كان العصر الفيكتوري عصر رخاء وتوسع في الاقتصاد والسياسة والفكر، وهو عصر ينسب للملكة فيكتوريا التي أصبحت ملكة لبريطانيا العظمى سنة 1837م، وبقيت في الحكم مشكّلة ثاني أطول فترة حكم في تاريخ بريطانيا حتى وفاتها عام 1901م، وهذه البضع والستون عامًا تقريبًا هي ما يُعرف في مجال التاريخ والأدب والفكر والفنون بالعصر الفيكتوري، وفيه توسعت المملكة المتحدة ووصلت لأوج اتساعها حتى غطّت بمستعمراتها ربع الكرة الأرضية وأصبحت الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس. كان لهذا الاتساع والتغير في السياسة والاقتصاد أثره على الفكر والأدب والثقافة، فازداد عدد المثقفين والكتّاب الإنجليز منذ خمسينيات القرن التاسع عشر، فازدهرت الكتابة وظهر الكتّاب البارزون في السياسة والاقتصاد والاجتماع والفكر والأدب، وازدهرت هذه المجالات عمّا كانت عليه قبل العصر الفيكتوري.
يعتبر الأدب الفيكتوري مرحلة هامة في تاريخ الأدب الإنجليزي، حيث شهدت إنجلترا في عصره تطورًا وتغيرًا كبيرًا في الفكر والأدب والثقافة ساعد على هذه التغيرات الأحوال الجيوسياسية للمملكة المتحدة بريطانيا العظمى في ذلك العصر، حيث اتسعت البلاد وانتشرت مستعمراتها في جميع بقاع العالم في ذلك الوقت وتدفقت الثروة بشكل لم يكن معتادًا من قبل على البلاد.
أخذ الأدب الفيكتوري ينحو نحو الانتقال من الرومانسية التي كانت مسيطرة على الأدب قبل العصر الفيكتوري إلى شيء من الواقعية، وأصبح للطبقة العاملة بعض التأثير على الثقافة، حيث أخذت الأعمال الأدبية في هذا العصر تركز على تصوير حياة الناس والمجتمع بشكل أكثر واقعية، وتميزت أدبيات العصر الفيكتوري بتصوير عامة الناس والحياة الصعبة وإعطاء الدروس الأخلاقية، وبدأ الأدباء والمفكرون في العصر الفيكتوري في الاهتمام بالقضايا الاجتماعية والاقتصادية والفكرية والسياسية مثل الحرية وسبل تحسين الصحة في المجتمع وحقوق المرأة وغيرها من القضايا والأفكار الأخرى.
ومن القضايا الاقتصادية التي اهتم بها كتّاب وأدباء العصر الفيكتوري التباين الاقتصادي بين الطبقتين المتوسطة والعليا من ناحية وحالة الطبقة الفقيرة من عمال المصانع والمزارعين من ناحية أخرى الذين لم يستفيدوا شيئًا يذكر من رخاء العصر الفيكتوري وتوسع مستعمرات إنجلترا على مستوى العالم، مما دعا رئيس الوزراء البريطاني بينجامين ديزرائيلي إلى وصف إنجلترا ببلد الأمتين، إحداهما غنية والأخرى فقيرة.
وظهرت رواية «أوليفر تويست» لتشارلز ديكنز التي تطرق فيها للظلم الاجتماعي في العصر الفيكتوري والمعاملة القاسية التي تعرض لها الكثير من الأيتام في لندن في منتصف القرن التاسع عشر.
وتتميز الأعمال الأدبية من الروايات والشعر والمسرحيات التي كتبت في العصر الفيكتوري بالواقعية وبالتركيز على الطبقة المتوسطة، وتناول المواضيع الاجتماعية والسياسية والإنسانية، حيث اهتم العصر الفيكتوري بشكل عام بقضايا المجتمع والأخلاق والدين والحياة اليومية والأفكار الاجتماعية والفكرية وقضايا الظلم والفقر والتمييز العنصري وغيرها. وتطورت الرواية والقصة القصيرة في هذا العصر وظهر الوصف الدقيق للمشاهد والأحداث والشخصيات في السرد.
