يُعدّ الشاعر والناقد الإنجليزي ماثيو آرنولد (1822-1888م) من أبرز مفكري العصر الفيكتوري في القرن التاسع عشر، حيث ترك بصمة واضحة في النقد الأدبي والفكر الثقافي. كرّس آرنولد كتاباته لتحليل المجتمع الثقافي والأدبي الإنجليزي، مؤكدًا على أهمية القيم الثقافية. وفي مقاله “وظيفة النقد”، شدّد على أن النقد الأدبي الجيد، كما الأدب نفسه، هو “نقد للحياة”، وأنه يشكّل قوة فاعلة في بناء مجتمع متحضر.
تميّز آرنولد بكتاباته المتنوعة التي شملت الأدب، والنقد، والسياسة، والدين، والاجتماع، مما جعله من أوائل نقّاد العصر الحديث. كما وضع الأسس الفكرية التي سار عليها العديد من نقاد القرن العشرين، مثل ت. س. إليوت.
تناول الكاتب علي أدهم في بحثه، الذي نشرته الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1994م، أبرز إسهامات آرنولد النقدية، مستعرضًا سيرته التي لم تقتصر على كونه شاعرًا وناقدًا، بل كان أيضًا معلمًا ومصلحًا اجتماعيًا يحمل آراءً دينية وسياسية مؤثرة. وقد تضافرت مواهبه المتعددة، حيث كان نقده الأدبي يعين الشاعر في فهم جوهر الشعر، بينما كانت شاعريته تلهم الناقد فيه، في حين دعمت رؤيته التربوية دوره كمصلح اجتماعي ومفكر. لذا أصبح آرنولد شخصية بارزة في العصر الفيكتوري، ووصفه ت. س. إليوت بأنه «أصلح كُتّاب عصره».
نُشرت أولى فصول كتاب آرنولد في النقد عام 1865م، حيث استهلّه بمقال «وظيفة النقد في العصر الحديث»، وفيه أكّد أن الموهبة النقدية للشاعر لا تقلّ شأنًا عن القوة الإبداعية، مشيرًا إلى أن وردزورث لم يكن مجرد شاعر عظيم، بل كان أيضًا ناقدًا متميزًا، وكذلك كان جوته أحد أعظم نقاد الأدب. وشدّد آرنولد على أن الإبداع الأدبي لا يمكن أن ينشأ بمعزل عن إعداد فكري وثقافي عميق، إذ تتغذّى العبقرية الأدبية على الأفكار، ولا تكمن عظمتها في اختراعها، بل في استيعابها، وتركيبها، وإبرازها بأسلوب مؤثر. ويرى أن إنتاج أعمال أدبية عظيمة يتطلب تضافر قوتين: قوة الفرد، وقوة العصر.
واصل آرنولد تعزيز رؤيته، موضحًا أن قيمة الشاعر الحديث لا تتحقق إلا إذا جاءت نتاج مجهود نقدي كبير، وإلا فإنه سيظل عاجزًا عن إبداع أدب خالد. واستشهد بشعري بيرون وجوته، حيث رأى أن القليل من شعر بيرون سيقدر له البقاء، في حين أن الكثير من شعر جوته سيظل مؤثرًا؛ والسبب في ذلك أن جوته تلقّى دعمًا فكريًا ونقديًا واسعًا، مما أتاح له إنتاج أدب أكثر عمقًا واتساعًا.
ويؤكد آرنولد أن بروز القوة الإبداعية في الأدب الإنجليزي خلال الربع الأول من القرن التاسع عشر لم يكن مصحوبًا بحركة فكرية تدعمه بالأفكار الملهمة، وهو ما انعكس سلبًا على جودة الإنتاج الأدبي في تلك الفترة. كما يشير إلى أن إنجلترا في عهد شكسبير، واليونان في عهد بندار وسوفوكليز، شهدتا ازدهارًا أدبيًا بسبب وفرة الأفكار الذكية والنشطة التي حفزت الإبداع الشعري.
