أ.د.أبو المعاطي الرمادي
(2) الجوالة.. شدة المعاناة وبساطة الأحلام
عنوان المسرحية الذي اختاره المؤلف الكويتي عثمان الشطي هو (عربة) بفتح العين، وغُير وفق الرؤية الإخراجية إلى (الجوالة) إشارة إلى فرقة مسرحية تجوب البلدان لعرض فنها، حبًا في الفن، ورغبة في المال الذي يوفر متطلبات الحياة الضرورية.
تبدأ المسرحية الأصلية بعتبة سردية مهمة لا يمكن المرور إلى عالمها وفهم مضمونها دون الوقوف أمامها والتأمل في محتواها، ومحاولة فك شفراتها.
يقول المؤلف: (إذا فتحنا العين فنحن أمام محطات مجهولة، وإذا ضممناها فنحن نعيش في لحن النشاز. لا داعي لإضافة الواو بعد الراء، فالحقيقة مستورة كآخر الكلمة.. لنظل على ما نحن عليه).
جمال هذه العتبة يكمن في إثارتها حيرة المتلقي؛ فهي تضعه أمام أربعة احتمالات لمحتوى المسرحية ومضمونها. الأول ذاتي، والثاني اجتماعي، والثالث سياسي، والرابع هذه الاحتمالات كلها مجتمعة تصنع محتوى شمولي كبير متعدد الأبعاد والقضايا.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا، أيهما أفضل العنوان (عَربة) أم العنوان (الجوالة)؟ وفي رأيي العنوان الأصلي (عربة) أفضل؛ فقد منحه التنكير غموضًا مستحبًا في النصوص الأدبية، وأضفت عليه المقدمة التي قدم بها المؤلف مسرحيته بعدًا سيميائيًا جعل منه أيقونًا مشعًا بالدلالات، إضافة إلى أن حضور العربة طوال العرض، وكأنها بطل من أبطال المسرحية له رمزيته ودلالاته التي لا تتوافر في العنوان (الجوالة). وهي رمزية خالقة لإثارة تلازم المتلقي ـ قارئًا أو مشاهدًا ـ من بداية المسرحية حتى نهايتها؛ لاحتياجه المستمر إلى تشغيل طاقاته التأويلية ليستطيع فهم النص/ العرض. والتأويل لا حدود له، ويختلف من شخص إلى آخر بحسب المخزون الثقافي، والاعتقاد الإيديولوجي، والبيئة التي يعيش فيها المؤول. فهو متعدد الأشكال والأبعاد. هذا التعدد - لا شك - في صالح النص والعرض على حد سواء.
الفكرة
تتبنى المسرحية فكرة جهل الإنسان بالنهايات؛ فحياتنا ما هي إلا مجموعة محطات مجهولة، والتحول من محطة إلى أخرى، كالغنى والفقر، والخير والشر، والسعادة والشقاء، والشهرة والانزواء قد يكون بلا قصد، وتَصَرّف واحد بلا حنكة قد يقلب حياة الإنسان رأسًا على عقب.
هذه الفكرة تتفرع منها مجموعة فكر تسير متوازية معها من بداية النص حتى نهايته، مثل: أحلام الفقراء البسيطة الحالمون بـ(ضحكة مجانية)، وصاحب المشروع الجاد دائمًا يعاني (الممثلون الجوالون أصحاب مشروع)، وسجن الأوهام أشد قسوة من سجن القضبان، ولا مكان للضعفاء داخل إطار حياتنا، فلابد من قهر البكاء بالضحك (سأبكي ضاحكة). تقول الممثلة 2: « نبتهج ونتراقص لتلك الحياة المؤقتة... قلوب بسيطة... أحلام عميقة... لدنيا مريرة تنصف من لا يستحق... وتُبكي من يستمر... سأستمر وأبكي ضاحكة حتى الممات... لا أعلم لماذا هذا اليأس الذي ينتاب الضمائر... حياة قصيرة يا رفاق لما الحزن والكآبة... ارقص وتمايل... وأكثر من التمايل ونافس هذه الحياة؛ فلا شيء في هذا العالم مستقيم»،.
عرضت المسرحية هذه الأفكار كلها في قالب حكائي كوميدي يدور حول فرقة مسرحية جوالة يعاني أفرادها من تعب الترحال، ومن ظلم السلطة ممثلة في المأمور، ومن اللصوص المشمولين بحماية السلطة، ومن التهميش، الاستلاب. يقولون قبيل نهاية المسرحية ملخصين معاناتهم: (أردنا أن نحيا لنتكلم – فجاءت الإبادة لكل كلمة – أردنا وما حدث إلا ما أرادوا). ويعانون من متاعب شخصية خاصة بكل فرد، تختلف في الشكل والأسباب، لكنها لا تخرج من تحت عباءة المعاناة. الممثل 1 يعاني من نظرة الآخر له، والممثلة 2 تعاني من تعب السعي خلف تحصيل المال لتخرج أباها من سجنه، والممثل 3 يعاني من ترك وطنه بسبب الحرب، ومن الاعتداء على شقيقته التي لم يستطع حمايتها، الممثل 4 يعاني من أب لا يحمل أية مشاعر أبوة.
