ما زلتُ أؤمن أننا نواجه مسؤولية أمام التاريخ يجب علينا أن ننهض بها كما نهض أولو العزم من العلماء السابقين!
هذه الكتابة تأتي في ظل الدعوة التي ناديتُ بها، وهي ضرورة التواصل الثقافي العربي، ومدّ الجسور الأدبية بين أدباء الأقطار العربية، والاندماج بين الأجيال المختلفة، وتأسيس فكرة عربية خالصة، تتحرر من شوائب الإقليمية الضيقة، وتدعو إلى الاعتراف بالمائدة الثقافية العربية، والتكامل الثقافي المعاصر بين أدباء العرب، وتساعدُ على زيادة التأثير للخطاب المعرفي، تلك التي تلتقي مع القيم والمبادئ والأخلاق الحسنة، ولا تتعارض بأيّ حال مع تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف، ومن ثمَّ تحث الأدباء العرب إلى خلق روح الاحتفاء بالمشاريع الثقافية العربية وأربابها، هذه الروح التي يفوح شذاها، ويعبق طيبها، وتصدح ألحانها في كلّ ناحية.
وإذا كانت الأرض تورث الأديب الأصيل أعمق خصائصها، فقد أورثت «ألمع» بجنوب المملكة العربية السعودية (إبراهيم مضواح الألمعي) سِحْرَ البيان وألمعية القِيَم!
يحتل صديقنا الأديب الأستاذ إبراهيم مضواح الألمعي منزلة رفيعة في خزانة النثر السعودي المعاصر، ويقف قامة عملاقة في المواكب العربية الحديثة، حققها نثرُه المتميز المختلف، وفِكرُه المتنوع الفريد، ونشاطُه الثقافي المتعدد، ومشاركاتُه الأدبية في الأندية والملتقيات، واتصالُه بالأدباء والعلماء، وانفتاحُه على البيئات الأدبية خارج قطره، وقد حقق له ذلك موقعًا مرموقًا ساعده على تألقه الفكري، وفتح أمامه مدى واسعًا للتعرف إلى حيوات الآخرين، واستطاع أن يفتح النوافذ على الأدب السعودي، حتى صار له في المحيط الأدبي العربي ذكرٌ مسموع، فأنشأ صداقات متعددة مع أدباء العالم العربي، واقترب من عدد ٍكبيرٍ من أعلام البلدان بحكم كثرة أسفاره ورحلاته الأدبية، وحرصه على المراسلات، وإرسال نتاجه العلمي والأدبي إلى الأعيان والمشاهير في مختلف البلدان، ويكفي في ذلك أن أخبرك عن حرصه التام على إرسال كتابه الفريد «مصطفى عبد الرزاق الفيلسوف الكامل والإمام الفاضل» إلى سماحة شيخنا الإمام الأكبر أحمد الطيب شيخ الأزهر المجيد.
هذا الرجل هو حركة أدبية دائبة صامتة تنشر وهجها في كلّ موقع يشغله، فهو المشرف للإعلام التربوي بتعليم «ألمع»، وهو الأمين للمصادر التعليمية والمكتبات، وهو العضو في كثيرٍ من الهيئات والمؤسسات الثقافية من بينها: عضو مجلس إدارة نادي أبها الأدبي، ورئيس لجنة الطباعة والنشر بأدبي أبها، وعضو في إعداد قاموس الأدب والأدباء السعوديين، وعضو في إعداد معجم المؤلفين بمنطقة عسير، وعضو مؤسس لمنتدى السرد بعسير، وللديوانية الثقافية الألمعية، وكان من ثمار رحلته الأدبية الممتدة لأكثر من عشرين سنة: حصوله على جائزة المدينة الأدبية في فن المقالة سنة 1999م، وجائزة أبها الثقافية في القصة القصيرة سنة 2003م، وجائزة أدبي جازان في القصة القصيرة سنة 2002م وسنة 2004م، وجائزة الشارقة للإبداع الروائي (جبل حالية) سنة 2008م، وجائزة حائل للرواية (عتق) سنة 2013م، وجائزة الثقافة والفنون للقصة الوطنية بأبها سنة 2017م، وجائزة نادي حائل للقصة القصيرة سنة 2018م، وجائزة معهد الاعتدال للقصة القصيرة سنة 2021م.