ويرى آرنولد أن الثورة الفرنسية، رغم تأثيرها العميق، لم تُنتج أدبًا يضاهي أدب ثورة اليونان أو عصر النهضة، لأنها كانت حركة فكرية وروحية خالصة لم تتجه إلى مسار سياسي عملي كما حدث في الثورة الفرنسية. بل إن فرنسا في عهد فولتير وروسو، أي قبل الثورة، أثّرت في العقل الأوروبي أكثر مما فعلت خلال عهد الثورة نفسها.
يرى ماثيو آرنولد أن النقد، في جوهره الواسع، هو محاولة لاكتشاف أفضل ما عرفه البشر وأرقى ما فكروا فيه. وينتقد معاصريه لاعتمادهم على الاعتبارات العملية والأهداف السياسية عند تقييم الأفكار، مؤكدًا أن النقد لكي يؤدي دوره الفعّال يجب أن يسمو فوق المصالح والأغراض، ويتحلى بالنزاهة المطلقة، مع إعطاء العقل حرية كاملة في التحليل والتقييم. ويكرر آرنولد أن وظيفة النقد تكمن في إيصال أعظم ما توصل إليه الفكر الإنساني، مما يخلق تيارًا من الأفكار الصادقة والمؤثرة.
في الفصل الثاني من الجزء الأول من كتابه، يناقش آرنولد دور الأكاديميات الأدبية في حماية اللغة من الابتذال وسوء الاستخدام، من خلال وضع قواعد وأصول ثابتة تضمن قدرتها على مواكبة التطور الفني والعلمي، مع الحفاظ على نقائها وأصالتها. كما يؤكد أهمية وجود معايير موحدة يُرجع إليها في المسائل اللغوية، بحيث يكون حكمها حاسمًا، مما يمنع اللغة من التعرض للتحريف أو التشويه. ويستشهد بتجربة الأكاديمية الفرنسية، التي وضعت معايير صارمة للجودة والدقة، مما منحها مصداقية عالية. ومن هذا المنطلق، ينتقد آرنولد أسلوب بعض كبار الكتّاب المعاصرين له، موضحًا ما في كتاباتهم من مبالغة وانحراف عن الذوق الرفيع، ويرجع ذلك إلى غياب هيئة أكاديمية تحمي اللغة وتوجه استخدامها.
خصص آرنولد فصلًا للحديث عن الشاعر الفرنسي موريس دي جيران، متناولًا مفهوم (قوة الشعر)، حيث يرى أن أعظم ميزاته تكمن في قدرته على التفسير العميق للحياة. ويقول في هذا السياق: «تكمن قوة الشعر العظيمة في قدرته على التفسير، وعلى تناول الأشياء بطريقة توقظ فينا إحساسًا مكتملاً بها، يجعلنا نشعر بأننا على اتصال بجوهرها، وكأننا وقفنا على سرّها. فالشعر في جوهره يمنحنا فهمًا للحياة بطريقة فريدة». ويؤكد آرنولد أن هذه الميزة هي التي تجعل التفسير الشعري متفوقًا على التفسير العلمي؛ إذ يرى أن العلماء مهما بلغت قدرتهم لا يستطيعون كشف أسرار الطبيعة ومعناها الحقيقي، كما يفعل الشعراء العظام أمثال شكسبير وكيتس.
أما الجزء الثاني من كتاب آرنولد في النقد، فقد نُشر بعد وفاته عام 1888م حيث كان قد أعدّه بنفسه قبل رحيله. ومن أبرز فصوله فصل بعنوان: (دراسة الشعر)، الذي يستعرض فيه أهمية الشعر في عصره. يبدأ آرنولد هذا الفصل بقوله: «مستقبل الشعر عظيم، فكل المذاهب معرضة للشك، وكل التقاليد مهددة بالاندثار، لكن جوهر الشعر خالد، والباقي عالم من الوهم». ويشير هنا إلى الصراع الذي اندلع بين العلم والدين في القرن التاسع عشر، والذي أدى إلى زعزعة أسس المعتقدات الدينية، وظهور الشكوك حول العادات والتقاليد المرتبطة بها. ويرى آرنولد أن الشعر قادر على ملء الفراغ الذي خلفه تراجع الدين، وأنه مؤهل لهذه المهمة العظيمة.
