حاورها - د.سهام العبودي:
من فمٍ كان ينصب فخَّ الدَّهشة عبر (كان يا ما كان) حتى نسيج السرد المُحكم في القصِّ والرواية: يبدو أمرًا مؤكَّدًا أنَّ مقاومة الحكي هي مقاومة للوجود؛ فثمَّة حقيقة تقول: (إنَّ ما لم يُروَ كأن لم يكن)!
وهكذا كانت حراسة هذا (الكائن/الوجود) عبر حكي مشغول: من كان ويكون وإلى ما لا نهاية، من روح حارساته الروائيَّات: يحففنه بكلمات معمورة بالدهشة، آهلة بكثير من السطوح القابلة للاختراق والاكتشاف والتأويل.
من (السرد) الذي يردُّ الغائبين، ويعمر الهدم، ويعيد ملء الأنهار الجافَّة، ويردُّ ظلال النخل إلى الأرض، ويحرس – بأناقة – كلَّ هذه الذاكرة.
من (الحكي): الاختراع المؤنس الموجع المرجِّع المؤرِّخ والمستبصر.. من هنا يبدأ السؤال.
تقول ضيفتنا الروائيَّة أمل الفاران في واحدٍ من حواراتها: «لم أعرف نفسي يومًا خارجَ الكتابة»، هذه الكتابة الهويَّة المعرِّفة هي التي تعرَّفنا بها إلى أمل: الكاتبة القاصَّة الروائيَّة.. والسيناريست – أخيرًا – التي قدَّمت للمكتبة السرديَّة ستَّة إصدارات ابتدأت بعمل قصصيٍّ هو (وحدي في البيت) عام 1999م، ثمَّ كانت رحلتها مع السرد الروائيِّ عام 2004م عبر (روحها الموشومة به) الرواية الفائزة بجائزة الشارقة للإبداع العربيِّ، وبعدها (كائنات من طرب)، ثمَّ (غوَّاصو الأحقاف) التي صدرت عام 2016م، وهي الرواية التي احتلَّت موقعًا في القائمة القصيرة لجائزة الشيخ زايد للكتاب عام 2019م.
عادت أمل إلى عالم القصة عبر مجموعة (الفتاة التي لم تعد تكبر في ألبوم الصور) عام 2019م. وفي عام 2021م صدرت روايتها: (حُجرة).
وفي تجربة جديدة قدَّمت للتلفزيون السعودي مسلسل (الزاهريَّة) سردًا مختلفًا لإنسان الصحراء وعوالمها التي بها فُتنت وفَتنت!
- أستاذة أمل: الكتابة – والكتابة الروائيَّة على وجه الخصوص – رحلة للعقل الكاتب؛ فانتظام الأفكار والاشتغالات المتتابعة التي تبذلها المخيِّلة السرديَّة ثمَّ تترجمها اللغة تعرِّف بهويَّة العقل السارد، وترصد تحوُّله وتطوُّره.
* اليومَ حين تُلقين نظرةً على تدوينك الروائيِّ منذ العمل الأوَّل الذي أكمل عامه العشرين، حتى العمل الأخير (حُجرة)، كيف تصفين هذه التجربة؟
أظن أني قلت في موضع ما إن بطلة روايتي الأخيرة الشابة الوحيدة في بيت طيني في أوائل السبعينات الميلادية والمصابة كما يبدو بالشيزوفرينيا أقرب لي شخصيا من وسمية الشابة المبدعة المعاصرة المثقفة التي تتلمس دربها في عالم الكتابة وتنشر الصحف نصوصها الأولى تباعا.
ماذا أعني بهذا؟ ما علمتني إياه الكتابة منذ عشرين عاما وأكثر أنها اغتراف من الروح، ونحن نجيده بالصدق أولا وبالجرأة ثانيا، ونجيده كلما تراجع قلقنا أو شغفنا بالتعبير عن آلامنا وطموحاتنا الشخصية وتواضعنا لنضع أنفسنا في قلب جرح الإنسانية مع الحرص على أن تكون بذرة النص أصيلة وحميمة ومن أرواحنا.