يدرك إبراهيم الألمعي منذ دخوله في عالم الكتابة أنّه يخوض في مجالات مختلفة، فقد دخل ميدان القصة، والرواية، والنقد الأدبي، والسِّيَر والتراجم، والمباحث الإسلامية واللغوية، والجمع والتحقيق لتراث الأدباء والشعراء، وتسطير السيرة الذاتية والذكريات، كما يدرك أن مجال المقالة الأدبية الذي لم يلق اهتمامًا بعد جيل الروّاد سوف يلقي الضوء على موضوعات كثيرة متشعبة، وأنه لا بد من الدخول في هذا الميدان للحفاظ على النهج المعهود من ناحية، ومن ناحية أخرى فهو يعالج من خلاله قضايا اجتماعية وثقافية متعددة؛ كمقاله «من مظاهر الزيف الثقافي» و»الوقوف على حافة الشهرة» و»المثاقفة عن بعد» وغيرها.
وللأستاذِ مقالاتٌ بحثية رائعة تدلّ على أنّه باحث متمكن، لو تفرغ للتصنيف الخالص لأبدع الكثير، وأشير هنا إلى مقالتين رائعتين، هما «نشأة الكتابة المقالية في المملكة العربية السعودية»و»مقدمة ابن خلدون»، حيث ألم في الأولى بتاريخ دقيق لفن المقالة في المملكة العربية السعودية منذ ظهرت حتى اكتملت وتعددت مع ذكر أبرز رجالاتها، وقد تطرق للحديث عن أبرز أنواع المقالة بكلام موجز يستفيد منه الباحثون، كما تكلم في الثانية بدقة حصيفة عن مكانة مقدمة ابن خلدون عند العلماء، وعدها ركنًا أساسيًا في بناء الفكر الإنساني، وثمرة فكرية لمؤرخ وصِفَ بالعبقرية، ونبه على القصور الذي لحق الحياة المعاصرة في تلقي تلك المقدمة.
لقد انتفع الكاتب بتجاربه الشخصية والعملية، فسرد كثيرًا منها في كتبه ومقالاته، تحدث في كتابه «واسأل القرية» عن والده، عارضًا بعض الذكريات والمواقف التي تكشف لقارئها ملامح شخصيته، مبتعدًا عن الثناء العاطفي على شخصه، وفي كتابه «ذاكرة الطباشير» وهي جملة من المقالات في مجال التربية والتعليم تحدث عن أمور عظيمة تتعلق بالتعليم يذكر أصحابها بالأسماء، وهو كأي رجل إصلاحي يجب أن يكون موضوعيًا فيعقد المقارنة بين الماضي والحاضر، تلك المقارنة التي يستفاد منها في زيادة الوعي والإرشاد، وأفاض في الحديث عن بعض الأخلاق التعليمية المنتشرة، كما أبدع في الحديث عن بعض الشخصيات الرائدة في التعليم؛ كأستاذه محمد الزيداني الذي وصفه بالأديب الشاعر، والخطيب المصقع، والمتكلم النادر، الفصيح اللسان.
لقد عُرف الألمعي أول ما عرف بكتابة القصة القصيرة، فصدرت له أكثر من تسع مجموعات قصصية منذ أوائل هذه الألفية وحتى الآن منها: قطف الأشواك، وعلى رصيف الحياة، والتابوت، وأوشال حزينة، وحديث الرخام، وأوزار، وآخرها: سَورة حب، صدرت هذا العام2024م، كما صدرت له روايتان هما: جبل حالية، وعتق، وخمسة كتب في المقالة: أشتات، واسأل القرية، وذاكرة الطباشير، وجسور الحب والتعب، وأربعة كتب في السيرة الذاتية: العائشتان.. ظلال من حياتي التيمورية وبنت الشاطئ، وابن حزم العبقرية الأندلسية، والزاهر الألمعي زاهر بن عواض الألمعي: لمحات من حياته وتعريف بمؤلفاته، ومصطفى عبد الرازق الفيلسوف الكامل والإمام الفاضل، وعدة كتب في التراجم؛ كأعلام من ألمع في الثقافة والأدب، وقريبًا منهم.. شخصيات ألمعية، وعدة كتب في النقد والمراجعات والاختيارات؛ كمن طيبات أبي الطيب.. مختارات من روائع المتنبي، وروائع الطنطاوي، والطنطاوي والكتب.. نقدات ومراجعات، وجمع وترتيب لأعمال كاملة؛ كالمجموعة الشعرية للشاعر عبد الله الزمزمي، ولا تزال له كتب قيد النشر، وأخرى قيد التصنيف.
