صدر هذا الكتاب (صدر عن دار أليري الفرنسية للنشر في حوالي 216 صفحة) يلقي الضوء على الممارسات الجديدة للنخب الفرنسية ويكشف عن التواطؤ القائم بين الهيئات الاستشارية والطبقة الحاكمة في فرنسا.
منذ ما يقرب من ثلاثة عقود، اخترقت شركات الاستشارات كل جانب من جوانب الإدارة الفرنسية، في التحقيق الذي أجراه مراسلا مجلة لو نوفيل أوبسرفاتورLe Nouvel Obs، يلاحظ ماثيو آرون Matthieu Aron وكارولين ميشيل أجوير Caroline Michel-Aguirre ان كل الوزارات والقطاعات في فرنسا لم تسلم من الجشع الذي تمارسه هذه الشركات الاستشارية داخل أورقة وزارات الصحة والدفاع والتعليم الوطني والعدل والداخلية والشؤون الخارجية والاقتصاد وحتى مكتب رؤساء الوزارات.
صرح المؤلفان أنهما أمضيا أياما طوالاً في مراجعة وفحص آلاف العقود التي تم إسنادها الى هذه الهيئات الاستشارية من أجل إعادة هيكلة الخدمات العامة والنظام الصحي على وجه التحديد. وخلص المؤلفان إلى أن المبالغ التي يتم دفعها للهيئات الاستشارية تتراوح كل عام بين 1.5 و3 مليار يورو. إلا أنه لا يمكن تحديدها بدقة، لأن الوزارات لا تعلن عن تكاليف الاستشارات الخاصة بها.
في هذا الكتاب أجرى ماثيو أرون وكارولين ميشيل أجوير مقابلات مع العشرات من موظفي الخدمة المدنية وعدد من المسؤولين الحكوميين للإجابة عن السؤالين المحورين التاليين: كيف تتخلى الدولة عن سلطاتها السيادية لصالح الشركات الخاصة التي تحقق أرباحا هائلة؟ وكيف تتهرب هذه الشركات من الضرائب بشكل قانوني؟
في هذا الكتاب، يندّد المؤلفون بالنظام الفرنسي الفاسد والعاجز عن إدارة شؤون البلاد بنفسه، ومن خلال هذا التحقيق، أكد المؤلفان على أن الحكومة المهووسة بوسائل الإعلام لم تعد قادرة على السيطرة على أي شيء، الأمر الذي جعلها تتنازل عن السلطة لصالح قوى خارجية، مثال ذلك: «تراخيص سير السيارات» «وكاميرات مراقبة السرعة على الطرق» التي تديرها شركات خاصة.
إن كتاب المتسللون الذي يهدف في المقام الأول إلى استعراض أسباب تغلغل الهيئات الاستشارية بشكل تدريجي على مدار الأعوام الماضية في الجهاز الحكومي الفرنسي، يشرح كيف أن الحكومة الفرنسية أصيبت بالذعر في مواجهة كوفيد 19 بسبب عجزها عن تنفيذ خطط معالجة الأزمة، ولهذا منحت على عجل عقودا ضخمة للشركات الاستشارية: فبعد تسعة أشهر من بداية الأزمة الصحية، أصدرت شركة ماكينزي الأمريكية McKinsey فواتير بقيمة 10.7 مليون يورو، مما يدل على فقدان وزارة الصحة للكفاءة اللازمة لإدارة الأزمة.
في هذا الكتاب، نقرأ عن الخسائر الكبيرة التي مَنيَ بها قطاع الصحة حيث تم إلغاء 80 ألف سرير خلال عشرين عاما علما بأن 20% منها غير مستخدم بسبب نقص الكوادر الطبية في خريف عام 2021. نفس شركة ماكينزي McKinsey حصلت على 4 ملايين يورو مقابل إصلاح إعانات الإسكان المقدمة للفرنسيين. أيضا تدخلت شركات استشارية أخرى خلال أزمة مظاهرات أصحاب «السترات الصفراء» من أجل إعداد مسودة بالمقترحات المقدمة للحكومة.
يشير مؤلفا هذا الكتاب الى أن الحكومات الفرنسية أقدمت على زيادة نسبة المهام الموكلة إلى عدد من الشركات (باين Bain وبي سي جي BCG وكاب جيميني Cap Gemini ورولاند بيرجر Roland Berger) والتي استولت بدورها على كمية هائلة من البيانات السرية الخاصة بالعملاء، الأمر الذي وضعها في موقف قوة أثناء الدعوة لتقديم العطاءات اللاحقة للفوز بعروض الحكومات المتتابعة، علما بأن هذه البيانات، وفقا لهذا الكتاب، يتم تخزينها على خوادم أمريكية (AWS)، وبموجب تشريع قانون الحوسبة السحابية، يمكن للولايات المتحدة الأمريكية أن تطلب الوصول إلى مجمل تلك البيانات.
يشير المؤلفان، من خلال المعلومات الواردة في هذا الكتاب الى أن هناك علاقة محرمة بين الطبقة الحاكمة الفرنسية وهذه الشركات الخاصة: فمدير شركة ماكينزي McKinsey، فيكتور فابيو Victor FABIUS، هو ابن لوران فابيو Laurent FABIUS، رئيس المجلس الدستوري الفرنسي من 8 مارس 2016 الى 8 مارس 2025. كما يشير المؤلفان أيضا إلى التواطؤ مع مؤسسة مونتين fondation Montaigne وتأثير الشركات الأربع (باين Bain وبي سي جي BCG وكاب جيميني Cap Gemini ورولاند بيرجر Roland Berger) على التعليم وبعض مراكز الفكر في فرنسا.
يسلط كتاب «المتسللون» الضوء على العجز الرقمي للدولة بما أن كل مشاريع تكنولوجيا المعلومات تحولت إلى هوة لا قعر لها لأنها تتجاوز المواعيد النهائية والميزانيات الأولية التي تم تخصيصها لهذه المشاريع.
ختاما: من الملاحظ أن تسلّل هذه الشركات ظلّ بعيدا عن أنظار وسائل الإعلام والبرلمان لفترة طويلة، لكن لا شيء يدوم للأبد، فلقد أصبحت مخالفات هذه الهيئات موضوعا للنقاش منذ بداية عام 2021م، خاصة عندما تم اكتشاف تغلغل شركة ماكينزي الأمريكية في مفاصل الدولة الفرنسية. وبما أن هذه الأخيرة قد تخلت عن مهامها الإستراتيجية لصالح هيئات استشارية أغلبها ذات ميول أنجلوسكسونية، فقد أصبحت مفاصل الدولة الفرنسية بجميع قطاعاتها كالصحة والتعليم وأيضا القطاعات الأكثر حساسية مثل وزارة الدفاع خاضعة لهيمنة هذه الهيئات وملتزمة بتنفيذ ما يصدر عنها من توصيات على الرغم من مخرجاتها المتواضعة في كثير من الأحيان، الأمر الذي يثير مخاوف تتعلق بسيادة وأمن فرنسا.
** **
د. أيمن منير - أكاديمي وكاتب مصري