د.نادية هناوي
تحولت البنيوية منذ الحرب العالمية الثانية من منهجية في دراسة النص الأدبي إلى فلسفة في الإنسان والكون تتماشى مع الفلسفات ما بعد الحداثية. وأهم ما يميزها محاربتها للتجريب والتاريخ، وانبهارها بالإمكانيات الخصبة في فكرة البناء. وهو ما حاولت فلسفة ما بعد البنيوية مناهضته بتصورات متحررة من الاستغلاق وبانفتاحية عالية تخلو من الجمود، متجهة صوب التقارب مع غيرها من الفلسفات التي بدت آثارها واضحة على الرواية الغربية قبل أن تتضح في الرواية العربية.
وعلى الرغم من أنّ البنيوية في نقدنا الأدبي العربي لم تكن أكثر من منهج إجرائي لا غير، فإن ما بعد البنيوية تركت انعكاسات فكرية مهمة لا على نقدنا المعاصر والراهن حسب؛ بل على الرواية العربية المعاصرة. منها ما تركته الفلسفة البنيوية - بطروحاتها النظرية المتغايرة أو المتآزرة- من آثار انفتاحية على الرواية من ناحية مناصرة الهامش النسوي العربي عبر منحه بعض المركزية، انطلاقا من أن دور المرأة ليس محصورا في الجانب الاجتماعي أو السياسي حسب، بل لها أيضا أدوار فكرية لا تختلف في أهميتها عن أدوار الرجل المفكِّر.
وذهبت الفيلسوفة جينيف اويد إلى تحليل طبيعة العقل من أرسطو إلى سيمون دي بوفوار فوجدت أن العقلانية ارتبطت بالذكورة، فالمرأة ليست جنسا بل هي عقل أيضا والنظر إلى البشر كعقول مجسدة في أبدان تجعل الاختلافات في المقدرة العقلانية متفاوتة، وبه تصبح المرأة من الناحية الرمزية متسمة بعدم العقلانية والرجل متسم بالعقلانية.
وبالرغم من أن واقعنا العربي لم يشهد ظهور فيلسوفات ذوات نظر خاص، لكن المرأة المثقفة استطاعت أن ترتقي في بعض الأحيان إلى دور المفكِّرة بعقلية ناقدة مثل الكبيرة نازك الملائكة والباحثة عائشة عبد الرحمن. ووجود المرأة المفكرة يعني حضور الفلسفة ما بعد البنيوية ببعدها النسوي، ولقد تساءلت جوديت بتلر: (هل يمكن أن تكون هناك فيلسوفة نسوية إذا شككنا أصلاً في وجود المرأة المفكرة) ولطالما كان دخول المرأة إلى المنطق غير يسير تماما كدخولها إلى الفلسفة على مستوى العالم الغربي نفسه.
ومن تمثلات الفلسفة ما بعد البنيوية في الرواية العربية، التفكر في المكان اتساعا وتناهيا ولا تناه. وبالتأمل الذي فيه يصبح المكان لا متناهيا في الكبر بالمفهوم الباشلاري، يتغشى بصر بطلة رواية( سيدات زحل) ببصيرة خاصة بها تتلمس طريقها في العتمة وقد غيّرت الأماكن مواقعها «وأنا في سرداب السرداب تخادعني المرايا المعلقة على جدرانه كما يخادعني الوعي المتداعي فأراني في سفينة تائهة وسط غمر بلا حد وحدي بلا بوصلة ولا اتجاه. تبلبلني تكتكة الساعات التي تملأ جدران السرداب». ومن التمثلات ايضا وجود سطور فكرية تبثها الساردة في تضاعيف السرد كمداخلات هنا أو هناك وقد تجعلها على لسان إحدى الشخصيات النسوية كما في رواية( السقوط في الشمس) التي فيها تعيش البطلة حالة من التشظي ما بين ذاتها والآخر الذي تراه تارة مضطهدا لها ومستغلا لضعفها متجبرا عليها، وتارة أخرى تراه أنيسا وعطوفا. وهذا ما يدفعها إلى التفكر المونولوجي الصامت الذي به تعبر عن حلم بعيد فيه الآخر مثال مستحيل التحقق، فتناجيه غائبا.
وقد يفضي التأثر بالفلسفة ما بعد البنيوية إلى الإحساس النسوي بالقدرة على النقد واتخاذ موقف مناسب إزاء الواقع المعيش، كما هو حال الساردة المثقفة في رواية (أنثى غجرية ) التي قرأت كتبا فلسفية كثيرة باحثة في كل ذلك عما يعزز قدرتها على مواجهة عوقها الأنثوي. واستيعابها للفلسفة النسوية يجعلها قادرة أكثر على اختيار المفاهيم ومناقشتها وقد يغدو التفكر النسوي عبارة عن هذيانات واستدلالات تظهر أن الذكورية غير لائقة بالأنوثة. وفي رواية( بريد الليل) يكون الليل هو الحد الفاصل، الذي به تتحقق الأنثى رغبتها في التحرر المكاني فيشعر الرجل رغما عنه بالانهزام أمامها واقعا تحت سطوتها، فلا هو قادر على مواجهتها ولا هو يقدر على الهرب منها.
ولا غرابة أن نجد المرأة في الرواية الواقعية تفكر بشكل ما بعد بنيوي فتتجاوز مواضعات الجسد والخطيئة والشهوة، ناظرة الى نفسها والحياة بإيجابية تمكنها من دحض بعض المسلمات الاجتماعية، لاسيما حين يكون المفكر في المرأة هو الرجل. من ذلك انتصار السارد في رواية( عالم بلا خرائط) للمرأة بوصفها هي الأصل «المرأة هي بداية الخليقة هي كل المتعة وهي أصل الأشياء قبل آدم من غير الضلوع والطين هي البياض المشرب بحمرة خفيفة النعومة الزلقة الرطبة الاشتعال القاتل الصوت الصغير المقتول من غير الصوت» وهذا التصور بالطبع يعاكس ما تنص عليه اللوائح والمدونات الذكورية.
والمساواة بين الرجل والمرأة هو ما يسعى إليه بطل رواية( حريق الأخيلة) ناظرا إلى المرأة نظرة واقعية فلا هي إلهة أو جارية أو موضوع. إنها كيان مثلها مثل الرجل.
ومن المهم ذكره أن الفلسفة ما بعد البنيوية في بعدها النسوي شهدت بزوغ بعض الطروحات المضادة التي هي بمثابة رد فعل عليها مما سمي ( ما بعد النسوية) التي قوضت النسوية بمغالطات عدة منها إن النسوية تناصب الأسرة العداء وأنها دمرت ما يراه معظم الناس الركيزة الأساسية للمجتمع الصحي والعادل، والاخطر من ذلك المغالطة بالقول إن النسوية هي مرض المرأة التي ستظل بلا تحرر من العبودية ولا استقلال من التبعية والاضطهاد، ومن ثم لا نجاة لها من أزماتها الشخصية والاجتماعية.