قد أبدو واثقة جدا وأنا أقول ذلك، هذه الثقة منبعها أني الآن أكتب عن النصوص من خارجها، أما في لحظة الكتابة ذاتها فستتلاشى كل هذه الثقة واليقينية وتبقى أشباح المخاوف من اقتحام عوالم الكتابة التي تصبح مجهولة أكثر كلما طال الغوص فيها.
الكتابة انعكاس كاتبها من ناحيتين: أفكاره (جزءًا من هويته) وأدواته.
ومع صعوبة فصل الاثنين إلا أننا نستطيع القول إن التمكن من الأدوات يجب أن يحرر مساحات أكبر من هذه الهوية ويظهرها.
دعيني - عكسًا لتتابع السيرة الروائيَّة – أقف عند عملك الأخير (حُجرة)، وهو العمل الذي صدر عام 2021م، وتكوَّن في رحم زمنٍ صعبٍ هو زمن (الجائحة). عمل عميق غوَّاص تذكِّر الحجرة فيه بالحجر والحواجز والقيود والعزلة.
قرأت في حوارٍ سابقٍ معك رغبةً قديمةً في دراسة (علم النفس)، وهي رغبةٌ لم تتحقَّق لكن بدا أنَّ هذه الرغبة كانت تلحُّ في حضورها منذ السرد الأوَّل (روحها الموشومة به)؛ فهناك محاولة القبض على مضمرٍ لا واعٍ عبر الأحلام وتفكيك الرموز.
* ثمَّ في الاقتراب من مريم في (حُجرة)، الدخول في الشخصيَّة ليكون السرد مراياها الكاشفة، والعين التي تقرأ متاهات العقل المضطرب. ما الذي يحتاج إليه السارد كي يعبُر – كتابةً – هاتين الأرضين الزلِقتين: النفس والعقل؟
تصفين الكتابة هنا ربما أفضل مما قد أصفها؛ هي أرض زلقة. في الطفولة يكون الانزلاق والتعثر والسقوط أجزاء من الروتين اليومي، ونكبر ونتماسك وتثبت خطواتنا فتغدو خشية السقوط (ماديا أو معنويا) فكرة مرعبة ويتضخم الرعب منها كلما زاد زمن الثبات.
نحن الكتاب علينا أن نحافظ على لياقة السقوط..
* هل على الروائيِّ أن يتبنَّى قضيَّة كبرى تنتظم تحتَها أعماله؟ وتحقِّقها في تسلسل قد يكون واعيًا أو غير واعٍ وهو يسرد مواليًا إنتاجه؟ أسأل لأ نني أجد في حوارات وقراءات في دائرة أدبك قطعًا بانتماء سردك للهويَّة النسويَّة.
وأراك في الوقت عينه تقولين: «أنا لست كاتبة القضايا المجلجلة ولا أريد أن أكون»، هل من قضيَّة (غير مجلجلة) يحملها سردك الروائيُّ؟
أحاول أن أقتل الانشغال بالقضايا ليخلو لي وجه النص. ستتسلل القضايا للنصوص لا مفر فأنا ابنة بيئتي وما سيؤرق أيامي سيصبغ أعمالي، لكن الإخلاص لها برأيي خطيئة فنية قد نقترفها تحت إغراء أن نكون صوتا لشرائح مجتمعية معاصرة، وهذا سيرفع الأعمال الفنية قليلا (عند غير أهل الفن ومؤقتا).
من ناحية أخرى يجب ألا أغفل تأثر الكتابة بظروف البلدان التي يعيش فيها الأدباء، فإلحاح القضايا الاجتماعية والسياسية يتناسب عكسا مع مساحات الحرية والعدالة الاجتماعية في دولهم. هي ضريبة يدفعها الكاتب باعتباره «مؤقتا» ابن مجتمعه، فإما أن يكون المناضل حامل مشعل القضايا على حساب فنه، أو يكون الآبق الذي ستعاقبه المجتمعات المقموعة بتجاهله «مؤقتا أيضا».
