يعد الناقد والباحث المغربي الدكتور عبد الرزاق المصباحي من بين النقاد المغاربة المعاصرين الذين بصموا في البحث الأكاديمي الأدبي العربي عامة والمغربي خاصة، حيث انخرط منذ سنوات في هذا المجال بكل قوة وإبداعية جعلته من الأقلام المغربية الجادة التي اجتهدت في مقاربة نصوص أدبية متميزة، وخاصة النصوص الروائية التي تميزت بخطابها الثقافي والأدبي والفني القائم على أسس فكرية وأدبية واضحة. فالمصباحي وهو يبحث في الخطاب السردي، والروائي على الخصوص، يعتقد أنه خطاب مختلف عن باقي الخطابات الأدبية الأخرى، سواء من خلال ما يقدمه هذا الخطاب من خصائص كتابية وفنية متعددة تستدعي العديد من الأشكال الكتابية الأخرى وتقدمها وفق أشكال جديدة من الكتابة والتعبير.
عندما يكتب عبد الرزاق المصباحي عن النص الروائي، يعرف منذ الوهلة الأولى، أنه أمام نص يمتلك عوالم تخييلية متعددة وعناصر كتابية متنوعة تستدعي مواقف وأفكارا ومعارف تتشكل خصائصها ومميزاتها وفق نظرة الروائي نفسه، ووفق متطلبات الكتابة الروائية بالضرورة. إن اختيار النصوص الروائية التي يقاربها نقديًا، باختلاف انتمائها الجغرافي والثقافي والفكري، يدفعه إلى تبني استراتيجية نقدية وفكرية تنبني على بنيات خطابية وتوجهات أدبية ومفاهيم متعددة تسعفه كمحلل ناقد في قراءة النص الروائي بشكل متجدد مختلف عن القراءات التقليدية المتعارف عليها؛ حيث يتأكد لقارئه أنه ناقد لا يستغرق في التحديد النظري وتتبع المفهوم نظريًا حتى استغراقه نهائيًا، بل يعبر بسرعة إلى الاشتغال عليه وعلى حضوره في النص ومحاولة تحليله بشكل يؤكد إدراكه لما يقدمه الروائي بشكل أو بآخر. إنه يشتغل، كما يؤكد على ذلك دائمًا، على دراسة الرواية في علاقتها بوسائط الثقافة، وأثرها على بناء رؤى ومنظورات ثقافية محددة عنده مسبقًا، والتي أفضت إلى بناء ملامح لتوجهات جديدة في الرواية العربية المعاصرة، وعلى مشروع آخر في المجال الديداكتيكي والبيداغوجي يهم إدماج النقد الثقافي منظورًا متطورًا في تدريس النصوص والخطابات الأدبية.
يؤكد المصباحي على أن المقارنة بين النقد الأدبي والنقد الثقافي، أفضت، حسب رأيه، إلى حضور فكرة الإلغاء، والتي أحدثتها عبارة «موت النقد الأدبي» التي قال بها عبد الله الغذامي في العديد من الأحيان، وبالرغم من أنه شرح المقصود بها، وأنه لم يقصد معنى الإلغاء الكلي الشامل في تصوره الخاص، بل إنّ هذه العبارة هي التي جعلت فكرة الصراع أو الإلغاء قائمة وموجودة في النقد عامة. ويؤكد المصباحي في الإطار نفسه، أن النقد الثقافي على نحو مبسط، «هو مجال يمكّن ممتلك أدواته من الوعي بالخطابات التي تحيط بنا، يفكك أنساقها وأبعادها، وهو خطاب فكري يروم التحرر من الرقابة التي تفرضها المؤسّسات والأفراد على الآخرين، أو محاولة التحكم في الآراء والسلوك والحياة. ولأنه وعكس النقد الأدبي الذي له منهج محدد ومفاهيم إجرائية ثابتة تحلل الأنساق الفنية بدرجة أولى أو تخضعه لتحيز أيديولوجي (الماركسي مثلاً)، فإنه يمكن الوصول إلى غايته التحررية التي تقارب الخطاب من أبعاد مختلفة، من توظيف منظورات نقدية (بما فيها مناهج النقد الأدبي) وفكرية متنوعة، لكني أقترح في هذا الكتاب تسويرها بضوابط معينة حتى لا يصبح النقد الثقافي وعاء لمنظورات فوضوية».
