيضًا إذا ما قارناها بـ «حديث عيسى بن هشام» من العصر الحديث، بينما توسط «خليل بيدس» مع «الوارث» في كتابته وكان بين هذا وذاك، في وقت ذهبت «غابة الحق» مذهب التلغيز الشديد والفلسفة الكتابية العميقة واختراق قوانين السرد باحترافية تصعب المحاسبة عليها، وأظنه سبق رواية «عالم صوفي» للكاتب النرويجي جوستاين غاردر في الجمع بين علم الفلسفة والسرد مع اختلاف التجربتين وقيمة كل منهما.
إن إقرارنا بكل ذلك لا يمنعنا من الا حتفاظ بقيمة هذه المحاولة، إذا ما قورنت بتوقيتها والمصادمة التي تنطوي عليها للموروث الاجتماعي والديني في الجزيرة العربية؛ والتخوين الذي مافتئ يغمر العلاقات مع الغرب من وقت استعمارهم وهجمتهم الشرسة على الإسلام والمسلمين، والأساليب التي مارسوها لطمس هويتنا وتغيير ثقافتنا وتوظيف المستشرقين لتحقيق ذلك، وهي الأمور التي لا تخفى على أديب أريب كعبدالقدوس الأنصاري، وتجلد للحديث عنها والتخويف منها عدد كبير من العلماء والأدباء أصحاب النزعة الدينية، في وقت ارتمى بعضهم في أحضان الغرب وأصبح يتحدث بلسانهم كما فعل رفاعة الطهطاوي وطه حسين وتوفيق الحكيم ومحمد حسين هيكل وبقية المثقفين العرب الذين نجح المستعمر في إبهارهم بالحضارة الغربية وجعلهم أبواقًا تتحدث بألسنتهم كما يعتقد بعضهم، وهو ما لم يكن عبدالقدوس ليمارسه في ظل الحضور الخجول للثقافة الغربية واستنكار مجتمع الجزيرة العربية لها وتأخر حركة الابتعاث المشابه، التي عاشها أيضًا الكاتب السوري الحلبي «فرنسيس فتح الله مراش» قبل كتابته لروايته «غابة الحق»، وكذلك الكاتب الفلسطيني «خليل بيدس مع روايته «الوارث».
ومما لا شك فيه أن عبدالقدوس إنما أراد بالفعل توظيف هذا الجنس الأدبي الذي لا يؤمن به في رد غائلة الغرب وفضح مخططاتهم وأظهر ارتفاع حسه الديني بما يوازي قيمته الأدبية إن لم يتفوق عليها، حتى إنه مر سريعًا على الفترة الزمنية من ولادة «التوأمان» إلى وقت إنهائهم الدراسة التحضيرية حسب وصفه ليستخدمهما في بث الأفكار التنويرية التي يريدها، ولعله لم يتمالك قلمه ولم ينحنِ أمام الجنس الأدبي الذي اختاره لإيصال هذه الرسالة فاندفع بكل قوته لمهاجمة الغرب ناسبًا قوله للراوي العليم الذى لم يسلم من تجاوزه عليه واستلام زمام الحكي بدلًا عنه ليفرغ الشحنة التي بداخله كما يظهر في ص 13 و 14 عند استخدامه أسلوب المباشرة المقالية والخطابية التي لا تخلو من الوعظ الصريح والمباشر في قول ما يريده منسوبًا إلا حزبين متصارعين وهو ما يخالف تمامًا قواعد كتابة الرواية أو حتى الحكاية التي تنسب الأقوال لأبطال العمل وإن بطريقة التخفي وكل ذلك يشير إلى أن عبدالقدوس إنما أراد امتطاء الرواية لتحقيق غاياته ولم يلتفت لقوانينها، وهو ما يؤكد بالفعل أنه لم يهرب منها إليها مثلما فعل غيره ممن وقعوا في غرام الشعر، فأحبوا الرواية في الخفاء وهاجموها في العلن كعباس محمود العقاد.