لذا على الكاتب أن يكون لاعب سيرك على خيط رفيع فوق واقعه اليومي، وعليه أن يلتقط من الواقعي ما هو دائم ليشتغل عليه.
* يحدِّد المكان اتجاهات السرد في كثير من الأحيان، وفي رواياتك مكان واحد يحضر بتنويعات سرديَّة متباينة، وفي مواقع زمنيَّة مختلفة؛ مكان مصبوغ بلون العموم: هو الصحراء والرمل والديرة.
لِمَ تتحرَّك أمل – حصرًا – في هذا الفضاء المكاني؟ وكيف حقَّقت الروايات الأربع تنويعًا ماهرًا متجدِّدًا داخل هذا الإطار المكانيِّ المتكرِّر؟
ألا يفعل ذلك كل الكتاب؟!
أنا أتحرك فيما أعرف.
عالم السرد أرض معادية، كل ما فيها مصمم ليسلبك مهارتك.
والقارئ ذكي يكشف الكاتب حين يخوض فيما لا يعرف.
وما أحاوله تقليل مساحات المجهول لدي بخوض معاركي على أرض صلبة.
ومع ذلك فقد حاولت الخروج من الصحراء والديرة في مراوغات نادرة في القصص القصيرة وقد أحببت النتيجة أيضا.
في بعض قصصي القصيرة خرجت قليلا: الفتاة التي لم تعد تكبر في ألبوم الصور/ الجريمة الكاملة/ الدفتر، كلها تقع في مدن صغيرة في الولايات المتحدة الأمريكية. لي ثلاث قصص أخرى على الأقل وقعت في الرياض أو الطائف مثل مهمة رسمية.
لكني إن خرجت عن مكاني المألوف فلن أخرج بدون ربعي (شخوصي الأليفة) فأبطال القصص هذه لحمهم وشحمهم وألسنتهم من الديرة.
الرواية هي فنُّ الصبر والاحتمال والمزاولة والمعاشرة والاستقراء والتتبُّع والتراكم. وفتنة الحكي تكمن في استهلاك الزمن لحفظ الزمن، وكأنَّما هي عملية استبقاء بالإفناء.
الكتابة عن الأحوال والناس والأمكنة في (غوَّاصو الأحقاف) – مثلًا – يستلزم قاعدة مرجعيَّة تبني الرواية على أساس من الحقيقة التاريخيَّة دون أن تجفَّ ساقية السرد.
من أين تحصل أمل على القاعدة المرجعيَّة لسردها التوثيقيِّ للمكان والموروث في أزمنة رواياتها المختلفة؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال سأقول أولا إن عندنا تقصيرًا شديدًا في توثيق تاريخنا الشعبي بتنوعه الهائل، واليوم مع كل الجهود المؤسسية والفردية للتقييد والتسجيل لا زال الشفاهي منه كبيرا جدا ومهددا بالتلاشي أو حتى بالتحريف غير المقصود في أحيان كثيرة نتيجة اجتهادات من يجمع تحت سطوة إحساس جديد في السعودية تجاه عاداتنا وعلاقتنا بديننا وتاريخنا السياسي.
هذه مخاوفي الكبرى حين أفكر في الموروث وتتعاظم المخاوف حين أفكر في موروث منطقتي تحديدا وهي مهمشة أكثر ومجهولة والجهود من أهلها لحفظ تراثها أقل.
هذه الهواجس تجعلني أحيانا أشحن ما أكتب بتفاصيل هدفها التأريخ لا الفن، وأعي ذلك وأخشى من رقيبي الفني الداخلي حين يرغب في حذفها.
ربما هذا كلام له علاقة بالسؤال السابق أكثر مما له علاقة بهذا المحور، ولكن سؤالك عن التتبع والاستقراء استدعى ذكره.
في الوقت الذي لا أكتب فيه أكون مشغولة بالبحث، بالتقصي، بحلب ذاكرة كبار السن ما هشّت ولانت ودرّت.