يقوم مشروع المصباحي العلمي على الاهتمام بالنقد الثقافي، كما عبر أكثر من مرة في حواراته ومقالاته، باعتباره مشروعًا أكاديميًا أولًا، ومشروعًا حياتيًا ثانيًا، ويراه أكثر من ذلك حيث هو بالنسبة إليه مدخل لفهم الحياة والسلوك البشري يمكّن بشكل أو بآخر عبر منظوراته المتعددة التي يستخدمها باتساق بالغ من تفكيك الخطابات التي تهدف إلى تنميط الفكر والتصورات البشرية والمنتجَة من طرف المؤسسات أو الأفراد. ولعل إنتاجاته المهمة تغنينا عن بيان الكثير من تجربته في النقد الأدبي، انطلاقًا من كتابة الصادر عام 2014 تحت عنوان «النقد الثقافي: من النسق الثقافي إلى الرؤية الثقافية»، مرورًا بكتاب «الأنساق السردية المخاتلة: شعرية السرد، تذويت الكتابة، مركزية الهامش» عام 2017، و»النقد الثقافي: قراءة في المرجعيات النظرية المؤسسة» عام 2022، وانتهاء بالكتاب الذي نحن بصدد تقديمه هنا «الرواية والحدود: من التقاطبية الثقافية إلى الفضاء الثقافي» عام 2024.
وينطلق المصباحي في هذا الكتاب الأخير من نصوص روائية مختلفة شهيرة، صدرت في أزمنة مختلفة وجغرافيات عربية مختلفة، وفق ما يقترحه عليه النقد الثقافي عبر تمفصل منظوراته وتعددها من قراءات جديدة تصنع دنيوية النصوص الروائية وراهنيتها، وتبحث عن أسرارها وقضاياها ورؤاها الثقافية في انسجام تام مع مكونها الفني ونهجها الطليعي. إنه ينطلق من تصور للرواية كخطاب «يتفوق فيه المكون الثقافي على التخييلي»؛ بمعنى أنها ليست مجرد نوع تخييلي؛ وإنما هي كونٌ ثقافي موسع يفترض قراءة مستغورة تنوع في منظوراتها وأسئلتها المتعددة.
يتوزع الكتاب على فصليْن إجرائييْن يقدم من خلالهما المؤلف الأشكال الممكنة لفهم «التقاطبية الثقافية» كأداة إجرائية لاستقراء الصراع القائم أو الحوارية الممكنة بين الثقافات التي تصوغ رؤاها أفضية معينة؛ بل يريد أن يؤكد على أن هذه الأداة النقدية القائمة على منظور «السيميائيات الثقافية ومنظور النقد الثقافي، قادرة على تقديم مقاربة نقدية تستطيع تفكيك أنساق الثقافة المتسربة عبر المكان المشبع بالحياة. إنه يبحث من كل هذا حول قدرة الرواية كنسق تخييلي وثقافي بالدرجة نفسها صنع أمكنة تضج بالحياة، وكيف تفاعلت الرواية العربية المعاصرة مع التطور التكنولوجي ومثلت الفضاءات السيبرنيطيقية والديستوبية، وكيف حققت هذه الأشياء كلها نقلة جديدة في بنيات خطاب الرواية العربية المعاصرة. كل هذا تحقق من خلال فصليْن اثنين هما: الأول هو التقاطبية الثقافية: من تمثيل المكان إلى بناء الفضاء الثقافي الذي يتكون من ثلاثة مباحث أساسية تمحورت حول حدود مفهومية، والحدود التطهيرية والفضاء الطاهر، والفضاء الثقافي في موسم الهجرة إلى الشمال.
أما الثاني وهو الرؤية الثقافية في الفضاء السيبرنيطيقي والفضاء الديستوبي فقد تكون بدوره من ثلاثة مباحث هي: تخييل ثقافة الوسائط، ورواية هوت ماروك والهوية والسلطة في الفضاء السيبرنيطيقي، والرؤية القيامية في الفضاء الديستوبي. حيث قدم في هذين الفصلين عددًا مهمًا من الروايات الشهيرة والمتميزة والتي تركت أثرها في الكبير في المدونة الأدبية العربية المعاصرة. وفي هذا الإطار يقول المؤلف حول كتابه: «وما نقترحه في هذا الكتاب هو مدخل لتطوير النقد الثقافي وجهازه المفهومي، نظريًا وإجرائيًا، لتخليصه من تصور مركزي رسخه عبد الله الغذامي الذي نعتبره ناقدًا مجددًا تدين له المدونة النقدية بالتعريف بهذا النشاط النقدي، وبجهوده الإجرائية المجددة والمبدعة، لكنه يحتاج إلى محاولات تطوير واسعة، تحرره من المواجهة التي فرضها بين النقد الأدبي والنقد الثقافي، من الجهاز المفهومي الراسخ الذي يستعاد على نطاق واسع في كثير من قراءات النقاد والباحثين الذين تبنوا تصور الغذامي، حتى دون أن يكون هذا الجهاز المفهومي مناسبًا لقراءة النص الأدبي/ الثقافي الذي يقاربونه» (ص. 10).
** **
عزيز العرباوي - كاتب وناقد مغربي