وحتى نكون منصفين ينبغي لنا الوقوف أمام المقاربة الإبداعية التي نجح المؤلف في صناعتها عند إتيانه بـ «التوأمان» لتحقيق غايته من مناقشة فكرة المقارنة بين المدارس الوطنية المحلية والمدارس الغربية، وهذه تعد ضمن ركائز الكتابة الروائية وفيها إخفاء للغايات السردية والعمق والمغازي وتوظيف السرد غير المباشر لإيصال المستهدفات الفهمية، وفي ظني يعد هذا نجاحًا مقدرًا في الكتابة الروائية رغم بساطة التجربة، والعلاقة غير الجيدة التي تربط المؤلف بهذا الجنس الأدبي، إذ استطاع بناء هيكل روائي مقنع إلى حد ما، يمكن توظيفه لإيصال المغازي التي يريدها، باللعب على انتماء الابنين «رشيد» و «فريد» لتلك المدارس المتناقضة، وإن كان قد عجز عن استكمال هذا السرد بعودته مرة أخرى لتسطيح الصراع وتهميش أبطاله والذهاب به للمباشرة المقالية الوعظية وإظهار أن الشخوص كانوا مجرد أدوات مبتذلة احتاجها الكاتب لتمرير رسالته، ولم يهتم بالواقعية والإقناع السردي والتسلسل المنطقي للأحداث، وظهر أن جميع الأبطال أدَّوْا أدوارًا سطحية جدًا لا تنسجم مع قيمتهم الحياتية بداية من الأب «سليم» الذي كان منفصلًا تمامًا عن الواقع وظل يتصرف بسذاجة غير مقبولة طوال العمل، رغم الانحدار الأخلاقي والقيمي الكبير الذي كان عليه ابنه فريد؛ ولم يخفه مطلقًا وظهر أن الأب يعلمه أيضًا لكنه قرر متابعته عليه تحقيقًا للوعد الذي قطعه على نفسه بأن يترك لابنيه ممارسة الحياة كما يريدان، متجاهلًا دوره الأبوي الذي ينجي الأبناء من مغبة الوقوع في مزالق السوء، ولعل الطامة الكبرى في معرفته بما حدث مع ابنه في فرنسا، بعد فصله من الجامعة، وقطع علاقته معه نهائيًا بشكل مفاجئ وغير مبرر، وظهر كأنه أراد لابنه هذه النهاية بل دفعه لها حتى يتخلص منه، وخلاصة القول أن العمل كان في منتهى الضعف في بناء الشخصيات، ولم ينجح مع أي من الشخصيات التي قدمها بالمطلق على العكس تمامًا مع كل الأعمال الأخرى.
وبالإضافة إلى الضعف السردي وعدم منطقية كثير من الأحداث الموصوفة، كالتحويلات البنكية، وسذاجة فكرة تحويل النقود في ذلك الزمن، نجد أن النص غرق تمامًا في المثاقفة والجهر بالمغازي التي دونت السردية من أجلها ولم يكتفِ بذلك، بل ذهب مبلغًا عظيمًا في شرحها وتبريرها، فكانت أقرب للمقالة منها للحكاية، وقد فاقت في ذلك حتى المقامات التي لم تكن تحفل بتعديل السلوكيات وبث الإرشادات قدر اهتمامها بسرد الحكاية وتجميلها وتأهيلها للقبول وجعل مضامينها الوعظية مضمرة داخل النص. وكل ذلك يوحي بأن الكاتب لم يهتم مطلقًا بهذه التفاصيل الصغيرة وكتبها كيفما اتفق، في وقت لا يمكننا قبول هذه المثالب السردية حتى في ذلك الزمن بالنظر إلى أن الرواية العربية بدأت تضع أقدامها على بداية الطريق من خلال «غابة الحق» و «زينب» و»الوارث» وحتى «حديث عيسى بن هشام». وإن قال بعضهم إن هذه البدايات الروائية لم تلقَ رواجًا كبيرًا، ويبدو مرجحًا بشكل كبير أن الأنصاري لم يطلع عليها، فإن ذلك لا يعد مبررًا في ظل إيماننا بأنه لم يولِ الرواية اهتمامه من الناحية السردية، وإنما أرادها وسيلة للتعبير عن قناعاته بضرورة مواجهتها وإيقاف تأثيرها على النشء، فلم يكن واردًا اجتهاده لكتابتها بالطريقة والمنهجية الغربية المعتمدة، أو حتى الاقتداء بالتجارب العربية الجيدة، نستشف ذلك أيضًا من بعض نواحي القصور التي لا يمكن قبولها تحت أي ذريعة ومهما كان الجنس الأدبي الذي نتحدث عنه، كاختلاف الأسماء فالمدير الوطني الغيور كان اسمه في ص 18 نبيه أفندي وأصبح في صفحة 24 الدكتور محمود وظهر سكرتير باسم برهان أفندي وهو ما يشير إلا عدم اهتمام عبدالقدوس بهذه التفاصيل الصغيرة مطلقًا بسبب ازدرائه لهذا النوع من الكتابات وكتابتها مجبرًا لا بطرًا، وبالتأكيد لم يوفق في هذا المسلك إذ إن المواجهة الحقيقية تقتضي استخدام نفس نوع السلاح أو أجود منه، وكانت رواية (التوأمان) في مواجهة الرواية الغربية أو جنس الرواية، كمن يقاتل صاحب سيف أجرب بسيف من أغصان الشجر.