يمكن إدراج هذا القالب تحت مظلة الكوميديا النقدية الاجتماعية المحملة بالإسقاطات والرموز؛ ففي المسرحية إسقاط على علاقة الفن بالسلطة، والسلطة بالفن، (الممثل والمأمور)، وفساد السلطة (علاقة المأمور باللصوص)، وإسقاط على صوت الرقيب المصادر الأفكار التي لا تتوافق مع اعتقاداته، حتى ولو كان فيها الصلاح، وفيها الرموز التي يختفي وراءها صناع العمل، كالحمامة رمز الحب والسلام والروح البشرية، والعربة رمز الحياة التي لا تتوقف، ورمزية إلغاء المعينات الاسمية للممثلين الذين عرفهم النص بالممثل 1، والممثلة 2، والممثل 3، الممثل 4، ولم يعرّفوا بأسماء في أثناء العرض على خشبة المسرح.
هذه الأفكار بإسقاطاتها ورموزها خلصت منها المسرحية إلى مجموعة رسائل مباشرة، وصرخة، وطلب، وتحذير، كلها تحتاج إلى وقفة متأنية للتأمل فيها، أما عن الرسائل فهي:
الأولى: مساحة الحرية التي تمنحها للآخر سبب شعوره بإنسانيته.
الثانية: الحرية حياة، والقمع موت.
الثالثة: لا تستسلم للألم والهزائم.
الرابعة: إذا لم تكن صاحب مبدأ ورسالة، فلماذا تعيش؟
وأما الصرخة فقد صرخ بها الممثل 3: « في عالمنا الفوضوي لا نعلم من هو الممثل ومن هو الإنسان، رغم أن كليهما يحملان الجسد ذاته مع اختلاف الضمائر... هناك من يمثل ليعيش، وهناك من يمثل الموت بأبهى صورة لحياة... وما البسطاء إلا حقيقة، وما الواقع إلا بساطة، وما اللباس إلا خدعة». هذه الصرخة جرس إنذار للتنبيه من خطورة التحولات التي حوّلت واقعنا المعيش إلى فوضى، ومن خطورة تغيّر المعايير القارة التي قضت على التوازن الطبيعي للمجتمعات.
وأما التحذير فهو تحذير للمجتمع الناظر للمهمشين على أنهم كلاب. (ينظرون إلينا على أننا كلاب ضالة، لكن الكلاب الضالة تعض حين تجوع)، فلابد من احتوائهم ودمجهم داخل بوتقة المجتمع، أفرادًا فاعلين لهم الحقوق كافة وعليهم الواجبات كافة، قبل وصولهم لمرحلة الانفجار.
جماليات النص:
أقصد بالنص النص المكتوب، فقد جاء محكمًا ومسبوكًا، انطلقت حبكته من تقديماته الدرامية، بدأت الحبكة بسيطة ثم تدرجت في التعقيد بشكل أخفى النهاية المفتوحة التي جاءت صادمة للمتلقي المتوقع تحطيم القيود وفرض الذات، لكنه يفاجأ بست مشانق تتدلى من سقف المسرح، تضعه - وجهًا لوجه - أمام الصرخة والتحذير ليعاود التفكير فيهما مرة أخرى، ليبدأ مشهد جديد من مشاهد المسرحية داخل نفسه، مشهد بلا ممثلين، عماده التفكير في النص الذي سيظل مصاحبًا له فترة طويلة، ويحمد هذا للمؤلف كثيرًا.
ويحمد له -أيضًا- إدارته الجيدة للصراع الذي تنوع بين صراع خارجي بين الأنا والآخر، وصراع داخلي بين الواقع والمنطق، والعاطفة والممكن، وصراع بين الهامش والمركز كانت له الغلبة في المسرحية، ويحمد له كذلك استثماره ـ إلى حد ما ـ طاقات الجملة المسرحية في تأجيج هذا الصراع.
