سارة المطيري
عندما نفتح كتابًا أو نغرق في قراءة نص أدبي، نبحث عن شيء أكبر من مجرد الكلمات المكتوبة، نبحث عن تلك اللحظة التي نشعر فيها أن هذه الكلمات ليست مجرد تعبيرات أدبية، بل هي صوت حقيقي يعبر عن أفكارنا ومشاعرنا الداخلية. الأدب، في جوهره وسيلة للتواصل بين الأديب والقارئ، لكن هذا التواصل ليس مجرد تبادل للأفكار بل هو تفاعل فكري عميق يخلق نوعًا من التوافق الفكري أو «التناغم» بين الطرفين. هذا التوافق يتجاوز مجرد قراءة النص، ليصل إلى فهم عميق للحياة، للطبيعة الإنسانية، وللتجارب المشتركة بين الأديب والقارئ.
لقد تأثرت بشكل خاص بما قرأت للأديب الكبير عباس محمود العقاد، الذي يُعد من أعظم المفكرين والكتّاب في تاريخ الأدب العربي. ففي أعماله، وجدت نوعًا من التفاعل الفكري الذي يربطني به بشكل شخصي. كان ما دفعني للبحث في كتبه هو ذلك التوافق الفكري الذي شعرت به في محاضراتي الجامعية، عندما بدأ أساتذتي بتناول اسمه بين الحين والآخر، ومناقشة أفكاره. كان ذلك بدايةً للبحث عن أفكار أديب لم يكن مجرد كاتب، بل مفكرٌ ناقد يتناول القضايا الإنسانية بعمق. عندما قرأت كتابه «الإنسان في القرآن» بدأت أكتشف أن العقاد لا يكتب فقط عن المفاهيم بل عن الإنسان نفسه. الكتاب ليس مجرد تأملات فكرية، بل هو محاولة لفهم الإنسان الذي يعيش في حالة من التناقض الداخلي المستمر. وكأنما كان يكتب عن تساؤلات كانت تساورني طويلاً قبل أن أتعرف على أفكاره.
كان سؤالي المتكرر عن مسؤولية الإنسان، وهل هو بالفعل مؤهل لتلبية التكاليف الدينية والإنسانية التي وضعها الله عليه؟ وكيف يمكن لهذا الكائن الذي يجمع بين الخير والشر، وبين الحق والباطل، أن يتحمل هذه المسؤوليات الثقيلة؟ مما قاله العقاد في كتابه «الإنسان في القرآن»: «لقد ذكر الإنسان في القرآن بغاية الحمد وغاية الذم في الآيات المتعددة وفي الآية الواحدة، فلا يعني ذلك أنه يحمد ويذم في آن واحد وإنما معناه أنه أهل للكمال والنقص بما فطر عليه من استعداد لكل منهما فهو أهل للخير والشر لأنه أهل للتكاليف». هذه الكلمات لامست فكري بشكل عميق، فهي تُعبّر عن أن الإنسان، رغم تضاربه الداخلي، هو كائن فطري قادر على السمو والتعالي أو على السقوط والانحدار، وكل ذلك يعود إلى اختياراته الحرة.
وبعدما قرأت هذا الكتاب، بدأت أتمعن أكثر في طبيعة الإنسان من منظور العقاد. فهو لا يرى الإنسان مجرد مخلوق يتأثر بالعوامل الخارجية، بل هو مخلوق متأصل في داخله التناقضات التي تشكّل معالمه. هنا، نعود إلى التفاعل الفكري بين الأديب والقارئ. فالأديب يعكس لنا جزءًا من شخصيتنا ومن أفكارنا، مما يجعلنا نعيد التفكير في نفسنا وفي العالم من حولنا. كأنما الأديب يكشف لنا عن طبائعنا التي قد لا نراها بسهولة. وهكذا، يتحول الأدب إلى مرآة حقيقية تعكس الذات الإنسانية بألوانها المتنوعة والمعقدة. بالإضافة إلى ذلك، تناول العقاد في كتابه ذاته موضوعًا آخر كان يشغلني منذ فترة طويلة، وهو العلاقة بين الروح والنفس والعقل. في تفسيره العميق، يوضح قائلاً: «فحساب النفس من حساب الإنسان ولكن الذات الإنسانية أعم من النفس ومن العقل ومن الروح. حين يذكر كل منها على حدة فإن الإنسان يحاسب نفسه لينهاها عن هواها، ولكن الروح من أمر الخالق الذي لا يعلم الإنسان منه إلا ما علمه الله، ويتوسط العقل بين هذين القوتين فهو وازع الغريزة ومستلهم لهداية الروح». هذه الفكرة كانت بمثابة الضوء الذي سطع في فكري، فالعقاد لا يقدم تفسيرًا سطحيًا بل يأخذنا إلى أبعاد أعمق لفهم النفس البشرية، بحيث تلتقي الروح والإرادة والعقل في نقطة تفاعل داخلي معقد. وهكذا، يمكن القول إن التوافق الفكري بين الأديب والقارئ ليس مجرد اتفاق أو تطابق بين الأفكار، بل هو مساحة تفاعلية عميقة تبني جسرًا بين فكرين مختلفين قد لا يلتقيان إلا من خلال الأدب. هذا التفاعل الفكري يتجاوز حدود الزمن والمكان، حيث قد تجد أن النص الذي قرأته وكأنما يصفك أنت، بل وكأن الأديب قد عاش معاناتك أو عكس أفكارك بصدق. في هذه اللحظات، لا يصبح النص مجرد مجموعة من الكلمات أو الأفكار، بل هو قطعة من حياتك الخاصة التي تجدها بين سطور الأدب. ففي بعض الأحيان، قد نجد أن النص الذي قرأناه وكأنما يصفنا نحن، وكأن الأديب قد عايش تجربتنا أو عكس أفكارنا دون أن ندرك ذلك. وفي أحيان أخرى، نجد أسلوب الأديب الذي يعكس طريقة تفكيرنا، وكأنما هو مرآة تُظهر لنا صورتنا الداخلية. وهكذا، يتحول الأدب إلى حوار فكري بين الأديب والقارئ، ينطلق من عمق النص ليصل إلى أعماق القارئ نفسه، فيصبح النص أكثر من مجرد كلمات، بل هو محاولة لفهم الحياة بكل تعقيداتها.
التوافق الفكري بين الأديب والقارئ لا يقتصر على حالة من التماثل في الآراء، بل هو تفاعل حيوي يعكس قدرة الأدب على العيش في كل لحظة، ليكون جسرًا بين الماضي والحاضر ، وبين الذات البشرية وعالمها المحيط.
الأدب ليس فقط منتجًا ثقافيًا يُقتنى، بل هو مساحة للتفاهم المشترك بين الأديب والمجتمع، وهو الحيز الذي يجد فيه كل طرف ضالته، سواء في الإجابة عن الأسئلة أو في طرح تساؤلات جديدة. وفي النهاية، يعد التوافق الفكري بين الأديب والقارئ عنصرًا أساسيًا في إثراء التجربة الأدبية.
فهو ليس مجرد تطابق فكري بل هو نوع من الفهم المشترك الذي يخلق علاقة تفاعلية بين النص والقارئ. هذه العلاقة تتجاوز حدود الزمان والمكان لتكون لغة مشتركة تعبر عن تجارب إنسانية عميقة ومتجددة.