عبدالله العولقي
إن كان أبو الطيب المتنبي قد شَغَل الناس جميعاً، عامّتهم ونخبتهم فقد استأثر أبو العلاء المعري أنْ يشغل النخبة فقط، وحسبه ذلك، فقد كتب عنه كبار الأدباء والمفكرين واختلفوا فيه أيّ اختلاف، وذهب كلُّ واحدٍ منهم في طريق يختلف مساره عن الآخر، وقد يصل بينهما الرأي إلى حد التناقض والاختلاف!، منهم من رآه مؤمناً تقياً ملتزماً بالدين، ومنهم من رآه زنديقاً كافراً ملحداً، وحول شخصيته وأدبه وثقافته كتب عنه نخبة الثقافة العربية كعباس محمود العقاد وطه حسين وعائشة بنت عبدالرحمن (بنت الشاطئ) وأمين الخولى وهادى العلوى وعبد الله العلايلى ولويس عوض ويوسف البديعى وعمر رضا كحالة وعلى كنجيان ويوحنا قمير وياقوت الحموى ويوسف سركيس ويوسف أسعد داغر والقفطى وابن العديم وغيرهم كثير.
المعري ظاهرة ثقافية عربية تستحق التأمل والدراسة والبحث، كان يعشق المعرفة بكل فنونها إلى درجة كبيرة جداً، وعلى الرغم من عاهة العمى التي لحقتْ به وحاجة الفقر والعوز الشديد فقد سافر في طلب العلم والمعرفة، رحل إلى حلب ثم إلى انطاكيا ثم طرابلس الشام ثم وجه رحله جنوباً إلى صنعاء اليمن، ثم رحل إلى بغداد وهناك مكث فيها مدة طويلة، حيث التقى بعلمائها وأدبائها وشعرائها، هذه الزيارة التاريخية للعراق كان لها أكبر الأثر على نفس المعري إلى درجةٍ كبيرة، فقد ظل يذكرها حتى وفاته:
يا لهفَ نفسي على أنّي رجعتُ
إلى هذي البلادِ ولمْ أهلكْ ببغدادا
يقول عباس محمود العقاد في كتابه رجعة أبي العلاء: ثلاثُ علاماتٍ من اجتمعن له كان من عظماء الرجال، وكان له حقٌ في الخلود: فرط الإعجاب من محبيه ومريديه، وفرط الحقد من حاسديه والمنكرين عليه، وجوٌ من الأسرار والألغاز يحيط به كأنه من خوارق الخلق الذين يُحار فيهم الواصفون ويستكثرون قدرتهم على الآدمية، فيردون تلك القدرة تارةً إلى الإعجاز الالهي، وتارةً إلى السحر والكهانة، وتارة إلى فلتات الطبيعة إن كانوا يؤمنون بما وراءها، وهذه الثلاث علامات تجتمع في شخصية أبي العلاء المعري على نحوٍ نادرٍ في تاريخ الثقافة العربية، لا يشاركه فيه إلا قليل من الحكماء والشعراء، فهو في ضمان الخلود منذ أحبه من أحب، وكرهه من كره، وتحدث عنه من تحدث كأنه بعض الخوارق والأعاجيب!.
لقد بلغ من منزلته الأدبية أن وقف على قبره نيفُ وثمانون شاعراً يرثونه بعيد وفاته!، فكان بلاغ قولهم مطلع قصيدة لأحدهم وهو أبو الفتح الحسن بن عبدالله بن حصينة، حيث يقول:
العلم بعد أبي العلا مضيّعٌ
والأرض خاليةُ الجوانب بلقع
حديثنا اليوم عن عبقرية نادرة في ثقافتنا العربية، ويعد مع بشار بن برد وعبدالله البردوني أهم ثلاثة شعراء عميان في تاريخ الأدب العربي كله، والملاحظ حول هؤلاء الثلاثة تكثيفاتهم الطاغية للتشبيهات الحسية البديعة بصورة عجيبة، فهل كانت محاولاتهم للتفوق الإبداعي وإظهار موهبتهم الفنية على الشعراء المبصرين؟، ربما يكون الأمر كذلك، فمقالنا اليوم عن رائعةٍ من روائع المعري حيث أبدع كثيراً في وصف ليلته حالكة الظلام التي كان البدر فيها طفلاً والظلام في عنفوان شبابه:
فكأني ما قلتُ والبدرُ طفلٌ
وشبابُ الظلماء في عُنفوانِ
ابتدأ الشاعر الكبير قصيدته:
علّلاني فإنّ بيضَ الأماني
فَنٍيِتْ والظّلامُ ليس بفاني
والتي كانت رداً على قصيدة الشريف جمال النقباء والد الشريف الرضي التي يقول في مطلع قصيدته:
غيرُ مُسْتحسنٍ وصال الغواني
بعد ستين حَجّةٍ وثمانِ