ومما يشار إليه في ضعف العمل حتى على مستوى الحكاية ـ إذا ما قررنا الاهتمام بها وغض الطرف عن اشتراطات السرد ـ اهتمامها المبالغ فيه باللغة ووصولها للتكلف في اختيار المفردات وكأن الكاتب يتباهى بحصيلته اللغوية، بينما لا يكون ذلك مقبولًا في الكتابة الإبداعية بكافة مستوياتها، إذ إن التلقي الجيد يقتضي البساطة وعدم المفاخرة والتباهي بين الطرفين، الكاتب والقارئ، إذا ما ابتعدنا عن الكتب العلمية والمعرفية الصرفة أو الكتابات الموجهة، ومع أن هذه الرواية تعد منجمًا للمفردات والتراكيب اللغوية وصنوف البلاغة رغم مساحتها الصغيرة، وتعد حقلًا تعليميًا يستزاد منه لغة وصرفًا ونحوًا إلا أن ذلك كله أضعف العمل سرديًا، وقلل كثيرًا من قيمته في التاريخ السردي السعودي إلا كبداية، وكما أسلفت بأن ذلك كله يبرر ما توقعناه من توظيف العمل لإيصال رسالة الكاتب المباشرة، ما دعاه إلى عدم الالتفات لأي من قوانين الحكاية فضلًا عن القصة القصيرة أو الرواية ومن ذلك رفع مستوى اللغة إلى ما يتجاوز الاستهداف القرائي لكافة الشرائح واعترافه بذلك، إذ لا تخلو صفحة من صفحاتها من هوامش تعريفية يزاح من خلالها غامض اللغة ووحشة المفردات، وكأنه بذلك قد راهن على أهل اللغة وخاصتها، أكثر من رهانه على المتلقي البسيط، الذي تكتب الحكايات عادة من أجله، وهو ما يشير للبداية المرتبكة جدًا للسرد الروائي السعودي إذا ما قارناه بكل الأعمال السابقة.
وخلاصة القول: إن رصد رواية «التوأمان» وقراءتها والحديث عنها مطلب مهم لفهم الصراع الأدبي في أرض الجزيرة العربية، والبداية بالغة الصعوبة التي عاشها، فرغم أن هذه التجربة انطلقت من الحجاز الأكثر انفتاحًا على الثقافة والأدب، والأقل خضوعًا للأيديولوجيات الدينية، ورغم أن الكاتب كان يمثل فئة الأدباء والمثقفين، ولا علاقة له برجال الدين إلا أن مخطوطته أظهرت التغلغل الكبير للأفكار الدينية، والإيمان بفكر المؤامرة وتأخر الاهتمام بالثقافة الغربية، وبالتالي عدم القدرة على تطويعها بما يناسب ثقافتنا الدينية وحياتنا الاجتماعية، ولعل الأهم من ذلك كله، أن هذه البداية تظهر قيمة ما وصل إليه الأدب السردي السعودي في الفترة الحالية، عندما استطاع كسر هذه الشرنقة العظيمة، ومقارعة بل والتفوق على كثير التجارب العربية الأخرى التي كانت بداياتها أفضل وأقدم منا بكثير، ما يجعلنا نعلنها صراحة أن رواية «التوأمان» عززت من مكانة السرد السعودي رغم عجزها المطلق عن كتابته.