م. عبدالإله الطويان
يكتب هرمان هسه مذكراته قبل وفاته عام 1962م، يقول: «ما زلت أرى نفسي اليوم كما كنت في شبابي، رغم تقدم السنوات».
لم تكن هذه الجملة مجرد ملاحظة عابرة، بل كانت انعكاسًا لرحلة طويلة مليئة بالبحث الروحي، والفلسفي، والصراع الداخلي. كان هسه يضع دائمًا مشاعره وأفكاره على الورق، والحق هذا ما يجعل أعماله -فضلاً على دراماتيكيتها- تفيض بالعذوبة إلى جانب فلسفته الإنسانية، حيث يعتقد أن الكتابة هي الأداة الوحيدة لفهم هذا التناقض الوجودي بين الذات والعالم المحيط. كما يصف الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو: «الكتابة ليست مجرّد تعبير عن فكرة، بل هي كشف لجوهر الذات والعالم».
وفي هذا السياق، تصبح الكتابة وسيلة لفهم الحياة بتفاصيلها الدقيقة، وتحويلها إلى سرد يطوي معه مخاوف الإنسان وتناقضاته.
يرشدنا الكثير من علماء النفس في الكتابة بوصفها أداة لترتيب الفوضى الفكرية والنفسية. لذا يذكر فرويد: «الكتابة هي أحد السبل التي من خلالها يمكن للإنسان تنظيم ما يعجز عن تفسيره».
هذه الرؤية تؤكد أن الكتابة ليست مجرد نقل للمشاعر والأفكار، بل هي عملية تفكيك للغموض الداخلي وتنظيم للوعي. كما يشير كارل يونغ، مؤسس علم النفس التحليلي، إلى أن «الكتابة تجعلنا نواجه الظلال التي نخبّئها في أعماقنا، وتساعدنا على أن نعرف أنفسنا بشكل أعمق». الكتابة تتيح للفرد فرصة للتواصل مع عقله الباطن، لتسليط الضوء على الصراعات الداخلية التي قد تكون غير واضحة في الحياة اليومية. وعلاوة على ذلك، تذكر عالمة النفس الأمريكية ماري فيليرس أن «الكتابة تُعدّ نافذة مفتوحة على العقل، تمكننا من مشاهدة الأفكار المخبأة تحت السطح». في هذا السياق، تصبح الكتابة وسيلة فعّالة لتحويل الفوضى العقلية والنفسية إلى شيء ملموس، يساعد الفرد على فهم ذاته والواقع الذي يعيشه.
وفي عالم اليوم، نجد أن الكتابة لا تزال تبهر الناس، على الرغم من ظهور منصات التواصل الاجتماعي والكتابة الافتراضية وغيرها. بينما قد يختار بعضهم هذه الوسائل الجديدة للبوح، اختار هسه أن يعيش في عزلة عن الضجيج، لكي يكتب بحرية دون رقابة. يؤكد في مذكراته : «كلما اقتربت من العالم الخارجي، ابتعدت عن جوهر نفسي. الكتابة بالنسبة لي هي تلك المسافة التي أتمكن من خلالها من مراقبة أفعالي والتأكد من عدم الخيانة الذاتية». يشير إلى أن الكتابة لم تكن مجرد عملية توثيق، بل كانت وسيلة لإعادة الاتصال بالنفس وتثبيت الهوية أو لنقل ترسانة الروح.
يتضح لنا من خلاله أعماله بأن هسه واجه العديد من الأوقات الصعبة التي كان فيها في حالة نفسية هشة، ومرّ بفترات من الاكتئاب العميق. يذكر في مذكراته: «لقد عشت أشهرًا من العتمة، حيث اختفت الكلمات، وصارت الكتابة كما لو أنها فقدت روحها». لكن مع مرور الوقت، استطاع أن يحول هذه المعاناة إلى مادة إبداعية أدبية-، إذ ظهرت آثار الصراع النفسي في رواياته مثل دميان وذئب البراري، أو حتى في العمل الفلسفي الكبير لعبة الكرة الزجاجية، حيث نجد الشخصيات تستعيد قوتها عبر الكتابة. كما يذكر الكاتب الروسي إيفان تورغينيف: «الألم هو الذي يعطينا الكلمات، وكلما عانينا، كان للفن القدرة على أن يعيدنا إلى الحياة»، الكتابة بالنسبة لهسه كانت ليست مجرد وسيلة للهروب من واقع قاسٍ، بل كانت أسلوبًا لمواجهة هذا الواقع وفهمه.