حين يسحرني مشروع جديد لأكتبه سأقرأ الكثير حوله، وفي مرحلة غالبا في منتصف كتابة المسودة الأولى سأتوقف أيضا وأعاود القراءة والبحث، وأفعل ذلك باستمتاع لا يقل عن متعة الكتابة.
سيل القراءات واللقاءات والحوارات مع الناس قد لا ينصب منها في النص إلا القليل، وسيبقى تاليه بانتظار مشاريع أخرى تستثمره.
الكتابة صبر، صبر على النص يتخلق، وصبر على إلحاح الحكايات غير الناضجة ومهادنتها لتظل في الذاكرة والاهتمام لمشاريع أخرى.
* تجيد أمل نحتَ اللغة بإزميل معناها السرديِّ.
في رواياتك وسردك عامَّةً لغة تعيد اختراعَ نفسها؛ وفاءً لصورة الناس والمكان، والتصوُّر، ولإحداث تلك الملامسة اللازمة للذائقة، ولخلق بريق الدهشة في الوعي؛ فليست الرواية مشروعًا فكريًّا وحسب، بل هي أيضًا مشروع لغويٌّ، وجزء من امتثال لغتك للمعنى هو هذا التطعيم بالمحكيِّ: مثلًا وشعرًا ودعاءً وتعبيرات قارَّةً في الوجدان المحلِّيِّ.
أعرف أنَّ اللغة نصيب متراكم من معرفة، وموهبة في التصرُّف، لكن أين يمكن سرُّ الوفاء بالنسيج اللُّغويِّ اللائق برواية ما؟
هذا أصعب ما في الكتابة، مشكلتنا مع اللغة العربية أن لنا لغتين، هذه الرسمية الثرية التي تشعرني وأنا ألعب معها أني أخلقها في اللحظة التي أنظم جملة بطريقة لم أسمعها من قبل، أو أضع كلمة في موضع جديد علي أنا على الأقل..
اللغة التي لو لم أكتب بها ما فُهِمت خارج دوائري الصغيرة، ولدي هذه المحلية اللذيذة لغة القلب لغة الأب والأم، اللغة التي أعشق بها وأغضب بها وأحلم بها، لذا فأنا في ورطة أثناء الكتابة، كتابة مشاعر شخصياتي وأتمنى لو أجعلها أصدق.. فأحد شواغلي الكبرى تقريب المسافات بين اللغتين، وأنتهي دائما بتطعيم الرسمية بالمحلية في مواضع صغيرة أحب أن أعتقد أنها مدروسة، وأتمنى لو أصل لمرحلة أشعر بانسجام الاثنتين داخل النص.
- تظهر شكوى دائمة من فقر الكتابة الدراميَّة أو السينمائيَّة المحلِّية. عملك التلفزيونيُّ الأوَّل: (الزاهريَّة) يردُّ على هذه الشكوى؛ فالأمر ليس فقرًا في الكتابة بل يكمن الفقر في نقص الاكتشاف والبحث، والاستسلام للمألوف القريب.
كتابة السيناريو حالة مغامرة أقدمت عليها أمل، لكنَّها مغامرة عادت إليك بمردود ثناء مشجِّع، أقول في نفسي: (هذه صيغة ناجحة لاستثمار السارد أدواته، ووضعها على خطٍّ آخر: السرد عبر الصورة والمشهد المرئيِّ والصوت والحركة).
* لماذا كانت هذه الكتابة المختلفة؟ وهل هي بداية مسار إبداعيٍّ في تجربة أمل الفاران؟
أبسط إجابتين صادقتين ولا تتعارض: رغبتي أنا أمل محبة التلفزيون في مشاهدة عمل يشبهني.
ورغبة أمل الكاتبة في مصدر دخل يفرِّغها أكثر لكتابة الأدب، وهذا ما ستقدمه كتابة الدراما.
كتبت (الزاهرية)، وأحببت التجربة بكل ما ظهر لي من تعثر وقصور خطوتي الأولى فيها، وأنا الآن أعيدها وأعيدها وقد تراجع السببان الأولان لصالح أهداف فنية أكثر.