إلا أنّ جواب المعري لمْ يكنْ عادياً، خصوصاً مقدمته التي عنيناها تحديداً في هذا المقال، فقد فاق زمنه برائعته الفائقة والتي يبدو من خلال سياق أبياتها استدعائه الذكي لمعلّقة أمير الشعر العربي الجاهلي امرئ القيس:
قِفا نبْكِ مِنْ ذِكْرى حبيبٍ ومَنْزلِ
بسقْط ِاللوى بين الدّخولِ فحوملِ
كان ابتداءُ المعري بخطاب صديقيه بالأمر والطلب يشابه ابتداء أمرئ القيس وطلبه أيضاً، والموضوع هنا كما قلنا حول مقدمة قصيدة المعري فقط وليس عن القصيدة كاملة والتي جاءت عبر 62 بيتاً من بحر الخفيف، ونلاحظ هنا أنّ استدعاء المعري لامرئ القيس:
ما امرؤ القيس بالمصلّى إذا
جاراه في الشعر بل سُكيت الرهانِ
ليس من باب المحاكاة المجردة بل من باب إظهار القوة الشاعرية للمعري عن طريق التفلسف الذهني واستعراض مهارات الثقافة المعرفية والفن البلاغي ليمزجها كلها في غرض الغزل بعيداً عن معاني القصيدة الجاهلية، فنجده مثلاً يستلهم فكرة ثنائية تطاول الليل / تكاثر الهموم التي ابتدعها امرؤ القيس:
وليلٍ كموج البحرِ أرْخى سدولهُ
عليّ بأنواعِ الهُمومِ ليبتلي
لكنّ معالجة المعري لهذه الثنائية تختلف تماماً، فالمعري هنا فيلسوف قبل أن يكون شاعراً ليقول:
فاقتنعْ بالرويِّ والوزْنِ مني
فهمُومي ثقيلةُ الأوزانِ
هنا تظهر براعة الشاعر في خطاب المتلقي أنْ يقتنعَ بقصيده ولا يبحث عن شاعرٍ سواه، فيستدعي معنى الشعر من خلال الرويِّ ووزْن البيت الخليلي ليذهبَ بخيال المتلقي بعيداً عن طريق الجناس البلاغي تجاه هموم الليل التي أصبحت ثقيلة في وزنها على فكْره وعقله!!، أمّا حول ليلته الطويلة فنجده يُكثف الصور الفنية ويستعرض مهاراته في التصوير الابداعي لتلك الليلة الطويلة:
ليلتي هذهِ عروسٌ من الزنج
عليها قلائدُ من جُمانِ
فالمعري هنا غير امرئ القيس، صحيح أنّ كليهما يشكو من طول الليل، لكنّ الشاعر الجاهلي في معلقته نجده متشائماً حتى من الصُّبح الذي يعقب الليل (وما الإصباحُ منك بأمثلِ)، أما المعرّي فالأمر مختلفٌ عنده هنا، فالعلاقة غزلية تماماً، فهو يتغزل في ليلته الكالحة السواد والتي تشبه السيّدة الزنجية، أما نجومُها فتتلألأ على نحرها وكأنها عقود الجمان اللامعة، وفي هذا البيت نجد صورةً فنيةً باهرةً ولا أبالغ إن قلت إنّ الشاعر البصير ربما يعجز عن قول مثل هذا الوصف البديع!!، وفي هذه القصيدة البارعة نجد تكثيفاً من الشاعر الأعمى للألوان التي لم يرها في حياته بل يأتي بها من (الخارج) أي من مدركاته الحياتية مع الآخرين وتفاعله المجتمعي مع من حوله عبر حاسة السمع، أو من خلال (الداخل) من عدالة التعويض الإلهي الذي يُمنح للكفيف في مخياله الخصب لتكون ردة فعله الابداعي تتضمن اللون الأسود حول وصف الليل، أو الأبيض في عقد الجمان، أو في الأحمر كما سيأتي لاحقاً، ليصل المعري بعد ذلك إلى أوجِ تصويره الإبتكاري تجاه معاناته مع ليلته :
هربَ النوم عن جُفونيَ فيها
هرب الأمْنِ عن فُؤاد الجبانِ
يقول امرؤ القيس مخاطباً ليله الطويل وطالباً قدوم الصبح :
ألا أيُّها الليلُ الطويلُ ألا انجلي
بصُبحٍ وما الإصباحُ منك بأمثلِ
أما المعري فيستمرُّ في غزله لهذه الليلة بصورةٍ صادمةٍ لذهنيّة المتلقي فيُشبّهها بنقيضها ليقول:
رُبّ ليلٍ كأنه الصُّبحُ في الحُسْنِ
وإنْ كانَ أسْودَ الطيلسانِ
ولا يفوت المعري أن يستوحي صورة البحر والماء من امرئ القيس ( كموج البحر - ليبتلي):
نحْنُ غرْقى فكيف يُنقذنا نجمان
في حومة الدُّجى غرقانِ