ولعل أهم مظهر جمالي في (الجوالة) هو الميتا مسرح، فالمسرحية التي تحكي معاناة الممثل الجوال، بداخلها مسرحية نُفّذت داخل العربة، يمكن أن نطلق عليها مسرحية (الممثل والسلطة)، تدور حول محاكمة الممثلين (صوت المهمشين في الواقع)، لرجل الشرطة (رمز السلطة)، والعجيب انعكاس ظلال مسرحية (الجوالة) على العرض الذي تم داخل العربة، وانعكاس ظلال العرض عليها، ما جعل العرضين متشابكين. ويضاف للميتا مسرح تماسها على استحياء مع مسرح اللامعقول الذي أسسه يوجين يونسكو وصامويل بيكيت، وقدمه للمتلقي العربي توفيق الحكيم، ومحمد الماغوط، ويوسف إدريس، وصلاح عبد الصبور، وغيرهم؛ فزمن المسرحية الزمن صفر الذي جعل الفكرة والشخصيات خارج الزمن، وبرز فيه الفلاش باك الذي جعل الماضي يتداخل مع الحاضر والمستقبل.
الرؤية الإخراجية
من يقرأ النص المكتوب، أو الورق بتعبير الممثلين، ويشاهد العرض على خشبة المسرح يدرك بسهولة دور الدراما تورج ولمساته التي غيرت النص؛ فهناك فروقات واضحة بين نص المؤلف والنص المعروض، لكنها لم تغير الفكرة العامة ولا المضمون، ولعل أهم ما قام به الدراماتورج، هو تغيير العنوان، وتغيير النهاية من نهاية مفتوحة ترك (الشطي) للقارئ استكمالها؛ ليكون عنصرًا من عناصر المسرحية، إلى نهاية مغلقة واضحة، هي ما يأمله الممثلون الجوالون (أردنا مسرحًا لنقول – أردنا مسرحًا لنجول – أردنا مسرحًا لعقول تعي ما معنى مسرح).
واختلف هنا مع المؤلف والدراماتورج حول النهاية التي حصرت المسرحية في إطار سياسي، وحولت النص من نص قابل للتأويل بدلالات لا حصر لها، إلى نص محدود الدلالة، يفرض على المتلقي رؤية واحدة، ويرفض خروجه عليها. هذه الرؤية أرها تتعارض مع قول الممثلين: (أردنا مسرحًا لنقول – أردنا مسرحًا لنجول – أردنا مسرحًا لعقول تعي ما معنى مسرح)؛ فمن يطلب الحرية لنفسه، لا يحجر على آراء الآخرين.
بدأت المسرحية بمشهد سينوغرافي بسيط، لم يتغير طوال العرض، ما قلل من دور خشبة المسرح في سير الأحداث، وفي التأثير في المتلقي؛ فقد جاءت أجواء المسرح بسيطة (عربة وممثلون)، ولم تؤد الملابس البسيطة والمتشابهة دورها في مساعدة المشاهد على فهم الفكرة، وتحديد البيئة الزمكانية للأحداث، وتقديم معلومات عن الشخصيات؛ فملابس الممثلين الأربعة بما فيهم الممثلة، متشابهة لحد التطابق (جاكت باللون الكريمي/ أحد درجات البني، أسفله بنطال من اللون نفسه)، فلم تكن انعكاسًا لدواخلهم، ما جعل نظرة المتلقي لهم جميعًا نظرة واحدة، وملابس المأمور(جاكت رمادي اللون، لامع، يغلب عليه طابع الملابس الهندية، وبنطال أسود مناسب للون الجاكت) لم توح بدوره في العرض، وتُرك ذلك للجملة المسرحية، وملابس الحارسين (بنطال أسود وقميص أسود)، لم تختلف عن ملابس اللصوص الذين هاجموا الفرقة في أثناء ترحالها.
هذه البساطة التي تعد مأخذًا على العرض المسرحي لم نرها في الإضاءة التي تنوعت بين الأزرق والأبيض والأحمر واستثمرت استثمارًا جيدًا في توجيه تركيز الجمهور نحو الشخصيات على خشبة المسرح، وخلق أجواء موازية للجو النفسي للشخصيات، ولم نرها كذلك في المكياج الذي كمنت أهميته في بساطته المناسبة لبساطة الشخصيات، ولا في الموسيقى المصاحبة التي أضافت للعرض ولم تكن عبئًا عليه.
إن المآخذ على المسرحية - وهي ليست كثيرة ويمكن إرجاعها للإمكانات الإنتاجية - لا تقلل من جودة العرض المسرحي الذي ميزه جودة النص، وقوة أداء الممثلين على خشبة المسرح، والحضور الظاهر للدراما تدرج في عملية تصميم النص، والقدرات المتميزة لمخرجة العرض التي نجحت في توليف عناصر العرض وتحريكها علي خشبة المسرح وفق رؤية تخدم الفكرة المسرحية.