وهذا يشبه – إلى حد ما - بداية الاشتغال بكتابة القصص.
* التفصيلات هي هبة الرواية للقارئ.
في سردك تفصيلات مكتوبة على نحو محسوس جدًّا، تبدو رواية (غواصُّو الأحقاف) مثلًا كاحتفال للحواسِّ: هناك وسوسة حليِّ النساء، وروائح الطيب، ورقص النخل، وهدير الماء، وألوان المساكن والملابس، ورائحة الأطعمة النافذة من السطور.
هذا الإغراق المحبَّب الذي يفضي إلى المعايشة هو توقيع سرديٌّ عند أمل يُراوح حضوره بين الكثافة والمحدوديَّة: ما الذي يقرِّر حضور التفاصيل في هذا السرد أو ذاك؟
أحب التفاصيل على خطورة استخدامها.. أحبها من قراءاتي الأولى والتي صادف أنها كانت لأعمال القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، والتي كانت ضمن تدفقها مغرقة في تفاصيل بيئاتها، مسترسلة في وصف الطبيعة، كنت أدخل من خلالها عوالم سحرية وشديدة الواقعية في خيالي، مع أنها تتحدث عن بلدان لم أحلم حتى بزيارتها.
في الغواصين كان – ما وصفت أنت انطباعك عنه بكرم بالغ احتفالا للحواس – ضرورة من وجهة نظري فأنا أريد للقارئ أن يعيش عالما تلاشى كله اليوم، ولن يدرك فرادته إلا بالتفاصيل، وساعد على ذلك كون الرواية قالبا رحبا.
* ثمَّة مسألتان تاليتان للكتابة تتصلان بالوصول، وبلاغ الآخر: القارئ. الأولى مسألة النشر: وهي قضيَّة أحبُّ التركيز عليها؛ لأنَّها هاجس الكاتب المتمرِّس عامَّةً، وهي أيضًا حاجز الكاتب الناشئ، بعد تجربة منافذ نشر مختلفة.. كيف تقوِّم أمل تجربة نشر أعمالها وتوزيعها؟ المسألة الثانية هي مسألة بلاغ الآخر المختلف لغة وثقافة، وأعني بذلك موضوع الترجمة: هل تشغلك مسألة وصول تدوينك الروائيِّ إلى قارئ بلغة أخرى؟
دعيني، أستاذة أمل، قبل مغادرة هاتين المسألتين أشير إلى مسألة شائعة ومستقرَّة في الثقافة العالميَّة، وهي وجود (وكيلٍ أدبيٍّ) يعنى بالممارسات الإداريَّة والترويجيَّة تلك التي قد تخفى على الأديب أو لا يجيدها.
وأنت روائيَّة متمرِّسة ذات تجربة في عوالم النشر والإعلام، هل غدا هذا الدور ضروريًّا لتحقيق تفرُّغ الكاتب، وإبعاده عن قلق النشر ومتاعبه؟
- لا يكتمل عمل إبداعي إلا بين يدي قارئ، فالنشر فكرة تلح حتى قبل الكتابة، ونشر الأدب إذا ما قارنّاه بنشر أعمال فنية أخرى عملية مرهقة طويلة وتقل جدواها المادية كلما قلت شعبيتها.. في البلدان العربية ومع أعداد قراء أقل من متوسطات عالمية ومع ضغوط معيشية واقتصادية ومع سوق نشر يشبه عشوائيات أسواقنا ليس نادرا أبدا أن تفشل أعمال كثيرة جيدة في النشر ناهيك عن الانتشار.
هذه قضايا في قضية، وسأحاول التفصيل ما استطعت..
أولا – أظن إني كنت ولا زلت محظوظة مقارنة بغيري، جرّبت طباعة أول أعمالي وأنا في العشرينات طباعة شخصية وكانت غلطة تعلمت منها بسرعة ولم أكررها، وبعدها دخلت من الموضع الأصح، فالطباعة الشخصية قرار سهل للناشر، مال سهل، حتى لو راكم النسخ المطبوعة في مخازنه فلن يتضرر (فقد حصل على مقابل جهده مقدما).