وإنّه من الحق أن يقال: «إن ما أخرجه الأستاذ من كتبٍ تأليفًا وجمعًا ودراسة واختيارًا ليعجز القرناء حتى ليأتوا خلفه تابعين» وهو تعبير تلقيت معناه عن أستاذي الراوية محمد رجب البيومي.
ولكلّ أديب رسالة مجتمعية تتعلق ببيئته، يحرص على نشرها في الحياة، ويدور حولها بادئًا ومعيدًا، ورسالة الألمعي للناشئة هي إيجاد المثال القدوة المتصف بأرقى الأفكار، وأنبل الأخلاق، وأنقى الفضائل، وفي سبيل ذلك حرص على تقديم نماذج عملية تحمل كلّ القيم الأخلاقية في صورة سير ذاتية لأعلام عرفناهم، هذا إلى جانب اعتزازه بتراث أجداده، وقد وجه نداء إلى التعلق بالموروث الحقيقي عن أجداده الألمعيين من الشيم ومكارم الأخلاق وصور الكفاح الذي مارسوه في طريق تطويع البيئة القاسية حتى تعيش الأجيال في كرم وعز.
إنّ ابن مضواح الألمعيّ أديبٌ خلَّاٌق، وقاصٌ وروائي، وكاتب بارع للسير الذاتية والتراجم، ذو قلم عميق الفكر، وأسلوب مكين، منمق اللفظ، رشيق العبارة، جذاب الملامح، سليم اللغة والأداء، صادق الشعور، مرهف الإحساس، من قرأ كتبه عرف أنه شخصية بحثية جادة، يختار موضوعاته بانتقاء، ويعالج قضاياه بالتحليل والمنطق، ويعتمد على أسلوب قوي البيان، ويسير ضمن خطة مرسومة هادفة، يكثر الحديث عن لمحات إنسانية هادفة في مقالاته، ويستحضر الإنسان القدوة في تراجمه، ويتجلى في كتابته روح التقدم الإنساني المتواصل، يستنبط جوانب العظمة والعصامية في حياة الكبار، ويدلل على الدروس البليغة وتَمَثَّـل القيم في سير الأعلام، ويصور البيئة التي عاش فيها بصدقٍ وحسن تصور، ويبتعد عن اللفظ العامي والكلام الحوشي والعبارة الركيكة، ويتوكأ في أسلوبه على ألفاظ القرآن الكريم والسنة المطهرة الشريفة ينشرها في ثنايا قصصه وتراجمه ومقالاته من حين لآخر.
جمع في يراعه بين جمال عسير، وعظمة الحجاز، وتاريخ العراق، وأمجاد مصر، وسحر الشام، وفوق ذلك دراسة وافية، وقراءة واعية، وثقافة نيرة، وذاكرة حية، ولباقة شديدة، وبديهة حاضرة، وروح ملتهبة، وفكر مستنير، ولون صريح، وطابع واضح، وقيم عظيمة، وسماحة نفس، ودقة وصف، وبراعة سرد، والتقاط صور، وجمال قص، وإرادة فاعلة، وتعلق بالمعالي، وانشغال بالذات، وإقبال على الآخرين.
وأنا بمتابعتي لأكثر ما كَتبَ وبمعرفتي ميوله الثقافية أعلم أنه يجلّ علماء مصر، وقد تأكد ذلك عندي حين بعث إلينا بكتابه الجديد «مصطفى عبد الرازق الفيلسوف الكامل والإمام الفاضل» فرأيت في كتابه هذا أنّه يعظم الإمام مصطفى عبد الرازق «شيخ الأزهر» تعظيمًا لا يصل إلى مستواه عالم آخر من علماء العصر الحديث، ويعدّه الإمام المتعدد الأبعاد، المتنوع المواهب، والمتميز السمات، ويراه رائد الفلسفة الإسلامية، والمرشد الروحي، والمتعمق في التراث العربي، والدارس للعلوم الغربية، ويصفه بالعَلَم في تاريخ الفكر الفلسفي المعاصر، والأستاذ البحاثة.