وبالتالي نلاحظ هنا التأثر الواضح للمعري بقصيدة امرئ القيس، هذا التأثر يأتي من استدعاء هذه المعلقة رمزياً في رائعته، لكنه يوظف تلك المعاني والرمزية بصور تختلف عن امرئ القيس تماماً، فالمعري هنا فيلسوف عظيم يستعرض كما رأينا مهاراته المعرفية والفلسفية في بناء الصورة الشعرية البديعة المِعريّة إنْ صحّ التعبير، كما يُظهرُ قدراته الفلسفية في إبراز معانٍ مبتكرةٍ تثير الدهشة والابداع في نفس المتلقي، فإن كانت كينونة القصيدة الجاهلية تدور في مواضيع متعددة فإنّ قصيدة المعرّي ترتكزُ في مقدمتها على محاكاة المعلقة في موضوع الحُب والغزل، فعندما يقول امرئ القيس:
فيا لك من ليلٍ كأنّ نجومَه
بكلِّ مغار الفتل شُدّتْ بيذْبُل
كأنّ الثُريّا عُلقت في مصامِها
بأمراسِ كَتانٍ إلى صُمِّ جَنْدل
هنا يصف الشاعر الجاهلي ثبات النجوم في السماء ومنها نجمة الثريا وكأنها مشدودة بحبال واثقة إلى جبلٍ شامخ، أما المعري فيقول:
وكأنّ الهلال يهوى الثريا
فهما للوداع معتنقانِ
وسهيلٌ كوجنة الحِبّ في اللون
وقلبُ المُحِبِّ في الخفقانِ
هنا يفلسف الشاعر العلاقة بالمحبة بين الهلال والثريا، وكأنهما يعتنقان للوداع قبل انكشاف الصباح حتى لا يفتضح أمرهما، تماماً كما يفعل العاشقان، أما سهيل اليماني فهو يُومض باحمرارٍ وكأنه خدُّ المحبوب في اللون، أو كما يتدفق الدم (الأحمر) في قلب الشاعر العاشق بالخفقان!، فكيف لهذا الشاعر الكفيف أن يصل إلى قمة التصوير الفني في شعره بهذه العبقرية النادرة؟!.
ويستمر المعري في تكثيف اللون الأحمر في صورته الشعرية في وصف سهيل عندما يشبهه باحمرار اللمح في مقلة الشخص الغضبان:
يُسْرعُ اللمْحُ في احْمرارٍ كما
تُسرع في اللمحِ مُقلةُ الغضبانِ
كما أننا في هذه القصيدة نلحظ المعري يكثف ألفاظ التشبيه (كأن - كما - ك - مثل) داخل رائعته بصورة بديعة ومتوالية لا تعكس الملل عند المتلقي نظراً لجمال التشبيه، وهو بذلك يذكرنا بالنهج الرومانسي في أوروبا خلال القرن التاسع عشر الميلادي:
مُسْتبداً كأنّه الفارسُ المعلمُ
يبدو عارض الفُرسانِ
يُسْرعُ اللمحُ في احمرارٍ كما
تُسْرعُ في اللمح مُقلة الغضبانِ
ضرّجته دماً سيوفُ الأعادي
فبكتْ رحمة له الشعريانِ
قدماه وراءه وهو في العجز
كساعِ ليست له قدمانِ
وممن افتتن بأبي العلاء المعري وشعره وفلسفته الدكتور طه حسين، والذي كتب مقالاتٍ بديعةٍ يعقد بها مقارنات فلسفية وثقافية عميقة بينه وبين الفيلسوف الفرنسي الشهير باسكال، وقد جمع تلك المقالات في كتاب اسماه (تجديد ذكرى أبي العلاء)، وفى مهرجان ذكرى أبى العلاء ا لمعرى بدمشق عام 1944م ألقى طه حسين كلمته حول إبداع المعرى وفلسفته الشعرية، ثم تلاه الشاعر الكبير محمد مهدى الجواهرى الذي ألقى قصيدته فى ذكرى أبي العلاء المعرى قائلاً:
قفْ بالمعرَّة وامسحْ خدها الترِبا
واستوحِ من طوّق الدنيا بما وهبا
واستوحِ من طبّب الدنيا بحكمته
ومن على جُرحها من روحه سكبا
وسائل الحفرة المرموق جانبها
هل تبتغى مطمعاً أو ترتجى طلبا
وهي من أروع ما قيل في رثاء المعري، وعندما بلغ قوله:
ثورةُ الفكرِ تاريخٌ يذكّرنا بأنّ
ألْفَ مسيحٍ دُونها صُلبا
وما أن سمعه طه حسين، وهو الجالس جواره حتى قام طالباً إعادة البيت الأخير وتكراره لوقعه في نفسه قائلاً: بأنّ ألف ألف مسيحٍ دونها صُلبا،
فأعاد الجواهرى البيت بصيغته الجديدة محاكياً كلام طه حسين وإضافة ألف أخرى على الألف الأولى قائلاً:
لثورة الفكر تاريخٌ يذكّرنا كم
ألف ألف مسيحٍ دُونها صُلِبا