تجربة نشر العمل الأول كانت الأصعب، ومع كل عمل جديد يبدو أن الناشرين يتخذون القرارات بشكل أسرع، لا لجودة العمل بل لأن الناشر لم يعد يتعامل مع اسم مجهول. عقود النشر شبه الموحدة تقتل أي مناورات تفاوضية من الكتّاب مع دور النشر.
ثانيا – الترجمة أمر لم أحرص عليه من قبل، لقناعة بأننا حتى اليوم ليس لدينا ما سيغامر الآخر بوقته وماله لمطالعته، ولكن في السنة الأخيرة جاءت مبادرة هيئة الأدب والنشر والترجمة لترجمة أعمال سعودية منتقاة للغات العالم، وأملي في التجربة منصب على أن التجربة قد تفتح شهية الآخر ليقوم بالخطوة الأولى لجلب أعمالنا لثقافته بقراره الذاتي، بتحمله لمسؤولية القرار، ولعلك ترجعين لكلامي عن مغامرة الناشر حين يطبع عملا جديدا، لأنه يراهن بماله، فأنا أعتقد أن اللحظة التي سيخاطبني فيها ناشر غربي راغبا في ترجمة عمل لي سيكون إقرارا مسبقا منه بأن النص يستحق – من وجهة نظر جديدة – أن يصل لقارئ آخر.
أما الشق الثالث وحديث الوكيل الأدبي فإلى حد الآن لا يبدو أن أحدا نجح، ولا يبدو أنه قد وُلد فينا وكيل شغوف يؤمن بما يفعل ويحارب لأجل نص جيد.
الموجود وسيط يطيل خطوات التواصل بين الكاتب والناشر ويأخذ حصته من رزق الكتب الشحيح.
* يُحدث العنوان (غواصُّو الأحقاف) ارتباكًا عند القارئ في أوَّل أمره.
ويلد عنوان (كائناتٍ من طربٍ) سؤالًا من قبيل: أين هو هذا الطرب في الرواية؟
لا يحدث هذا مع (حجرة)؛ إذ هي حاضرة بالتفصيل والرسم السرديِّ الدقيق إلى حدِّ اللمس والشمِّ والشعور.
* كيف تأتي هذه الاختيارات العنوانيَّة للرواية عندك؟ وهل تخضع العنونة لاشتراطات سوى الدفع الفنِّي الخالص بها إلى واجهة الرواية؟
- لا أعرف اشتراطات العنونة، ما أعرفه هو أن العنوان يتخلق في مرحلة ما بين المسودة الأولى للعمل ومنتصف المسودة الثانية (هكذا تحصل الأمور معي دائما).
(كائنات من طرب) كان اسمها الأولي (عامر) باسم الشاب الضائع، وحين استتمت المسودة وبدأت التحرير تذكرت أني أكتب عن ديرتي السليل ولم أسمّها كالعادة فتذكرت الصورة النمطية عن الدواسر بأنهم شعب الطرب فقررت أن يكون العنوان نسفا للفكرة، وتلاعبا بمعنى الطرب الذي ورد في لسان العرب أنه خفّة تعتري عند شدة الفرح أو الهم.
(روحها الموشومة به) كان اسمها (خمسة) على عدد الفتية المحصورين في حلم وسمية الأول والذي فسرته الدكتورة منال بأن حياة البطلة مختطفة من خمس حيوات سابقة.
رواية (غواصو الأحقاف) أظن أنها ظلت بلا اسم حتى نهاية المسودة الثالثة.
(حجرة) انكتبت خلال شهر، وفي الحجر، وجاء اسم حجرة قبل اكتمال العمل، كنت قد أنهيت نصف الفصول ثم قفزت للفصل الأخير، كتبته وبكيت ثم كتبت العنوان، وعدت أكمل العمل.
الكتابة تجريب مستمر لا قواعد ثابتة فيه إلا كسر القواعد، بعض قرارات الكتابة تأتي واعية جدا وبعضها يفرضها العمل، والناشر بالطبع قد تكون له كلمة.