وبديهيّ أن يكون الأديب المتمكن ممن تعلق في بداية نشأته ببعض الشخصيات الأدبية المعاصرة التي سيطرت على فكره، وأخذت بمجامع قلبه، ولا نعني بذلك التقليد والمتابعة، ولكننا نؤكد أنه الاشتغال بكتبها والانتفاع بتراثها، وهذا ما كان منه مع الأستاذ علي الطنطاوي، فاشتغل بكتبه مدة من الزمن، وأخرج لنا من كنوز كتبه تلك المصنفات الرائعة: روائع الطنطاوي، والفوائد الطنطاوية، والطنطاوي بعيونٍ مختلفة، والطنطاوي والكتب.
وأرجو أن يخص آثار الطنطاوي بمصر بمزيد من البحث والجمع والتحقيق، تلك الأمنية التي حرص على تحقيقها أستاذي الراوية محمد رجب البيومي، ولكن الظروف حالت دون ذلك؛ ذلك أن الأستاذ علي الطنطاوي أصدر كتبًا خاصة بذكرياته عن بغداد ودمشق وإندونيسيا، ولم يفرد كتابًا خاصًا بمصر، فرغب في ذلك أستاذنا البيومي وكتب إلى صاحب دار المنارة التي تنشر مؤلفات الطنطاوي، وزاد على ذلك فوضع له فهرسًا يجمع هذه الآثار محددًا أماكنها، لكن ظروف النشر حالت دون ذلك. تلك أمنية بيومية أرجو أن تتحقق على يد هذا الألمعي!
لم ينس الأديب إبراهيم الألمعيّ أن يوجه الاهتمام والتحية إلى هؤلاء الجنود الحقيقيين المجهولين القابعين خلف أسوار المدارس والجامعات، يسابقون الزمن في إخراج أجيال ناشئة تتحمل المسؤولية وأداء الواجب، ويجتهدون في تزويدهم بأبرز العلوم الحديثة، ويتولون في سبيل ذلك المشقات، فترجم لكوكبة من خيار المعلمين الذين نهضوا بالتعليم بمنطقة عسير جنوب المملكة العربية السعودية في كتابه قيد الطبع «رواد التعليم في رجال ألمع حتى عام 1400هـ».
وأمضي مع الألمعي في مجال رئيس آخر من مجالات عنايته، هو مجال التراجم، ويتضح حجم هذا الاهتمام من خلال تأمل عدد من الكتب التي عكف على تصنيفها مثل كتابه «أعلام من ألمع في الثقافة والأدب»؛ ويكفي لبيان مقدار الجهد وحجم الإنتاج أنه كتب أكثر من كتاب في الترجمة الذاتية لبعض الأعلام؛ ككتابيه «ابن حزم العبقرية الأندلسية»، والزاهر الألمعي: زاهر بن عواض الألمعي» ومما أعجبني أنه قد حدد الغاية في كتابه «مصطفى عبد الرازق الفيلسوف الكامل والإمام الفاضل» من كتابة تلك التراجم النيرة للأعلام حين قال: «ففي دراسة سير هذا الطراز الرفيع من الرجال يَلْتَمِعُ قبس من ضوء يوري شعلة أمل، تضيء للأجيال دروب الفضائل، والقيم السامية، وإن قصرت بنا أنفسنا الأمارة دون التشبه بهذه القمم فلا أقلّ من أن نلتذ بأحاديثهم، ونتعزى بأخبارهم». اهــــ
ومنهجه العام في كتابة التراجم كما اتضح لي هو منهج المؤرخ ذي الرسالة الهادفة، فهو يذكر الأحداث ولا يكتفي بسردها، بل يشفعها بمزيد من التحليل والتدقيق، ومن خلالهما يصل بذلك إلى نتائج مهمة يوظفها في إضافة كثير من القيم المجتمعية والتركيز عليها.
إبراهيم الألمعيّ: ذلكم الأديب المكين، علمٌ من أعلام الأدب السعودي الحديث، أعانه على التبريزِ النفوذُ البعيدُ في القراءة الواعية، والبُصْرُ الشديد بضروب المعارف، والإلمام المحيط بثقافة عصره، والإدراك المبكر لعادات قومه، والعلم الواسع بالقيم والأخلاق المجتمعية وأخبار الرجال، والطبع المليء بالمكارم والمعالي، والصبر الشديد في البحث والكتابة، والمشاركة الظاهرة في المجالات الأدبية المتعددة، والحرص التام على تقديم الموضوعات النافعة، والاتصال الدائم بعلماء البلدان.
** **
- د. علي زين العابدين الحسيني