تميّز الأدب الفيكتوري بتشكيلاته المختلفة في مجال الرواية والقصة والمسرحية والمقالات والفنون التشكيلية، فعلى مستوى السرد والرواية ظهرت الرواية الضخمة الطويلة، فظهرت روايات طويلة مثل «رواية «مذكرات بيكويك» التي كتبها «تشارلز ديكنز» سنة 1836م ورواية «دار الغرور» التي كتبها «ويليام ثاكري» سنة 1848م. وظهرت العديد من الأعمال الأدبية الإنجليزية الخالدة في العصر الفيكتوري منها على سبيل المثال: رواية «آلة الزمن» ورواية «حرب العوالم» لهربرت جورج ويلز، ورواية «قضية دكتور جيكل ومستر هايد» لروبرت لويس ستيفنسون، ورواية «الأدغال» ورواية «الرجل الذي سيصبح ملكًا» لروديارد كيبلينغ، وشعر «الموت في الوادي» لآرثر هالام.
ازدهر في العصر الفيكتوري الأدب بشكل عام، وبالأخص الرواية، لذا فمن غير المستغرب أن العديد من الأعمال الأدبية الشهيرة والخالدة هي في الواقع كتبت في العصر الفيكتوري، ومن تلك الأعمال: قصيدة الباحث «جيبسي» 1853م، كتاب «الثقافة والفوضى» 1869م وهو كتاب نقدي شهير لـ»ماثيو أرنولد»، ومن الروايات الشهيرة في العصر الفيكتوري: رواية «محنة ريتشارد فيفاريل» 1859م للروائي الإنجليزي «جورج ميريديث»، ورواية «مدل مارش» 1872م لـ»جورج إليوت» وهو الاسم المستعار للروائية والشاعرة الإنجليزية «ماري آن إيفانس»، ورواية «الأناني» 1879م وهي رواية كوميدية لـ»جورج ميريديث» أيضًا، ورواية «عمدة كاستربريدج» 1886م لـ»توماس هاردي».
ومن أبرز أدباء العصر الفيكتوري، من الروائيين: تشارلز ديكنز والذي يُعتبر أعظم الروائيين الإنجليز في العصر الفيكتوري، وتوماس هاردي، وجورج إليوت، وروبرت لوي س ستيفنسون، والأخوات الثلاث الروائيات شارلوت برونتي وإيميلي برونتي وآن برونتي، وإليزابيث غاسكل، وأنطوني ترولوب، وجورج غيسينغ وغيرهم.
أما الكتّاب والنقاد والشعراء فمن أبرزهم في العصر الفيكتوري: الكاتب والناقد جون راسكن، والكاتب والناقد توماس كارليل، والكاتب والشاعر ألفريد تنيسون، والكاتب والشاعر روبرت براونينغ وغيرهم كثير.
وكان لهؤلاء الكتّاب والنقاد والأدباء العديد من الاتجاهات الفكرية والأدبية المختلفة التي ساعد اختلافها وتنميتها بالكتابة والإبداع من قبل معتنقيها إلى تشكّل الأدب الإنجليزي الحديث.
ساعد في الإبداع الأدبي في العصر الفيكتوري بعض الوسائل التي وجدت في ذلك العصر كظهور بعض المواد والطرق الجديدة في الكتابة، فالمطبعة البخارية جعلت إنتاج النصوص أسهل بكثير، كما أن السكك الحديدية يمكن أن توزع النصوص بسرعة وسهولة ويسر، كل ذلك ساعد في ازدهار النتاج الأدبي والثقافي والفكري في العصر الفيكتوري.
وخلاصة الحديث عن الأدب الفيكتوري أنه كان عصرًا أدبيًا من عصور الأدب الإنجليزي ظهرت به العديد من الأسماء اللامعة والشهيرة والأعمال الأدبية الخالدة حتى الآن.
الأدب الفيكتوري هو عصر أدبي ساعدته بعض الظروف السياسية والاقتصادية للتشكّل والظهور وسار بالأدب في إنجلترا شوطًا مهمًا وكبيرًا في ذلك العصر، وكان للأدب الفيكتوري دور فعال ومهم في تشكيل وبلورة الأدب الإنجليزي وانتشاره في أوروبا والعالم، وتمدّد تأثيره في الأدب العالمي فيما بعد.
** **
د. ساير الشمري - دكتوراه في الأدب والنقد
@Drsayer_