فأنا أتذكر حين كنت أتحدث مع صديق ناشر عن (كائنات من طرب) قبل نشرها أخبرته أن العنوان الحالي (عامر)، قال إنه عنوان غير جذاب، وربما كان هذا أحد الأسباب التي جعلتني أقرر تغييره في تلك المرحلة.
أعرف أنَّ حادثة إنشاء نصٍّ تقع في منطقة كثيفة متمازجة؛ ولا إجابة سهلة عن السؤال: (كيف؟) حين يتصل الأمر بالإبداع!
لكنَّ تعدُّد وجوه السرد عند أمل يفضي إلى سؤال عن كيفية إدارته في أعمال وافرة الشخصيَّات كـ(غوَّاصو الأحقاف) و(كائناتٍ من طرب)، أو كيفيَّة تقرير تنويع ضمائر الحكي في رواية (روحها الموشومة به)، أو المراوحة بين سرد الداخل والخارج في توازٍ دقيق في رواية (حجرة).
- بعد القليل من الكتابة ستتضح قليلا الصورة، ستجيب الأسئلة عن نفسها بنفسها، وسنصل للمرحلة التي تتمرد فيها بعض الشخصيات أحيانا أو يفرض حدث نفسه بإلحاح، هذي مؤشرات على أن عمارة النص بدأت تتضح وتتماسك..
يحدث هذا كله في الموضع الذي وصفته أنت بالمنطقة الكثيفة المتمازجة، ويكون دور خبرتي أنا الكاتبة في استحسان هذا الخيار أو ذاك مع عدم الالتفات للخيارات الأخرى بعد قطع مسافة في الكتابة.
* وربما يحسن عطفًا على السؤال الآنف أن نسأل: لِمَ جرى محو علميَّة شخصيَّات (حجرة)؟
مع أنَّ أمل كانت تعلِّم الشخصيَّات – على كثرتها في سرودها الأخرى –: أسماء وألقابًا تعلِّقها في وعي القارئ.
* يظهر ابنا الأخت في دوران مؤثِّر يحيط بالبطلة (مريم)، لكنَّهما ابنا الأخت وحسب. من أين أتى هذا التجهيل؟ هل نبع من ضرورة سرديَّة؟
إجابات متعددة على هذا السؤال ولا جواب واحد إن سمحت لي.
ربما كنت أريد أن أجرب ما فعله ساراماغو في (كل الأسماء) ثم بشكل أبرع في (العمى) حين خلق عالما متكاملا ومحا أسماء شخوصه.
ربما أردت وصف الشخصيات من داخل القليل الذي ينسرب بسرعة مخيفة من عقل مريم، فحتى الأشخاص القلة حولها لا تتذكر أسماءهم.
في الغواصين لا يمكن تخيل رسم ثلاثين شخصية بلا أسماء، وكان علي إخلاصا للتاريخ أن آتي بهم بكل الأسماء التي يحملونها فالشخص له اسمه المفرد، ويكنى باسم أبيه وينسب للقبيلة، ويلقب بلقب سوء واحد على الأقل في بيئة معادية شرسة، كان يجب أن يكون كل هذا حاضرا في مبنى العمل.
* يقول الكتَّاب دومًا: إنَّ الجمهور القارئ الواعي المرحِّب الشغوف المنتظِر هو الجائزة الكبرى، لكنَّ الجوائز المؤسساتيَّة تمنح تقديرًا يقوم على قاعدة من التحكيم والوزن النقديِّ. تجربتا فوز وترشيح مهمٍّ.. ماذا أضافتا إلى مسيرتك الروائيَّة؟
أضافت أمرين: تقدير عند من يحتاج أن تقرر له الجوائز والترشيحات من يستحق القراءة والنشر والترجمة.
ومكافآت مادية (أشرت سابقا لفائدتها) لكني أفرح بالجوائز وسأفرح بما قد يأتي منها لاحقا، فأحد غايات الكتابة الأنانية اللذيذة هي أن يقال لنا إننا أحسنَّا.