في رسالته إلى أحد أصدقائه، يذكر: «في لحظات الألم، يتحول الصمت إلى عدو، بينما تمنحني الكتابة صوتًا أواجه به كل ما عجزت عن تحمله»، الكتابة لم تكن فقط وسيلة لفض الاشتباك مع الألم، بل كانت أيضًا شكلًا من أشكال الاستفهام: «لماذا أحب وأكره في الوقت ذاته؟ لماذا أبحث عن العزلة وأخافها في آنٍ واحد؟»، هذه الأسئلة الوجودية، التي كانت محور الكثير من كتاباته، تشير إلى الصراع الداخلي الذي لا ينتهي بين الفرد وواقعه. كما يذكر الشاعر الأمريكي إيملي ديكنسون: «الكتابة هي الطريقة التي نتمكن بها من أن نصبح شخصًا آخر في عيوننا».
لقد جعل هسه من الكتابة أداة للتجريب الفكري، وتحدى نفسه عبر النصوص التي كان يعكف على كتابتها. لا يمكننا أن نتجاهل أن الكتابة بالنسبة له لم تكن عملية بسيطة أو روتينية، بل كانت بمثابة اختبار مستمر للتفكير والوجود. في إحدى ملاحظاته عام 1931م، يذكر: «هل أنا الكاتب الذي يتخيله قرّائي؟ الكتابة هي محاولة لإعادة صياغة الحياة بطريقة أكثر جمالًا»، وهذا يذكرنا بما يصفه الكاتب الإنجليزي جورج أورويل: «الكتابة هي أكثر وسائل النقد قسوة على الذاتي» في واقع الأمر، كانت الكتابة بالنسبة لهسه بمثابة ساحة تجريبية، يضع فيها أفكاره ويتأمل فيها عواقب كل فكرة قبل أن يقدمها للعالم.
لكن الكتابة أيضًا كانت تعبيرًا عن مخاوفه من الشهرة. بعد فوزه بجائزة نوبل عام 1946م، يذكر: «أصبحت يومياتي محط أنظار العالم، وصار عليّ أن أتحكم في كلماتي لكي لا أجرح أحدًا، كما لو كنت أخون نفسي» ، هذه الكلمات تتناغم مع ما يذكره الكاتب الفرنسي مارسيل بروست: «الشهرة هي سجن من ذهب، يعزلنا عن أنفسنا».
على الرغم من كل ما مرّ به من حالات نفسية مضطربة، نجد أن هسه ظلّ ملتزمًا بممارسة الكتابة، حتى في أصعب أوقاته. في أحد الأيام، يذكر: «أيامي كالنهر الجليدي: السطح يبدو هادئًا، بينما من تحت السطح تعصف الأعاصير.» هذه الصورة تعكس طبيعة حياته التي كانت مليئة بالتقلبات والتوترات. وفي بعض الفترات، كان يمر بفترات صمت طويل، ليعود بعدها لكتابة أفكار جديدة. وهذا يشير إلى أن الكتابة بالنسبة له كانت جزءًا من رحلة حياتية مستمرة لا تتوقف، مثلما يذكر الشاعر الإسباني ميغيل دي سيرفانتس: «الكتابة هي النهر الذي لا يتوقف عن الجريان».
وحتى في آخر أيامه، قبل أن يودع الحياة، ظل متمسكًا بالكتابة. قبل وفاته بقليل، يدوّن: «الموت يقترب، وأنا ما زلت أتعلم كيف أعيش. ربما تكون هذه هي الجملة التي سأفهمها أكثر من أي وقتٍ مضى»، وكأنه يذكرنا في صرخة وليم شكسبير: «كل لحظة في الحياة هي خطوة نحو الموت، والكتابة هي تلك الخطوة التي لا تتوقف».
على عكس بعض الأدباء الذين جعلوا من الكتابة سجلاً للأخطاء والاعترافات الشخصية أو منصة لتبرير الوجود، كانت الكتابة عند هسه اختبارًا للوجود والروح. في كل صفحة كتبها، كانت الكتابة تتيح له فرصة جديدة لفهم نفسه والعالم من حوله. وفي النهاية، يدوّن على أثر ذلك «الحياة ليست إلا رحلة نكتب خلالها تفاصيلها لتجنب الضياع في الطريق»، لعل هذا الأمر بمثابة اختصار للغرض الأسمى للكتابة عند هرمان هسه في فهم الحياة والتفاعل معها بحكمة ووعي.