يستشهد آرنولد بقول ووردزورث إن الشعر هو «التعبير الحماسي الذي ينعكس على ملامح جميع العلوم»، مشيرًا إلى أن المعرفة تظل ناقصة ما لم يكن لها تعبير شاعري يعكس جوهرها وروحها. لكنه يشدد على أن الشعر الذي يستحق هذه المكانة هو فقط ذو الطراز الرفيع، الذي يعتمد على معايير نقدية صارمة وأحكام دقيقة. وينقل عن الناقد الفرنسي سانت بيف قوله إن الزيف لا يجد مكانًا في الفكر والفن، لأن الشعر، باعتباره مزيجًا من الاثنين، يرفض التهاون في التمييز بين الجيد والرديء، والرفيع والمتواضع.
يؤكد آرنولد أن الشعر كلما ارتقى بمستواه، ازدادت قدرته على نقد الحياة، وهذه هي الوظيفة التي تحتاجها الإنسانية لتعزيز العزيمة وبث البهجة. لكنه يحذر من خطأ شائع، وهو استبدال التقدير الفني الحقيقي بتقدير شخصي أو تاريخي للشاعر، مما قد يعيق فحص الأعمال الأدبية بموضوعية، ويفرض نماذج غير جديرة بالاحتذاء. لذا ينصح بقراءة الأعمال الكلاسيكية بعين ناقدة، دون أن تعمينا عن جوهرها وأهميتها.
إن دراسة الشعر لا تقتصر على تصنيفه تاريخيًا أو لغويًا، بل ينبغي أن تركز على قيمته الفنية في ذاته. فالنظر النقدي العميق يمكّننا من الاستمتاع بالشعر الرفيع بعيدًا عن التقديرات التقليدية التي قد تحصره في أبعاد ضيقة.
من هذا المنطلق، يحدد ماثيو آرنولد معاييره لجودة الشعر، حيث يرى أنها تعتمد على عنصرين أساسيين: الموضوع والمادة من جهة، والأسلوب والنسق من جهة أخرى. ويوضح هذه الفكرة بقوله: “عندما نتحدث عن مادة الشعر وموضوعه وعن أسلوبه كأنهما منفصلان، ولكنهما في الواقع غير ذلك. فالشعر المليء بالمعاني الصادقة لا بد أن يكون في الوقت ذاته حسن الأسلوب، متقن الأداء، كشعر هوميروس، ودانتي، وشكسبير”. ومن هذا المنظور، يؤكد آرنولد أن الشعر، بل الأدب عمومًا، هو في جوهره «نقد للحياة»، وأن عظمة الشاعر تكمن في قدرته على تطبيق الأفكار على الحياة بأسلوب قوي ومؤثر.
كان آرنولد من أوائل النقاد الغربيين الذين أدركوا قيمة الأدب الروسي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ففي دراسته عن تولستوي، يقول: “الروائي الروسي يمتلك سحرًا خاصًا، يجعله قادرًا على كشف أسرار الطبيعة الإنسانية طوعًا”. ويلاحظ، وهو محق في ذلك، أن الشعر هو تاج الفنون، لكن الروس لم يكن لهم شاعر عظيم، في حين أنهم تألقوا في فن الرواية، وكان تولستوي في مقدمتهم. ويخصه آرنولد بفصل كامل، مشيدًا بروايته (آنا كارنينا) حيث يقول عنها: «إننا لا ننظر إليها باعتبارها عملًا فنيًا فحسب، بل نراها قطعة من الحياة ذاتها!».
وفي ختام هذه المسيرة النقدية المتميزة، يشير الناقد سكوت جيمس إلى الدور الريادي لآرنولد في النقد الأدبي قائلًا: «لم يكن آرنولد ناقدًا فحسب، بل كان معلمًا للنقد. لقد وضع مبادئ، وإن لم يلتزم بها دائمًا، إلا أنه جعل من قراء أعماله نقادًا بطبيعتهم».
** **
- هياء الشريف